هو باعث النهضة في حياة الرهبنة القبطية كأول جامعي حاصل علي بكالوريوس الصيدلة ويتجرد من زخارف الدنيا ويختار حياة الكهوف والأديرة عام 1948، وعاش بعيدا عن الأضواء ليحولها إلي منارات روحية يقصدها الجامعيون الراغبون في الدخول للرهبانية، وتتلمذ علي يديه الكثيرون أشهرهم الأب انطونيوس السرياني (البابا شنودة) والذي اختلف معه فيما بعد في محطات كثيرة، أبرزها اقترابه الشديد من الرئيس الراحل أنور السادات عندما استدعاه عام 1981 حين غضب من البابا وحدد إقامته، وليعرض عليه أن يكون بابا للأقباط بدلا من شنودة لكنه رفض بعد أن طلق الدنيا من سنوات طويلة! إنه صديقي القديس الراحل »متي المسكين« الذي رحل عن دنيانا في 8يونيو 2006 عن عمر يناهز 87عاما بعد أن ترك ذخيرة حية من المؤلفات والمراجع عن الحياة الروحية والثقافية بلغت حوالي 60كتابا عصريا.. تعرفت عليه في بداية الثمانينيات عن طريق صديقه أستاذ الجراحة القدير الدكتور فتحي اسكندر وكانت عيادته بوسط البلد، لكنه كان مالكا لمستشفي خاص بالمهندسين، وكنت في ذلك الوقت أعمل بالقسم العلمي تحت رئاسة الدكتور رفعت كمال نائب رئيس تحرير المجلة يرحمه الله، وقد عرفني علي الدكتور فتحي الذي كنت أقصده بعيادته في حالة استطلاع رأيه حول إحدي القضايا الطبية، كلما اقتضي الأمر ذلك، وبمرور السنوات أصبحنا أصدقاء رغم الفارق العمري بيننا إذ يكبرني بأكثر من عشرين عاما. وحدثني الدكتور فتحي اسكندر عن هذا الراهب الأسطوري في الفكر والعلم والتنوير والذي ارتقي بالرهبنة من العموم إلي الخصوص، حتي أصبح قدوة ومحط أنظار لآلاف الأقباط والمسلمين أيضا الذين يزورونه فني ديره بوسط الصحراء بوادي النطرون »دير الأنبا مقار« من مصر والعالم، بل وله »كرامات« ويتلمسون منه البركة لاحتقاره الدنيا واختياره التقرب من الله عن طريق الزهد والتقشف بمحض إرادته، فقد كان شابا بالغ الثراء من مواليد دمنهور عام 1919، وتخرج في كلية الصيدلة، وكان يملك صيدلتين وأملاكا وسيارة وحينما أراد اختيار طريق الرهبنة باع كل ما يملك عندما كان عمره 29عاما، ووزع كل الثمن وما يملك من متاع علي المحتاجين والفقراء، واحتفظ لنفسه بعشرة جنيهات فقط هي أجرة سائق الأجرة الذي تسلمها عند باب الدير، ويدخله الأب متي المسكين نظيف الجيب والقلب ليختار التعبد في الدير المقفر يناجي الله سبحانه وتعالي وكل زاده وطعامه الماء والخبز والملح! الحقيقة لقد زاد فضولي للتعرف علي هذا الراهب الزاهد، ووعدني الدكتور فتحي باصطحابي معه عندما يزور الدير، وحدث عندما وجدت نفسي أمام هذا الراهب بملابسه السوداء البسيطة النظيفة، والعطور تنساب بأريجها الفواح حوله، وأهم السمات التي تغطي وجهه الوقور ذلك التواضع الفطري الذي وصفه القرآن الكريم: (منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون)، كما جذبني حديثه الطيب العقلاني، وعندما فاتحته (بعد الغداء) عن العلاقة بين الإسلام والمسيحية تحدث عن الفارق بين الديانتين بأدب شديد واحترام بالغ، وترك خطوط الخلاف والفوارق بينهما، وركز علي أسلوب التعامل بين المسلمين والمسيحيين فذاك أفضل جدا والتي أساسها التقدير المشترك القائم علي الخصوصية والمحايدة، فلا تمس قدسيته أي ديانة وطقوسها بأي حال من الأحوال، وخرجت من عند هذا القديس مبهورا بشخصيته وروحانياته وطيبته، وكانت مئات من الناس تحيط الدير للزيارة.. ومن حسن الطالع أن الدكتور فتحي اسكندر دعاني مرة ثانية للقاء القديس متي المسكين والتي حاطها بعض الخصوصية لسبب واحد أنها كانت داخل مستشفاه بالمهندسين للعلاج، وكان الحوار هذه المرة عن السبيل للاقتراب من الله سبحانه وتعالي والتجرد من أي هوي للإخلاص في عبادته، وفي نهاية المقابلة رحب جدا بزيارته في الدير. لقد بهرتني مرة أخري شخصية هذا الناسك العابد في قلب الصحراء وأنا أقابله مرات متعددة في ديره، والتي رافقني في إحداها الأستاذ جلال عيسي رئيس تحرير آخر ساعة الأسبق (رحمه الله) بعد أن حكيت له عن هذا القديس الكثير، حتي إن الأستاذ جلال قال لي في رحلة العودة إن ما يحفظه هذا القديس وما يستشهد به من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة قد لا يحفظه مسلم! وكنت أتزود من هذا القديس في كل مرة أزوره هذا التقرب إلي الله عن طريق العمل الصالح وعدم إيذاء مشاعر أحد الناس بالوجدان الصادق والمشاعر النبيلة فكلما ضاقت بي الدنيا زرته، وذات مرة كنت مدينا بنذر وأردت أن أوفيه، وعندما عرضت ذلك علي القديس أخبرني بأن هناك صاحب حاجة جاء للدير فأخبره الأب متي المسكين بالانتظار حتي يأتي من يريد التصدق، وعندما سألت هذا المحتاج عن المبلغ الذي يلزمه وجدته نفس الرقم الذي قررت التبرع به، ولم يكن القديس يعلم بموعد زيارتي أصلا! وتستمر حياة هذا العابد الناسك بعيدا عن الناس والأضواء والسلطة والحكم، إلي أن تأتي أحداث سبتمبر 1981 واعتقال المعارضين السياسيين وكان منهم علماء مسلمون، ورموز أقباط وعلي رأسهم البابا شنودة الثالث بطريرك الكرازة المرقسية، وتم تحديد إقامته، وفكر الرئيس الراحل أنور السادات في عزله، وفكر كثيرا في اختيار بابا آخر بديل، وهداه فكره وأجهزته إلي هذا القديس الذي يحظي بحب شديد من الأقباط، وخصوصا أنه رمز للتنوير ويعرف جيدا حدود وسلطات الكنيسة وقوانينها بعد أن دخل في مواقف خلاف كثيرة من قبل مع قداسة البابا شنودة من ناحية، كما أنه مقتنع بعدم اشتغال رجل الدين بالسياسة من ناحية أخري، وهذا يرضي السادات كثيرا. ودخل القديس متي المسكين في اختبار »دنيوي« خطير، لكنه نجح فيه بامتياز وانتصر إيمانه علي دنياه، فقد بعث في استدعائه الرئيس السادات، وعند خروجه من ديره والذي كان لا يفارقه أبدا إلا للضروريات العاجلة وأبرزها قصد العلاج للمستشفي، وجد علي أبواب الدير موكبا مهيبا من السيارات السوداء الفارهة، وما أن ركب أحدها حتي أحاطته أطقم من الحراسة والموتوسيكلات المزودة ب»السارينات« علي امتداد الطريق من وادي النطرون إلي القاهرة، وما إن وطأت قدماه أعتاب رئاسة الجمهورية حتي واجه عشرات الكاميرات من أجهزة الإعلام المختلفة تصوب عدساتها إليه، وقد فتح له الرئيس بذكائه المعروف ذراعيه لاستقبال حار! ثم فاتحه في الأمر الذي استدعاه من أجله: تتولي بابا للأقباط بدلا من شنودة، فرفض القديس متي المسكين هذا العرض، واقترح عليه تشكيل لجنة خماسية تدير شئون الأقباط خلال فترة بقاء البابا شنودة محددة إقامته بالدير.. وهكذا ظهر معدن الأب متي المسكين النفيس في زهد المنصب لأنه أصلا يكره كل مباهج الحياة، وعلاقته الخاصة بربه هي أقصي طموحاته في هذا الكون الرحب! انتقل القديس متي المسكين إلي مولاه في 8يونيو 2006، لكن البابا شنودة غاب عن الصلاة علي جثمانه استنتاجا أن علاقة القديس متي المسكين الخاصة بالرئيس السادات وقربه منه أغضب البابا شنودة، ولقد قضي القديس متي المسكين أحلي سنوات عمره في العبادة والنسك والابتهال والمناجاة والتقرب إلي الله. برحيل القديس متي المسكين فقدت صديقا رائعا فريدا من نوعه!