حفلت الزيارة الأولى للبابا شنودة لدير «أنبا مقار» بعد رحيل راعيه الروحى القمص متى المسكين، بالعديد من التفاصيل الملفتة، فالبابا الذى طلب من رهبان الدير إعداد عربة كهربائية حتى يتمكن من اجتياز المسافة من بوابة الدير إلى الكنيسة، أقبل لأول مرة فى تاريخ الكنيسة الحديث على تغيير «الزى الرهبانى» لرهبان الدير. «تغيير الزى الرهبانى» لدير «أنبا مقار»، ليتم توحيده مع بقية الأديرة جاء ليكون بمثابة الإعلان الختامى لانتهاء استقلالية دير «أنبا مقار»، تلك الاستقلالية التى طالما تغنت بها المعارضة الكنسية واعتبرتها نموذجا لما ينبغى أن تكون عليه الأديرة وفقا لنشأتها كحركة احتجاج علمانية مستقلة عن الكنيسة. البابا من جهته كان حريصا كل الحرص على تقسيم رهبان الدير، الخاضعين له والمستقلين عنه، على أساس الزى فقد حمل معه من القاهرة فى عربته الخاصة مائة وعشرين غطاء رأس تقليدى «قلنسوة مشقوقة» لعرضها اختياريا على رهبان الدير، فقبلوا ارتداءها، ضمانا لرضا البابا عنهم، باستثناء اثنين من كبار شيوخ الدير اختارا حياة العزلة. وبالرغم من رفض رهبان الدير على مدى نصف قرن، منذ عودة شيوخهم مع الأب متى المسكين من وادى الريان، ارتداء غطاء الرأس المشقوق المعروف ب«قلنسوة الأنبا أنطونيوس»، إلا أنهم هذه المرة قبلوا، وقد كان الرفض السابق علامة تفرد لرهبان أبوا أن يقبلوا الكثير من الحكايات الشعبية حول خوارق الرهبان الأوائل، التى كان يعتبرها المسكين وتلاميذه حكايات مدسوسة على التراث القبطى من عصور الظلام، فقد تأسست فكرة «قلنسوة أنطونيوس» على حكاية حول مصارعة أنطونيوس لأحد الشياطين فى الصحراء، المصارعة التى انتهت بتمكن الشيطان من شق غطاء رأس أنطونيوس. ثلاثة أشهر مضت على الاستقالة الغامضة للأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير منذ ستة عقود، كانت فترة كافية لتخفيف حدة هذا الغموض الذى أحاط الاستقالة، وأصبح تفسير المعارضة الكنسية للاستقالة هو الأقرب للقبول، فأنبا ميخائيل أقدم مطارنة الكنيسة وأعلاهم درجة، بعد البابا، لم يكن مستعدا للإشراف على تنفيذ قرار الكنيسة بإنهاء ما تبقى من استقلالية للدير الوحيد الخارج عن السيطرة الكاملة، بالرغم من أنه لم يكن على اتفاق كامل مع الراحل المسكين. وقد كان فقد نجحت الكنيسة فى السيطرة على أملاك الدير، ثم سيطرت على أغلب رهبانه أو أرغمتهم على الخضوع قبل حلول الذكرى الثالثة لرحيل المسكين بشهر. وبالرغم من أن مجلة الكنيسة الرسمية (الكرازة) ذكرت أن ثلاث فرق من الرهبان من ضمنها الراهب يوئيل والراهب إليشع (الذى يقود رهبنة شبه منفصلة فى وادى الريان) اجتمعت مع البابا، عقب الاستقالة مباشرة، لأكثر من ثمانى ساعات دون التوصل إلى نتائج، إلا أن توجه عشرة أساقفة على رأسهم البابا لتغيير انتماء الدير الأيديولوجى، وقبول الرهبان لهذا التغيير، بعد أسابيع من اللقاء تشير إلى غير ما قالته جريدة الكنيسة الرسمية. كتاب أصدره الدير منذ بضعة أشهر كان بمثابة بداية النهاية لاستقلالية الدير فلأول مرة منذ نصف قرن يصدر عن دير «أنبا مقار» كتابا تتصدر صفحته الأولى صورة للبابا شنودة، بالرغم من أن الكتاب كان هو «السيرة الذاتية لأبونا متى المسكين» والمعروف أن جميع إصدارات الدير والتى تعد بالآلاف طوال حياة متى المسكين كانت تتصدرها صورة للمسيح وأسفلها التعليق التالى «الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الأعظم، الأسقف الكبير ورئيس الأسقفية والأول فى طغمة الكهنوت ورأس الكنيسة» وهو التعليق المقصود بكل وضوح لتبرير الامتناع عن نشر صورة البابا بوصفه رئيس الأساقفة. منذ عدة أشهر كان أمرا مستغربا أن يأتى كتاب عن المسكين بعد رحيله تتصدره صورة البابا شنودة، وهو الأمر الذى وصفه حينها أحد كبار رهبان الدير بأنه «محاولة لتجنب غضب الكنيسة من الكتاب بعد رحيل من كان يملك أن يدافع عنا»، لكن استقالة أنبا ميخائيل ثم المقابلات السرية مع البابا ومن قبلها التغييرات الإدارية التى شهدها الدير وصولا إلى زيارة وفد الكاتدرائية وعلى رأسه البابا وفى عربته غطاءات الرأس كانت كفيله بدورها بالاجابة عن تساؤل الصورة الغامضة فى الكتاب المسالم. الكتاب المثير كان قد فضل السلامة من البداية فى أكثر من موقع لعل أبرزها كان فى طريقة عرضه لتجربة بيت التكريس فى حلوان عام 1960 والتى سببت انشقاقا عميقا فى الكنيسة بين مؤيد ومعارض حينها، حيث اكتفى بتعليق يقول: «على أن حركة بيت التكريس (التى شهدت بدايات البابا شنودة مع الكنيسة) توقفت بعد ذلك بسبب عدم ترحيب الرئاسات الكنسية بها»، تماما كما أصبح استقلال الدير مهددا إلى الأبد بسبب عدم ترحيب الرئاسات الكنسية به.