وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    سيناتور روسي: في غضون دقائق أوكرانيا ستكون بدون رئيس    فرنسا: ندعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومكافحة الإفلات من العقاب    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    تعرف على استخدامات شات جي بي تي    نتيجة الشهادة الإعدادية البحيرة 2024.. موعد الظهور وكيفية الحصول على الدرجات    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    وزير الصحة: القطاع الخاص قادر على إدارة المنشآت الصحية بشكل اكثر كفاءة    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    واشنطن: نرفض مساواة المحكمة الجنائية الدولية بين إسرائيل وحماس    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    الخميس آخر يوم فى الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تبشر المواطنين    وزيرة التعاون الدولي تُشارك في فعاليات المؤتمر الإقليمي للطاقة من أجل المرأة    اتحاد منتجي الدواجن: السوق محكمة والسعر يحدده العرض والطلب    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    إبراهيم عيسى: حادثة تحطم طائرة الرئيس الايراني يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    جدول مباريات الدوري المصري اليوم والقنوات الناقلة    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تُجيب وتكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعاً هيكل..
عبر الزمان والمكان
نشر في آخر ساعة يوم 22 - 02 - 2016

لم يستأذن الأستاذ.. غادرنا إلي «دار العودة» كما أراد أن يسميها ويكتبها علي جدار مقبرته.. غادرنا تاركا إرثا ثقافيا وبشريا جمعه خلال 70 عاما قضاها في بلاط «صاحبة الجلالة» وبين أروقة السياسة ولم يكن أستاذا فقط في مجتمع الصحافة بل كان أستاذا أيضا بين السياسيين المصريين والعرب والأجانب.
سيظل اسم محمد حسنين هيكل محفورا في ذاكرة كل من يمسك قلما أو يبدع فنا أو يحلل حدثا أو يصوغ فكرا أو ينحت مصطلحا، سيظل اسمه مقترنا بالخبر، فهيكل هو مرادف للخبر.. يلهث وراء المعلومة.. يحقق في كل حدث.. و مجازا يقرأ المستقبل.. أطلقوا عليه المحلل السياسي والمبدع والكاتب والمفكر والملهم للزعيم عبدالناصر وألقابا كثيرة أخري، لكنه كان يفضل دائما لقب «الجورنالجي».
وداعا أستاذ هيكل.. غاب هيكل فهل يظهر بعده أستاذ؟
يوم كان لقائي الأول بالأستاذ في »آخر ساعة«
هنا بدأت أحلام هيكل التي حققها في »الأهرام«
ماهي القوة الخارقة التي في مخ الإنسان ؟ هذه القوة التي تجعله في غمضة عين يخترق السنين والزمان والمكان ويحملنا إلي زمان مضي ومكان اختلف ؟ أكتب هذا بعد رحيل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل وعلي عكس الذين تسابقوا للكتابة عنه ، ورغم أنني رثيت العديد من الراحلين من خلال عمودي في الأهرام " مجرد رأي " إلا أن مشاعري لم تطاوعني علي الكتابة عن الأستاذ ربما إحساسا بالذنب لأنني كنت أول من كتب عن تدهور حالته الصحية فجأة تحت عنوان " ادعوا للأستاذ " بتاريخ 11 فبراير . ومن هذه النافذة عرف العالم عن الأستاذ لكنني لم أكن أتصور أن تأتي النهاية سريعا هكذا.
انطوت النفس علي ما بها من مشاعر إلي أن حدث أن اتصل بي الأستاذ محمد عبد الحافظ رئيس تحرير آخر ساعة الساعة الثالثة والنصف مساء السبت 20 فبراير ما إن سمعته يرجوني كتابة مقال عن الأستاذ حتي قلت صارخا: مقال عن الأستاذ.. أرجوك ارحمني.. ده أنا العمود في الأهرام مش قادر أكتب عنه ! قال الأستاذ محمد عبد الحافظ: أيوه ولكن آخرساعة لها وضع مختلف معك والأستاذ.
وبدون أن أدري فإنه ما أن ذكر كلمة آخرساعة حتي وجدت عقلي بسرعة الضوء يعود إلي 63 سنة تغيرت فيها دول وتواريخ وأشخاص .. فهنا في آخرساعة كانت شهادة ميلادي مع الأستاذ ..كان في ذلك الوقت في شهر مارس 1953 يرأس تحرير آخر ساعة . وكنت قد بدأت في يناير قبل شهرين العمل في مجلة الجيل الجديد التي تصدر عن أخبار اليوم وتولي رئاسة تحريرها الأستاذ إسماعيل الحبروك رحمه الله . في ذلك الوقت كنت قد قرأت للأستاذ هيكل لكنني لم أره، فعند دخولي مجلة الجيل كان موجودا في أمريكا لتغطية تولي الرئيس دوايت إيزنهاور رئاسة الولايات المتحدة . وهكذا لم تتح لي حتي رؤيته إلي أن حدث الأمر بمحض الصدفة الغريبة . فقد أجريت تحقيقا صحفيا صحبت المصور لتصويره لمجلة الجيل الجديد ، لكن قسم التصوير أخطأ ووضع الصور علي مكتب سكرتير تحرير آخرساعة الذي كان قد أنهي عمله في ذلك اليوم ( الثلاثاء ) وأغلق مكتبه ولن يعود قبل يوم الخميس . وسألت فعرفت أن هناك بابا يفصل بين مكتب الأستاذ هيكل وغرفة سكرتير تحرير آخرساعة. وآه يامخ كيف بهذه السرعة الخاطفة استدعيت مشهدي وأنا أطرق باب رجل مشهور لنا جميعا لم أكن قابلته لأقول له فور دخولي تسمح لي أدخل الأودة اللي جنبك؟ نظر لي بدهشة هادئة مستفسرا فشرحت له الأمر فقال اتفضل .
وخطوت ثلاث خطوات بالعدد فتحت باب سكرتير التحرير ووجدت مظروف الصور علي مكتبه بسهولة فسحبته وخرجت وأغلقت الباب خلفي وعدت متجها إلي باب غرفة هيكل عندما سمعته يقول لي : وريني . ولم أستطع بالطبع أن أعصي أمره . مددت يدي بالمظروف الذي فتحه وقلب الصور بسرعة ثم قال لي وكأنه يصدر حكما نهائيا : الموضوع ده تكتبه لآخرساعة . . تلجلج لساني بكلمة الأستاذ إسماعيل الحبروك ، فقال لي : خايف ؟ وآه من تصاريف القدر فمنذ هذه اللحظة رافقت الأستاذ 21 عاما من آخر ساعة إلي الأهرام وعندما خرج من الأهرام مغضوبا عليه من الرئيس أنور السادات تغلب الخوف علينا بعض الوقت لكن حبال العلاقة كانت أقوي ومن تلميذ للأستاذ هيكل ارتفعت العلاقة إلي صداقة امتدت إلي آخر أيام حياته اختلفت فيه مع آراء الأستاذ دون مواراة حول موقفه من الرئيس السادات بالذات .
أما آخرساعة فكانت بالنسبة لي سنوات النمو الصحفي ، وكنا الأستاذ محمد وجدي قنديل رحمه الله وأنا أول تلميذين في مدرسة الأستاذ الكبير. لكن ليس معني هذا أنه كان يقول لنا إفعل ولا تفعل ،فمثل ذلك لا يحدث في الصحافة وإنما يمكن أن يحدث مع بلية والمعلم . أما في الصحافة فعلي الموهوب أن يتعلم بالمراقبة . أن يحاول التسلل إلي فكر الأستاذ وعقله ويستكشف كيف يفكر . أن يدرس كيف صمم عمارة مقاله ، فالمقال مثل العمارة لها تصميمها وجمالها وتناسقها ، وقد كان الأستاذ الكبير مصطفي أمين يعقد اجتماعات شبه أسبوعية مع المحررين يتحدث فيها تاركا لمن يريد أن يتعلم أن يلتقط الرسائل دون أن يلقنه "مصطفي بيه".

ويا أستاذ محمد عبد الحافظ رئيس تحرير آخر ساعة، جزاك الله خيرا فقد استطعت بكلمة أن تعود بي في لحظة خاطفة إلي 63 سنة مضت أتذكرها تقريبا باليوم . مع كل أمنياتي الطيبة لك ولزملائك في المجلة التي كان الأستاذ هيكل رئيسا لتحريرها ومنها انطلقت شهرته وكون الأحلام التي حققها عندما تولي رئاسة الأهرام.
ورحل الأستاذ
وراحت مصر كلها تتذكر هذا المشوار الطويل الذي مشيه الأستاذ محمد حسنين هيكل - في رحلة صحفية فريدة قلما يجود الزمان بمثلها.. لكن الذي قاله ، وكتبه كل الكتاب الكبار عن القائد المعلم في دنيا الصحافة هو ما وصل إليه الأستاذ الكبير ثمار رحلته الطويلة.. أما أنا هنا فأتذكر معه أيامه الأولي في دنيا الصحافة والكتابة عندما لمع اسمه بوصول جمال عبدالناصر إلي سدة الحكم وبداية الرحلة التي قاما بها معا.. جنبا إلي جنب ومن نجاح سياسي إلي نجاح آخر- ربما حتي جاء يوم الانكسار.. عندما رحل عبدالناصر عن عالمنا ، وراح محمد حسنين هيكل يمشي وحده في مشواره الطويل بعد ذلك ليؤرخ لعصر من عصور الأمة العربية كلها من الصعب أن يتكرر.
كان اللقاء مع الكاتب الكبير في مكتبه «الدور الثاني» بدار أخبار اليوم في الساعة الحادية عشرة تماما من يوم السادس من أبريل 1956.. المكتب هو ذات المكتب حتي يومنا هذا - مكتب رئيس تحرير آخر ساعة.
في يوم الخامس من أبريل.. دق التليفون في بيت والدي -رحمه الله - وفوجئت بالوالد يدق بيده علي باب الغرفة التي كنت فيها ، أدون بعض أوراق في رسالة «بعدالجامعة» وأفتح الباب، ويقول الوالد : إنت تعرف يا ابني الأستاذ محمد حسنين هيكل؟ وأقول: لا ليه؟
-المتحدث يقول إنه مكتب الأستاذ هيكل!
كان هيكل في ذلك الوقت قد أصبح ملء السمع والبصر، فهو أقرب الكُتاب والصحفيين قاطبة إلي زعيم الثورة المصرية والعربية جمال عبدالناصر ، كما أصبح بطبيعة الحال أكبر الكُتاب والصحفيين العرب لأنه غالبا ما كان ينقل عن عبدالناصر أفكاره وآراءه ، وكان الاقتراب منه بمثابة الاقتراب من عبدالناصر وأفكار عبدالناصر..
أما مكتبه في أخبار اليوم..
فهو مكتب رئيس تحرير آخر ساعة الدور الثاني من مبني أخبار اليوم (6شارع الصحافة) وهذا الدور الثاني هو الدور الذي تحتله مجلة آخر ساعة وكذلك قسم التصوير الذي كان يرأسه في ذلك الوقت المصور الكبير الأستاذ محمد يوسف وكذلك حجرة ميشيل كنعان الذي أصبح بعد ذلك منير كنعان الفنان الكبير بعد زواجه من السيدة سناء البيسي.
المهم رحت أرد علي التليفون ، كان علي الخط واحد من سكرتارية الأستاذ وهما اثنان فقط الأستاذ محمد العزبي والأستاذ حمدي قنديل - لا أذكر علي وجه التحديد من كان منهما - المهم أنه قال: الأستاذ طارق فودة الأستاذ هيكل مع سيادتك.. وجاءني صوت الأستاذ وهو يقول: طارق عارف مين بيكلمك قلت: نعم يا افندم قال: عارف أنا مكتبي فين؟ فقلت طبعا في آخر ساعة يا افندم قال: يعني عارف طيب أنا مستنيك بكره الساعة 11 صباحا.
وفي تمام الحادية عشرة إلا خمس دقائق كنت أقف في مكتب السكرتارية في الصالة الأولي من آخر ساعة وكانت هذه هي صالة تحرير آخر ساعة وفي جانب منها - الملاصق لحجرة الأستاذ -كانت السكرتارية قلت: أنا فلان.. ووقف الأستاذ محمد العزبي يستقبلني ويقودني إلي حجرة الأستاذ علي بُعد خطوات قليلة ليدق الباب ويعلم الأستاذ هيكل بأنني قد وصلت، وقام الأستاذ الكبير يستقبلني وهو يقول والابتسامة علي وجهه طبعا مش عارف أنا ليه طلبتك، قلت: لا يا افندم قال: لأنك من ثلاثة أشهر عملت حديث جيد مع المخرج العالمي ألفريد هيتشكوك في مجلة اسمها أهل الفن الحديث كان كويس واحنا في آخر ساعة مجموعة قليلة لكن آخر ساعة أصبحت كما تعلم أهم مجلة في الشرق الأوسط ولازم تكبر وفكرنا في الشباب وقررنا إنك تكون إنت من أول الشباب إللي آخر ساعة حتضمهم إليها.. قلت: لكن يا افندم قال الأستاذ قبل أن أكمل: أنا عارف كل اللي أنت بتفكر فيه.. إنت حتبقي واحد من مجموعة آخر ساعة وده طموح كفاية.. ودق علي الجرس فجاء عبدالشافي - الساعي الخاص به - وقال له: نادي الأستاذ صلاح جلال - رئيس قسم التحقيقات في ذلك الوقت - وقال له: طارق معاك وحيبقي في رعايتك.. حاولت أن أتكلم لكن الأستاذ صلاح ضغط علي يدي وقال: تعالي بس معايا..
وفعلا ذهبت مع الأستاذ صلاح حيث كان وراح يشرح لي أنني في وضع جيد جدا أن الأستاذ الكبير قد اختارني بعد أن لفت نظره هذا الحديث الطويل مع أكبر مخرجي العالم في ذلك الوقت - ألفريد هيتشكوك - وأنني بذلك قد أصبحت عضوا في مجموعة الشباب الذين ينضمون إلي آخر ساعة، تلك المجلة العملاقة..
قيادة آخر ساعة
بدأت أدرك في ذلك الوقت الأسلوب الذي تعمل به آخر ساعة ، القيادة برياسة الأستاذ محمد حسنين هيكل ، وهيئة التحرير التي تتكون من : الأستاذ صلاح هلال مديرا للتحرير، وجميل عارف رئيس قسم الأخبار ، وفتحية بهيج مديرة قسم المرأة ، وصلاح جلال للتحقيقات ، ومنير كنعان المشرف الفني علي سكرتارية التحرير ، وسليم زبال وأوسكار متري سكرتيري التحرير ، والمحررين محمد وجدي قنديل، وصلاح منتصر ، وبعدهما حُسن شاه ، وفاطمة سعيد ، والفنان وليم مرقص ، وكمال الملاخ العالم الأثري ، ومهدي صادق للمجتمع ، وجليل البنداري لقسم الفنون ، وآخرين ليسوا بالعدد الكبير..

كان الأستاذ هيكل مشغولا بمقاله الأسبوعي وغير ذلك من الأعباء التي كانت تفرض نفسها عليه نظرا لقربه من الرياسة وصداقته بالرئيس جمال عبدالناصر ، وكانت آخر ساعة تعمل تقريبا- وحدها - بالتخطيط الذي صنعه لها الأستاذ هيكل ، لكن هذا لم يبعد هيكل أبدا عن مسئوليته فكان الاجتماع الأسبوعي في حجرته هو الذي يرسم خطوط العمل ثم يترك العمل بعد ذلك يمضي وحده بما خططه له وكان يشرف عليه إما صلاح هلال مدير التحرير وإما رؤساء الأقسام - أقسام الخبر والمجتمع وقسم المرأة وقسم الرياضة وقسم التحقيقات الذي كان يشرف عليه الراحل المعلم صلاح جلال.
وكان كل القادمين الجدد يتجهون أولا إلي قسم التحقيقات، وعندما تشتد أعوادهم قليلا فإنهم يتوجهون إلي مختلف الأقسام التي يحققون فيها وجودهم.
وأذكر أنني - وقد أرسلني صلاح جلال لعمل تحقيق صحفي وحديث مع أهم شخصية في هذا التحقيق وقد قمت به ، وراح صلاح جلال يقرؤه ، وقد أعجب به ، بعد أن قرأه سألني: سألته عن كذا؟ قلت لا، ولكني أستطيع أن أعود إليه أو أن أطلبه علي الهاتف فابتسم في وجهي وهو يمزق الموضوع كله وهو يقول: الصحفي مايروحش مرتين للمصدر.. وأسقط في يدي وعرفت أنني قد استوعبت الدرس (من أول مرة)!.. هكذا كان الأسلوب.

آخر ساعة في قمة الإعلام العربي..
هكذا استطاعت آخر ساعة الصعود فعلا إلي قمة الإعلام العربي فكانت وسائل الإعلام كلها في العالم العربي تنقل عن آخر ساعة ، حتي رأي جمال عبدالناصر ورأي الأستاذ هيكل أنه قد آن الأوان ليحتل الأستاذ هيكل أداة إعلامية أكبر ليتسع مجال الحديث ومجال الإعلام المصري في صورة أكبر ، حتي كان قرار عبدالناصر أن يتولي هيكل رياسة أعرق الجرائد المصرية: جريدة الأهرام أقدم وأعرق هذه الجرائد.
فقد كان الأخوان مصطفي أمين وعلي أمين قد طورا من صحافتهما أخبار اليوم والأهرام حتي أصبحا رقم واحد في الشارع المصري كما اشترك الرئيس السادات في تطوير جريدة الجمهورية التي حاولت تطويرها الثورة المصرية ، فهي تنطق باسم الجمهورية المصرية وهنا كان اتجاه الاستاذ هيكل إلي أن ينتشل الأهرام من الكبوة التي صارت إليها فيأتي بها من الحيز الضيق الذي وقعت فيه إلي مشهد أوسع..
آخر ساعة:
حجر الزاوية في الأهرام الجديد
وحان وقت الانتقال للأهرام. أراد هيكل أن يبعث في الأهرام روح الصحافة الجديدة ، لقد تدرب هيكل علي أيدي مؤسسي أخبار اليوم هذه هي الصحافة الجديدة ولايمكن أن يتم بث الروح في الأهرام الذي كادت أستاره تسدل لو لم يتم بث الروح الجديدة فيه ولاينكر الأستاذ أن ما تلقاه من صحافة وتجارب جديدة كان علي يد الأساتذة في أخبار اليوم، لقد تلقي الكثير من الدروس السياسية فيما عاشه مع السياسة المصرية - الحروب العربية وما أخذه من تجارب من الجيش المصري وما عاشه أيام الثورة قبلها وبعدها - لكن هذا كان لابد أن يقوده بما تعلمه من صحافة حديثة هو نفسه كان واحدا من تجاربها وخبراتها.. لذلك فقد قرر أن يحمل معه إلي الأهرام الجديد ما يستطيع أن يحمل من صانعي هذه التجارب.
نستطيع أن نقول: إنه نقل معه تجربة آخر ساعة اصطحب معه صلاح هلال وصلاح جلال وفتحية بهيج ومحمد يوسف (كبير المصورين) وكمال الملاخ وصلاح منتصر وآخرين من الشباب الذين أنبتهم داخل الأهرام ليكونوا رونقا للأهرام الجديد الذي أراد أن يخرج به إلي الدنيا الجديدة.
طارق فودة
»برقاش«.. تبكي الجورنالجي
علي مشارف قرية برقاش التي تبعد 35 كم جنوب الجيزة تطل مزرعة «محمد حسنين هيكل» بجدرانها المرتفعة وأشجارها الشاهقة. القرية التي ستظل مدينةً بالعرفان ل»الجورنالجي» الراحل الذي كان يفخرُ بها لكونها المكان الأقرب إلي قلبه، الذي كان سخياً مع أهلها ومدافعاً عن حقوقهم في الصحة والتعليم ليذكره الجميع بالخير.
أنشأ مستوصفاً طبياً ومكتبة عامة في القرية وساهم في بناء عدة مدارس
داخل مزرعة هيكل - التي تمتد علي مساحة 25 فدانا - يوجد تاريخ العالم، فمكتبته التي تعرضت للحرق علي يد أعضاء جماعة «الإخوان» الإرهابية تضم 18 ألف كتاب ومخطوطة نادرة، وهناك التقينا بعدد من أهالي القرية الذين كانت لهم ذكريات مع «الأستاذ» حينما كان يأتي إليها بانتظام.
في البداية التقينا خالد حسن أحد جيران هيكل منذ أكثر من 40 عاماً، حيث قال إن هيكل كان دائماً ما يقدم الخير لأهالي القرية فذات مرة مر من أمام أحد مواقف الميكروباص الشهيرة في القرية فوجد الناس يقفون تحت الشمس الحارقة في انتظار المواصلات العامة فأمر مقاوله الخاص ببناء مظلة لانتظار الناس يستظلون بها من حرارة الشمس حتي مقدم مواصلاتهم، وذلك علي نفقته الخاصة وهو ما تم بالفعل.
وأوضح أن هيكل كان يهتم بتعليم وتثقيف أهالي القرية وهو ما جعله يؤسس مكتبة عامة داخل القرية لخدمة أبنائها وكان يرفض أن يوضع اسمه علي أي عمل يقدمه لأهالي القرية، كما أنه ساهم في بناء أكثر من مدرسة داخل القرية وكانت جهوده ضمن أعمال يقدمها رجال الأعمال أصحاب المزارع في برقاش.
ومن جانبه قال محمود إسماعيل: إن هيكل كان متسامحا مع الجميع لدرجة أنه تنازل عن جميع البلاغات التي كانت قدمت ضد عدد من شباب القرية عقب سرقة مزرعته في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
وأضاف: إن هيكل كان شديد الاستجابة لأي مطلب عام يتقدم به أهالي القرية إلا أنه كان يرفض أي طلب شخصي أو التوسط لدي أي من الجهات الحكومية مع أي شخص.
وخلف مزرعة هيكل يقطن الحاج محمد فوزي في منزله البسيط للغاية، حيث روي لنا أهم مواقف هيكل مع أهالي القرية وقال : إن الأستاذ كان يفتح أبوابه في كل أسبوع للفقراء من أبناء القرية للتصدق عليهم.
وأضاف: إن العديد من أبناء القرية عملوا معه في المزرعة حتي وإن كان ليس بحاجة إليهم إلا أنه كان دائم التشجيع لهم علي العمل وكان يساعدهم بقدر الإمكان، مشيراً إلي أن هيكل كان يرفض أن تصطحبه أي حراسة أثناء تواجده في القرية.
أما الحاج فراج السيد (72 عاماً) وهو أحد جيران الأستاذ بالقرية فيري أن أهم إنجازات هيكل لقريته بناء المستوصف الطبي فجميع أهالي القرية يدعون له ليل نهار بسبب هذا العمل.
وتابع: «لم يكن له أي أعداء داخل القرية ومن قاموا باقتحام مزرعته كانوا ملثمين من تنظيم الإخوان الإرهابي وهم شباب من خارج القرية.
أحمد جمال ندي البدوي
جار الأستاذ يفتح صندوق الذكريات:
المزرعة ألهمته »بصراحة«
علي بُعدِ أمتارٍ قليلة من قصر الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل بقرية برقاش، في الجهةِ المُقابلة تقع مزرعة أمين وهبة، الذي يُجاوره منذ أكثر من أربعين عامًا. هُناك التقيناه ليُفصح ل«آخر ساعة» عما يحمل في جعبته من ذكرياتٍ جمعتهما سويًا.
استضاف كيسنجر وأمير قطر الأسبق داخل المزرعة
أعدتُ إليه »وصف مصر« بعدما ألقاه الإخوان في الترعة
يعتبر أمين نفسه واحدًا من المحظوظين لكونه جار «الأستاذ». لما سمحت له هذه الجيرة بالاقتراب منه والنهل من معارفه. ظل علي موعدٍ أسبوعي مع الراحل منذ التقاه للمرة الأولي بمزرعته في سبعينيات القرن الماضي. يعود بذاكرته إلي سنواتٍ بعيدة: كان الأستاذ يأتي إلي مزرعته هُنا بشكلٍ منتظم يوم الأربعاء من كل أسبوع ليجلس حتي يوم السبت. كان يُحب المكان ويعتبره ملاذه الهادئ، الذي يهرب إليه من صخب الحياة والمسؤوليات الهائلة التي كانت تقع علي عاتقه. لشدة ما أحبّ المزرعة أصبحت تُلهمه ليكتب داخلها عموده الأسبوعي «بصراحة» في جريدة الأهرام.
مُتابعا: «كانت إجازته الأسبوعية التي يقضيها في برقاش مُقدّسة لا يقطعها إلا في أضيق الظروف، حتي أن البعض من مديري التحرير بالأهرام كانوا يأتون إليه هُنا ليُطلعوه علي الأمور العاجلة. وكان يحرص علي استقبال كبار زوّاره في المزرعة، أذكر أنني شَهدتُ زيارة وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كيسنجر، وأمير قطر الأسبق خليفة بن حمد. في الأغلب كان يأتي إلي هُنا مع زوجته السيدة هدايت تيمور وأحيانًا ما كان يأتي وحده، أذكر أنه كان يتّصل بي لآتي إليه ونتسامر لساعاتٍ طويلة داخل حديقته التي كان يعتني بها عناية فائقة. «الأستاذ» كان يُحبّ الحكايات، يسرد لي حكايته التي تمتد عن كُل شيء وإلي أي شيء. كان يهتم بممارسة الرياضة داخل المزرعة، وخاصة التنس والسباحة. كما كان يحب تربية الكلاب ويعتني بها.
لم يكن الراحل جاري فحسب بل كان أستاذي. تعلّمتُ علي يديه الكثير في الحياة وفي مهنة الصّحافة التي تربّع علي عرشها، وكنت أجلس إليه مثل تلميذ يجلس مُنصتًا في فصلٍ دراسي. شجّعني أن ألتحق بجريدة الأهرام بعد تخصصي في الإخراج السينمائي، كان يري مُستقبلي في القسم الفنّي لكنني طلبت منه أن ألتحق بقسم التحرير العسكري في بداية عام 1973، لكنّه رفض ذلك خوفًا عليَّ وقال لي «أنت وحيد أمك وأبوك».
يُخبرنا أمين أن منزل الأستاذ داخل المزرعة كان أشبه بمتحفٍ للفن التشكيلي، لا تكاد تجد فيه جدارًا واحدًا خاليًا من لوحةٍ تشكيلية. كما لديه داخل المزرعة مكتبة تحوي كمًا هائلاً من الكُتب المنوّعة والوثائق النادرة. مُتابعًا: لا أنسَي الحُزن الذي ملأه بعدما تعرّضت مزرعته إلي اعتداءٍ همجي من جانب جماعة الإخوان الإرهابية بعد فض اعتصام رابعة عام 2013 عندما قام ملثمون باقتحام المكتبة وحرق ما تحويها، غير أن بعض الكتب قاموا بإلقائها في الترعة. ولحُسن الحظ تمكّن أحد العُمال في مزرعتي من انتشال كتاب «وصف مصر». قُمت بإبلاغ أستاذي هيكل الذي كان آنذاك في منزله بالدقي. بعدها قابلتهُ في مكتبه وأعدت له الكتاب. شكرني وكانت سعادته بذلك غامرة.
في وداع الأستاذ
فاروق جويدة:
كان مهمومًا بمصر حتي آخر أيامه
يري الشاعر الكبير فاروق جويدة أن رحيل محمد حسنين هيكل يمثل خسارةً فادحة للصحافة المصرية والعربية. لا يجدُ ما يكفي من الكلمات ليُعبِّرَ عن حزنه العميق لفقده. سنوات طويلة جمعت بينهما مشكِّلة علاقة متينة، بدأت كما يقول جويدة منذ التحق الأخير بالأهرام عام 1968 مُحرِّرا في القسم الاقتصادي. مُتابعًا: كان "الأستاذ" ظاهرة متفرِّدة لا تُعوَّض ولا يمكن تكرارها، فلم يكن يُمثِّل قيمة للأهرام فقط، لكنّ الصحافة المصرية كلها مدينةٌ له بكل ما قدّم لها، منذ لمع نجمهُ في أخبار اليوم ومجلة "آخر ساعة" وحتي بعدما ترك الصحافة ممارسةً، ظل مخلصًا لها يفخرُ بها ويُدافع عنها في المحافل وفي مقالاته وكُتبه التي أثري بها المكتبة العربية.
ويضيف: كان هيكل يحتضننا كمعلمٍ حانٍ لا يبخلُ بنصحٍ أو توجيه ولا يضيقُ من تلاميذه. وبعد أن ترك الأهرام عام 1974 ظللتُ حتي لحظاته الأخيرة قريبًا منه، ألتقيه باستمرار وأطمئن عليه تلفونيًا. لا أنسَي مواقفه الكريمة معي خاصة في الأزمة التي تعرّضت لها عام 2005 كتبتُ آنذاك مقالاً في الأهرام أنتقد فيه ظاهرة التوريث في المؤسسات القضائية، وتم تحويلي إلي النيابة العامة علي إثر مجموعة بلاغات قُدِّمت ضدّي، لأتعرّضَ لأزمة قلبية حادة أثناء التحقيق، ولم يتركني لحظةً في محنتي تلك. التقينا قبل مرضه الأخير بأيامٍ قليلة وتبادلنا الحديث حول الأحوال التي يمرُ بها البلد، كان مهمومًا بمصر حتي آخر أيامه.
صلاح عيسي:
أجريتُ معه أول حديث
في إذاعة المُعتقل
"كان هيكل استثنائيًا بكل ما تعنيه الكلمة".. هكذا بدأ صلاح عيسي الكاتب الصحفي، أمين عام المجلس الأعلي للصحافة حديثه عن الراحل، مؤكدًا أن "الأستاذ" كان يمثل علامة بارزةً وملمحًا أساسيًا من العصر الذي شكّل حقبة جديدة في تاريخ الأمة، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية عندما نشأت حركة التحرير الوطني المصرية والعربية. ومنذ التحامه بهذه الحركة ظهر نجم هيكل وجاء لمعانه وتأثيره البالغ في الرأي العام العالمي، ومن هُنا برز كشخصية تحملُ مواهب متفرِّدة فهو المؤرخ والصحفي البارع والسياسي الذي يحمل نظرة ثاقبة نحو المستقبل السياسي. وكان أحد أهم المُجدِّدين في الصحافة المصرية والعربية، وهو ما يتجلي في تجديده للمهنة التي أحبّها حتي النهاية.
مُتابعًا: أثناء توليه رئاسة تحرير الأهرام خلق مدرسة صحفية جديدة، تجمع بين الجديِّة والعُمق من جانب والجاذبية والرشاقة من جانبٍ آخر. وأتاح بذلك لعددٍ هائل من الصحفيين التعلُّم في كنفه. ورغم أنه كان بيني وبين هيكل اختلافات فكرية كثيرة، إلا أنه كان يتقبل النّقد والاختلاف بشكلٍ كبير، فعلاقتي به كانت ممتدة وعميقة لرحابة واتساع أفقه. وهي العلاقة التي توطّدت بيننا في معتقل مزرعة طرة، الذي جمعنا معًا لمدة خمسة أشهر ضمن الاعتقالات التي حدثت في سبتمبر عام 1981 وشملت عددا كبيرًا من الصحفيين والأدباء والكُتّاب الذين كانوا مُعارضين لبعض سياسات الرئيس الراحل أنور السادت، وكان من بينهم هيكل ومحمد فايق وفؤاد سراج الدين ومحمد عبدالسلام الزيّات ومحمود القاضي وفؤاد مُرسي وغيرهم.
أذكر أن هيكل كان في البداية مُندهشًا مما يجري لقسوة تجربة الاعتقال، ولم يلبث طويلًا حتي شرع في الاقتراب أكثر من الآخرين، كان لديه رغبة كبيرة في التعرف علي الذين ينتمون إلي مدارس فكرية مُختلفة، وكان لديه قبول غير عادي للجميع. كان يتم إغلاق الزنازين علينا طوال اليوم، غير أنني ألتقيه في الفسحة التي لم تكن تزيد مدتها عن نصف ساعة. وعبر القضبان كُنا نُقدِّم برنامجا إذاعيا يوميا للسجناء، اختارني هيكل آنذاك لأُجري معه مجموعة أحاديث، وأجريت معه في السجن أول حديث إذاعي. أذكر أننا تجنّبنا وقتها الحديث عن السياسة لأن الحُرّاس كانوا يحاصروننا. واكتفينا بالحديث عن أحوال المهنة وحكاياته مع "صاحبة الجلالة".
مُتابعًا: ظللنا علي علاقة وثيقة بعدما أُفرج عنا. وكان يأخذُ رأيي في شؤون عدّة، أذكر جيدًا مناقشاتنا حول كتابه "خريف الغضب" الذي كان يدور عن الرئيس الراحل أنور السادات. غير أنني خضتُ مع هيكل معارك صحفية، منها سلسلة الحوارات التي أجريتها معه، وتناولت رؤيته لأمورٍ عدّة منها مقالة نشرتها مجلة المصوّر للواء محمد حافظ إسماعيل، الذي كان مستشار الرئيس السادات للأمن القومي خلال السبعينيات، وأثارت هذه الحوارات ضجة كبيرة آنذاك، إلا أن هيكل كان دومًا علي استعداد لمواجهة المعارك التي اعتادها. فخلال سنواتٍ طويلة تصدي لحملات عنيفة شنّها عليه البعض ممن كانوا يشعرون بالمنافسة تجاهه منهم موسي صبري وغيره.
مكرم محمد أحمد:
هيكل أنقذني
من حبل المشنقة
لا يجدُ أدقَ من كلمة "أسطورة " ليصف بها الراحل محمد حسنين هيكل. ذكرياتٌ كثيرة يحملها مكرم محمد أحمد الكاتب الصحفي ،نقيب الصحفيين الأسبق لمواقِفَ جمعتهما معًا، منذ تولي "الأستاذ" رئاسة تحرير جريدة الأهرام عام 1957. يؤكد أن الراحل كان بمثابة المُنقذ الذي مدَّ يده للأهرام لينتشلها من كبوتها، بعدما مرّت بفترة صعبة دخلت فيها الجريدة مرحلة حادة من الركود أدت إلي تراجع توزيعها بشكل كبير في النصف الثاني من الخمسينيات. مُتابعًا: دخلتُ الأهرام قبل هيكل بستة أشهر، وكنتُ محررًا بقسم الحوادث. في تلك الفترة كان هيكل رئيس تحرير مجلة "آخر ساعة" وكان شِهابا ينطلقُ في سماء الصحافة المصرية بقوة، بمساندة مصطفي وعلي أمين اللذين دفعاه إلي الأمام ليُصبح أحد أهم أعمدة أخبار اليوم.
يضيف: بقدومه إلي الأهرام تبدّل حالها بشكلٍ كُلي. فبعد أن كان التوزيع لا يتجاوز 60 ألف نسخة، أوصل متوسط التوزيع اليومي إلي 800 ألف، بينما وصل العدد الأسبوعي من الأهرام يوم الجمعة إلي مليون نسخة. فخلال ثلاثِ سنوات تمكّن من خلق هيئة تحريرٍ مُختلفة بضخ دماء جديدة. فاستكتب عمالقة الفكر والأدب منهم لويس عوض وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح جاهين، كما عيَّن مجموعة كبيرة من الصحفيين الشّباب منهم عزّت السعدني وصلاح هلال وتوفيق بحري وفتحية بهيج، كما كنتُ أحد الذين عيّنهم في تلك الفترة. ولا أنسَي المرة الأولي التي استدعاني فيها "الأستاذ" إلي مكتبه، بعدما قرأ لي تقريرًا بعنوان "جريمةُ قتل في المتحف القبطي". استقبلني يومها بوجهٍ بشوش وأثني علي التقرير، ليسألني "بتقبض كام؟" قلتُ له "باخد 12 جنيه"، فأصدر في ذلك اليوم قرارًا بتعييني وطلب قراءته في اجتماع القِسم.
ويُشير مكرم إلي أن هيكل كان مشجعًا لشباب الصحفيين، ما إن يري موهبة إلا ويمنحها الفرصة كاملة، وليس هناك عمل صحفي جيد إلا ويقوم بإثابة صاحبه. ورغم نجوميته ظل يصرُّ علي أنه "جورنالجي". كان يتمتع بأعلي درجات الموضوعية والعدالة، يحترم جميع الآراء ويتحمّل غضب الصحفيين ويفخر بتلاميذه.
مُتابعًا: كان هيكل مظلة حماية لكل العاملين معه، أثناء رئاسة تحريره للأهرام كلّفني بتغطية حرب اليمن، وبعد فترة من عملي هُناك أُلقي القبض عليّ ليتم إيداعي في السجن الحربي، كنتُ أواجه تهمة تسريب أخبار عسكرية لجريدتي، وتصل عقوبتها إلي الإعدام أو السجن المؤبد. عندما وصله الخبر فعل كل ما بوسعه لإنقاذي، وبالفعل تم الإفراج عني وعدتُ في أول طائرة إلي مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.