وكيل تعليم مطروح يحيل العاملين بمدارس براني للتحقيق    محافظ سوهاج يهنئ رئيس مجلس الوزراء بالذكرى 42 لعيد تحرير سيناء    بمناسبة عيد تحرير سيناء.. الخميس إجازة رسمية للعاملين بالقطاع الخاص    بحضور وزيري المالية والتخطيط.. البرلمان يبدأ إجراءات مناقشة الموازنة العامة للدولة (تفاصيل)    اليوم.. «اتصالات النواب» تناقش طلبات إحاطة بشأن ضعف شبكة الإنترنت    التنمية الاجتماعية والاقتصادية.. أهداف واختصاصات التحالف الوطني للعمل الأهلي    وكيل التموين بالعاصمة يفتتح منفذا لبيع السلع الاستراتيجية بمناطق بدائل العشوائيات بالسلام    أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 23 إبريل في مصر بالمصنعية    أسعار الذهب تتراجع عالميا إلى أدني مستويتها في 3 أسابيع    تراجع معدل التضخم في سنغافورة خلال شهر مارس الماضي    إطلاق تطبيق عبر «الهاتف المحمول» لتقديم طلبات التصالح في «مخالفات البناء» (تفاصيل)    وزير التعليم يعقد اجتماعًا مع لجنة من قيادات الوزارة لتطوير الجودة التعليمية    الزراعة: بدء حصاد وتوريد القمح بالمحافظات.. تفاصيل    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء.. عز ب 46 ألف جنيه    دبلوماسي سابق: مصر تحرص على إعادة الاستقرار في غزة (فيديو)    إسرائيل تستهدف مهندسًا بوحدات الدفاع الجوي لحزب الله    قتلى في تصادم طائرتين هليكوبتر بماليزيا (فيديو)    زلزال بقوة 5 درجات يضرب المنطقة البحرية قبالة محافظة هوالين فى تايوان    الهلال مُطالب بالريمونتادا أمام العين الإماراتي بنصف نهائي دوري أبطال آسيا    اتحاد الكرة يستدعي إنبي ولاعب المصري المتهم بالتزوير للتحقيق في الشكوى    محافظ شمال سيناء يستقبل وزير الشباب والرياضة خلال زيارته للعريش (صور)    «سيدات يد الأهلي» يواجه أبيدجان في ربع نهائي كأس الكؤوس الإفريقية    اليوم.. الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة مازيمبي    توفيق السيد: غياب تقنية الفيديو أنقذ الأهلي أمام مازيمبي.. وأرفض إيقاف "عاشور"    ريال مدريد يمتلك لاعبين بجودة عالية.. مدرب الميرينجي السابق يعلق على أداء الفريق    موجة شديدة الحرارة غدا الأربعاء والأرصاد تقدم نصائح للمواطنين    سلك كهرباء.. مصرع شاب بصعق كهربائي في أطفيح    جدول امتحانات الصفين الأول والثاني الثانوي لمدرسة الحلي والمجوهرات للتكنولوجيا التطبيقية    اليوم.. استئناف مدير حملة أحمد الطنطاوي على الحكم الصادر ضده    ندوة بجامعة القاهرة لتوجيه الباحثين لخدمة المجتمع وحل المشكلات من وجهة نظر جغرافية    رسولوف وهازنافيسيوس ينضمان لمسابقة مهرجان كان السينمائي    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 23 أبريل 2024.. «الجدي» المال في طريقك و«الميزان» يجد شريك مناسب    نيللي كريم تثير فضول متابعيها حول مسلسل «ب100 وش»: «العصابة رجعت»    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحقق 658 ألف جنيه إيرادات خلال 24 ساعة    الصحة: التوسع في الشراكة مع القطاع الخاص يضمن خلق منظومة صحية قوية قادرة على تحقيق الاستدامة    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    الدفاعات الأوكرانية: دمرنا جميع الطائرات المسيرة التي أطلقتها موسكو خلال الليل    مصرع سائق في تصادم سيارتين على صحراوي سوهاج    قرار عاجل بشأن مافيا الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي بالقاهرة    طلاب الجامعة الأمريكية يطالبون الإدارة بوقف التعاون مع شركات داعمة لإسرائيل    وزير خارجية إيران: نأسف لقرار الاتحاد الأوروبي فرض قيود "غير قانونية" على طهران    أزمة لبن الأطفال في مصر.. توفر بدائل وتحركات لتحديد أسعار الأدوية    بدرية طلبة تشارك جمهورها فرحة حناء ابنتها وتعلن موعد زفافها (صور)    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    مصرع عامل غرقًا بمياه الترعة في سوهاج    مصر تستهدف زيادة إيرادات ضريبة السجائر والتبغ بنحو 10 مليارات جنيه في 2024-2025    ملتقى القاهرة الأدبي.. هشام أصلان: القاهرة مدينة ملهمة بالرغم من قسوتها    مصرع عامل دهسه قطار الصعيد في مزلقان سمالوط بالمنيا    أستاذ مناعة يحذر من الباراسيتامول: يسبب تراكم السموم.. ويؤثر على عضلة القلب    عاجل.. صفقة كبرى على رادار الأهلي الصيف المقبل    نصائح مهمة لمرضى الجهاز التنفسي والحساسية خلال الطقس اليوم    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    خلال ساعات العمل.. أطعمة تجعل الجسم أكثر نشاطا وحيوية    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيكل.. أسرار الوهج والبقاء
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 09 - 2015

منذ بداية عملى فى بلاط صاحبة الجلالة، كتبت آلاف المقالات والتحليلات والتقارير السياسية، والمشكلة الكبيرة التى تواجهنى عند شروعى فى الكتابة، هى المدخل الذى أبدأ به الموضوع، فهو بالنسبة لى كالقاطرة التى تجر خلفها عربات القطار، وإما أن تكون جيدة فتنجح فى جر باقى الفقرات بسهولة، أو رديئة ومتهالكة ومملة فيتعثر القارىء فى الانتقال بمرونة إلى الفقرات التالية.
لكن فى هذا الموضوع لم أحمل هم المدخل أو ألم التفكير فى المقدمة، فأى صحفى يكتب عن قامة كبيرة، خبرها وعرفها عن بعد، مثل كثيرين، بالقراءة والاستماع لها وعنها، يستطيع من أى زاوية أن يبدأ الكتابة عنها، فكل الطرق تؤدى إلى شخصية حكيمة وفريدة، أو مجموعة شخصيات اجتمعت فى إنسان واحد، نجح فى أن يحافظ على وهجه وتألقه، وضمن لنفسه مكانة دائمة فى وجدان محبيه وعقل مخالفيه.
الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى يبدأ بعد غد عاما جديدا، ملأ الدنيا وشغل الناس، لأنه يمتلك جملة كبيرة من المقومات المهنية والملكات الفطرية، لعبت دورا مهما فى أن تقدم لنا هذه الشخصية، التى جعلته فى بؤرة الأضواء باستمرار، فى جميع الأزمنة السياسية التى مرت على مصر فى السبعين عاما الماضية، وحتى فى السنوات القليلة التى خيل للبعض أنه توارى فيها، كان يفعل ذلك ليعود أكثر توهجا.
من يتابع مسيرته وعطاءه الفكرى والصحفي، بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، يتأكد أن نجوميته لم يصنعها قربه من الرئيس الراحل، ومن يتوقف عند الفترة التى أعقبت خروجه من الأهرام، يتأكد أن تألقه لم يكن فقط بسبب رئاسة تحرير هذه الجريدة الكبيرة، لأنه تجاوز الكرسى لمرحلة أشد لمعانا، ومن يرصد الصفحة التالية لبيانه الشهير بالانصراف عندما أتم عامه الثمانين، يتأكد أنه كان يستعد ليتماشى مع مقتضيات العصر الجديد وتقنياته ولوازمه التكنولوجية، فنجوميته وصلت إلى عنان السماء، عندما نجح فى التعامل مع الفضائيات، وطوعها على مقاسه المنضبط وأسلوبه الرصين، بدلا من أن تجذبه إلى مقاساتها الفضفاضة وأساليبها البراقة.
المكانة الرفيعة التى وصل إليها الأستاذ هيكل لم تأت من فراغ، فقد جاءت نتيجة مسيرة حافلة من الدأب والمثابرة والاجتهاد، مدعومة بموهبة نادرة، لذلك فالوقوف عند المفاتيح الأساسية التى قدمت لنا هذه الشخصية البديعة مسألة حيوية، لأنها تفك لنا الكثير من ألغاز التوهج والبقاء.
الأستاذ، كما يصفه القريبون منه، ليس فقط صاحب أسلوب مبدع، بل يعد من أبرع أصحاب الأساليب فى الصحافة العربية، يستطيع القارىء أن يتعرف عليه من بين عشرات الكتاب الآخرين، ليس لما يتمتع به من رشاقة أو جزالة أو سلاسة فى العبارات، ودقة وعمق فى المعلومات، لكن لأنه يختزل الكل فى واحد، فهو الصحفي، والسياسي، والاقتصادي، والخبير الإستراتيجي، والروائي، والشاعر المرهف، والعالم، والمبدع، هو باختصار مركز متكامل للتفكير، وفى تخصصات مختلفة .
الخصال الرفيعة التى يمتلكها الأستاذ هيكل، أسهم فيها أيضا إستحواذه على مروحة واسعة من المعلومات، وفى شتى المجالات، وذاكرة تحفظ التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، وقائمة طويلة من العلاقات الفكرية والسياسية والاجتماعية، ربما تستعصى على كثير من الصحفيين فى العالم، وقد وصلت صداقاته إلى رؤساء دول وملوك وساسة الرأى فى العالم، وأضحى واحدا ممن كانوا ومازالوا يشار لهم بالبنان، فى عمق الحوار والنقاش واستشراف المستقبل فى أكبر المنتديات الدولية، لأنه يطور مهاراته، ويوسع معارفه، حتى أصبح عنوانا للمعاصرة المتجددة.
نهمه للقراءة لا يتوقف عند حدود جغرافية، أو فواصل سياسية، أو موانع اجتماعية، ودأبه عنوان للمعرفة المستمرة، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال للجنوب، يبحث عنها فى كل مكان تقريبا، وشغفه بالقراءة عموما، منحه إتقانا كبيرا، جعل كتبه من أكثر المؤلفات مبيعا فى العالم، تتسابق عليها دور النشر بلغات مختلفة، وصارت مرجعا رئيسيا فى القضايا التى تطرق إليها.
فيصعب أن تعرف جزءا مهما من خبايا ودهاليز وحال الصحافة فى مصر، دون أن تقرأ كتابه «بين الصحافة والسياسة»، ولا يمكن أن تلم بتفاصيل معارك مصر فى الحرب والسياسة من غير أن تقرأ «ملفات السويس» و « وأكتوبر السلاح والسياسة» و«المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» و «العروش والجيوش» و «كلام فى السياسة» .. وغيرها.
الإخلاص لمهنة الصحافة، والتفنن فى وسائل إتقانها، والبراعة فى طريقة تقديمها للقارىء، والمحبة العارمة لها، جعلت لقب «الجورنالجي» من أحب الألقاب إليه، فمهما تقلد من مناصب، واقترب من رؤساء وملوك، وتحاور مع شخصيات عملاقة، وتجول فى أركان المعمورة، وكتب فى قضايا متنوعة، لم ينس أبدا أنه خلق ليكون صحفيا، لا يترك شاردة أو واردة للصدفة، يبحث عن الخبر وما وراءه، والمعلومة الدقيقة وما تمثله للناس، والسلاسة وما تضفيه على المضمون من جاذبية، والقصص الاجتماعية وما تقدمه من قيم إنسانية نبيلة، وكلها من المقومات الأساسية ل «الجورنالجي» الماهر، الذى يعرف معنى وأهمية العمل فى بلاط صاحبة الجلالة.
المعارف والخبرات والتجارب الطويلة التى تراكمت لدى الأستاذ هيكل، كانت ظاهرة فى غالبية مؤلفاته المكتوبة، وحواراته التليفزيونية بعد ذلك، فعندما يتحدث عن إيران ودورها الإقليمي، نستدعى على الفور كتابه «إيران فوق بركان»، ولقاءات ونقاشات أجراها مع زعماء دول ومسئولين كبار ومفكرين مرموقين، بشأن الحدود التى يمكن أن تبلغها الطموحات الإيرانية، وطبيعة الحسابات والتقديرات والثوابت التى تتحكم فى مواقفها السياسية، وهكذا يكون الحال عندما يتم التطرق للارتباكات الأمريكية الراهنة، أو التوقعات الخاصة بمستقبل إسرائيل فى المنطقة، بمعنى أن الخبرات الواسعة فى الماضى ومواصلة السفر فى الحاضر، مكنت الأستاذ دائما من تقديم تفسيرات مقنعة لكثير من الظواهر والتطورات السياسية الحالية، وقياس أبعادها المستقبلية.
يأخذ عليه منتقدوه، أن تفسيراته تتأثر أحيانا بمواقفه السياسية، لكن حتى هذا الانطباع، يكون غالبا نتيجة تصورات مسبقة عن الرجل، فمن درجوا على توجيه سهام النقد الحاد إليه، فى معظمهم، إما ينتمون لمعسكر يناهض المدرسة التى أسسها الأستاذ هيكل، مدرسة العمق والتحليل الرصين والقدرة على الاستشراف، وإما من طالبى الشهرة وراغبى «الفرقعة»، وهناك نسبة قليلة تقع فى المنطقة الرمادية بين هؤلاء وهؤلاء، ولهذه المجموعة، على الرغم من محدوديتها، كل الاحترام، لأن لديها دوافع علمية للاختلاف مع الأستاذ، فى بعض ما يذهب إليه من تحليلات، وهى فى النهاية تسهم فى ثراء النقاش العام.
تقبل وجهات النظر الأخرى، عزز صفة الموضوعية التى تتسم بها كتاباته وتحليلاته، وكرس التفرد الواضح فى شخصيته، فهو عكس ما يصفه به خصومه، يؤمن بالديمقراطية إلى أبعد حدود، ومع الحريات بلا قيود، إلا حدود وقيود الأمن القومى للوطن، والتى ظهرت تجلياتها فى جميع مواقفه ومؤلفاته وتصريحاته، فقد خاض معارك سياسية جمة، وتعرض لانتقادات واتهامات كثيرة، لكن جميعها لم تجرؤ على الاقتراب من التشكيك فى وطنيته، وإخلاصه للثوابت الإستراتيجية للدولة.
هذه الصفة (الحب الجارف للوطن) واحدة من المرتكزات الأساسية، التى تنطلق منها تصوراته وتصرفاته، ومن المكونات المحورية التى جعلته محل احترام وتقدير كبيرين من خصومه، قبل محبيه، ومهما يكن موقفه السلبى من النظام الحاكم، فى النصف الثانى من عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وعصر حسنى مبارك كله، وسنة حكم الإخوان، كان يحرص على تقديم النصيحة، وأن تصل كلمته، مكتوبة أو مسموعة، لمن يهمهم الأمر، انطلاقا من حس وطني، وشعور جارف بالمسئولية الوطنية.
لقد نجح هيكل فى الدفع بأجيال مختلفة من الأساتذة الأجلاء، تعلمنا منهم ولا نزال، حيث أصبح الكثير منهم نجوما فى سماء الصحافة المصرية، بعضهم تمكنت من الوصول إليه لكتابة شهادات عن الأستاذ وهو على مشارف عام جديد، ومنهم من حالت الظروف دون الوصول إليه، لكن فى النهاية يحتفظ الجميع، التلاميذ الأساتذة، والمحبون والمريدون، وصف طويل ممن يعرفون الأستاذ ولا يعرفهم، بكل التقدير والاحترام، لأنهم وضعوا أيديهم على أسرار التألق والحفاظ على الاستمرار فوق القمة، وكان لهم القدوة والمثل، فى مدرسة الصحافة الوطنية.
حكايات مع « الأستاذ « وعن « الأستاذ»
صلاح منتصر
(1) عرفت صحفيين وكتابا كان يمكن أن يلمعوا ويأخذوا نصيبهم من الشهرة لولا أنهم سجنوا أنفسهم فى محاولة تقليد الأستاذ ليكونوا صورة منه ، ففشلوا ولم يذكرهم أحد، لأنهم نسوا أنه فى أى موهبة فنية مثل الكتابة والتلحين والرسم والتمثيل وغيرها لا يهتم الناس كثيرا بالصورة وإنما بالأصل المختلف لونا وطعما، وإلا ماذاق الملايين غير التفاح والمانجو! وقد كان من حظى أن بدأت مشوارى الصحفى مع الأستاذ فى مجلة آخرساعة فى مارس 1953 وكان قد سبقنى فى العمل مع «الأستاذ» الزميل الأستاذ محمد وجدى قنديل متعه الله بالصحة، واستمر وجدى فى آخرساعة حتى أصبح رئيسا لتحريرها عن جدارة واستحقاق، بينما ذهبت أنا مع الأستاذ إلى «الأهرام» مما أعطانى شرف العمل معه 21 سنة متواصلة إلى آخر يوم ترك بعده الأهرام فى أول فبراير 1974.
لكن السنوات وشكرا لله لم تفرقنا، ومن التلمذة إلى الصداقة والمحبة والاحترام وشعور الفخر باعتبارى تلميذ الأستاذ «البكر» بكسر الباء . ولا أستطيع أن أنكر أننى تعلمت الكثير من «الأستاذ» سواء عن قصد أو غير قصد، وإن كنت قد وعيت مبكرا لحدود رأيتها واضحة أمامى حمتنى من الوقوع فى خداع الذين تصوروا أنهم يمكنهم منافسة «الأستاذ» فأهملهم التاريخ. ذلك أن هيكل لم تصنعه فقط موهبته وجديته والتزامه وقراءاته وأسلوبه وقسوته على نفسه كثيرا (وهذه مجالات يمكن بطريقة ما كسب بعضها)، وإنما الذى لم يكن ممكنا اكتسابه علاقة هيكل الفريدة بجمال عبدالناصر، لأن التاريخ لن يجود كثيرا بشخصين متوافقين كما كان هيكل وناصر، وأهم من ذلك قدرة هيكل الفائقة على إدارة هذه العلاقة فى أجواء مليئة بالعواصف والنوات كان الكثيرون فيها يتنافسون ليكونوا الأقرب للسلطان وإزاحة من يتقدمهم، مما وضع الأستاذ هدفا لنيران كل مراكز القوى والذين كانوا يتنافسون على عبدالناصر.
وفى رأيى أن قوة هيكل كانت فى حبه الحقيقى لجمال عبدالناصر وإيمانه به. وقد بدا هذا الحب واضحا فى «خطاب التنحى» الذى كتبه لعبد الناصر وقرأه ناصر بصوته المكتسى بالانكسار يوم 9 يونيو 67 قبل أن تتكشف تماما للشعب أبعاد المأساة التى حدثت. وهو خطاب يمكن تدريسه فى فن مخاطبة وكسب الشعب، وكيف وإن بدا أن الحاكم يعلن فيه تنحيه من منصبه، إلا أنه يشعل نار الثورة فى قلب كل مواطن ويحرضه على الوقوف إلى جانب الحاكم فى أسوأ مواقفه. («لقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدونى عليه. لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر. إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبدالناصر هو عدوها.. وأريد أن يكون واضحا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبدالناصر...... إن هذه ساعة للعمل وليست للحزن. إنه موقف للمثل العليا وليس لأى أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبى كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى. وليكن الله معنا جميعا أملا فى قلوبنا وضياء وهدى»). وأتحدى أن واحدا سمع يومها صوت عبد الناصر يقول هذه الكلمات ولم ينفجر حزنا أو غضبا وخرج يتشبث بالرجل.
(2) ذات يوم جمعنا « الأستاذ» فى شهر أبريل 1953 فى غرفته بآخرساعة وراح يقرأ علينا فى زهو نحن التلاميذ ماكتبه للنشر فى آخر ساعة بعد أيام . ولم تكن هذه عادة الأستاذ، فقد كانت أول مرة يفعل فيها ذلك، ولكن دون أن يمنع ذلك كما لاحظت فيما بعد إحساس الأستاذ بالفخر وهو يفاجئنا بخبر .
كان من عادة الأستاذ أن يعقد اجتماعا يوميا للدسك المركزى للأهرام فى نحو الخامسة مساء نخصصه لمناقشة موضوعات الصفحة الأولى. وكنا فى بعض الأيام نواجه قحطا فى اختيار الموضوع الرئيسى (مانسميه المانشيت) فيدخل الأستاذ ويسأل: عندكم إيه؟ ونرد بأننا مفلسون، ونتبادل الاقتراحات التى تحاول بعث الحياة فى خبر لا يستحق، ثم بعد أن يصيبنا اليأس يمد الأستاذ أصابعه فى الورق الذى حمله معه إلى الاجتماع ويخرج ورقة واحدة كتبها بخطه يضعها أمامنا متسائلا: إيه رأيكم فى الخبر ده.. ينفع؟ ونكاد نشهق إعجابا من تأثير الخبر الذى يصبح فى اليوم التالى حديث كل مصر وتنقله وكالات الأنباء.. ولكن هكذا كان طبع الأستاذ وهو فى النهاية بشر.
وأعود إلى اجتماع مجلة آخرساعة الذى عرفنا بعد أن انتهى أنه كان يقرأ علينا الحلقة الأولى من «فلسفة الثورة» التى نشرتها آخرساعة على ثلاث حلقات «بقلم جمال عبدالناصر». والمؤكد أن «زميلا» نقل ماحدث، مما أغضب جمال عبدالناصر كثيرا وآخر نشر الحلقتين التاليتين من فلسفة الثورة، لكن الذى حدث أنه منذ ذلك اليوم لم يحدث أن كشف « الأستاذ» عن كلمة كتبها لعبد الناصر رغم أنه كتب له تقريبا معظم خطبه ورسائله ووثائقه ولكن دون أن يقول كلمة واحدة
(3) أذكر أننى كنت جالسا إلى جانب الأستاذ يوما وهو يقود سيارته الأوبل السوداء رقم 11951 إن لم تخنى الذاكرة ، وقد سألته قرب ميدان التحرير إذا كان قد فكر فى مستقبله بعد أن يترك الصحافة، ولا أعرف ما الذى جعلنى أسأله ذلك، لكن رده الذى لا أنساه بعد أن سكت لحظات: أظن أننى سأتفرغ لكتابة الكتب. ولم يكن هيكل فى ذلك الوقت قد بلغ مابلغه من شهرة وأيضا علاقات وصلات مع كبار رجال العالم، ومع ذلك كان يملك مقدرة تخطيط مستقبله، وهو ما حققه فعلا وأصبح من أعماله التى يفخر بها جلوسه فى مكتبه فى الشقة المجاورة لسكنه بشارع النيل وخلفه أربعون كتابا كتبها، وقد كتب بعضها بالإنجليزية وترجمت بعد ذلك، وهى «العزبة الحقيقية» التى أكسبته ثروته بشرف وكفاح .
(4) عندما توفى جمال عبدالناصر توقع كثيرون غروب شمس هيكل، ومنذ 1970 مضت 45 سنة أطال الله فيها عمر «الأستاذ» الذى عاش عصره حسب وسائل الاتصال وأصبح أكثر شهرة، فكتب فى الصحف وأصدر الكتب وظل يمارس الكتابة حتى «استأذن فى الانصراف» عند بلوغ الثمانين. وتصور البعض أنه انصراف عن العمل، ولكن كانت للأستاذ وجهة نظر أخرى وهى التعامل مع وسيلة العصر من خلال التليفزيون، فكون مكتبة تلفزيونية جمع فيها الكثير من أحاديثه وحواراته . وسواء اتفق معه أو اختلف من اتفق واختلف فلا شك أن هيكل «ظاهرة فريدة» ندعو الله أن تستمر .
هيكل كما عرفته
فاروق جويدة
لو لم يكن الأستاذ محمد حسنين هيكل كاتبا سياسيا كبيرا ومفكرا من طراز رفيع لكان صاحب تجربة روائية متفردة..كان من الممكن ان يكون روائيا يأخذ مكانته فى مقدمة الروائيين الكبار.. إن كل مواصفات الروائى الكبير جمعتها تجربة الأستاذ هيكل فى بلاط صاحبة الجلالة..إن أفكاره دائما تسبق كل الأشياء فى كتاباته وهو قادر دائما على ان يطرح ببساطة وسهولة وإقناع مقدماته الفكرية التى يبنى عليها كتاباته..وبجانب هذا لديه قدرات خاصة فى السرد بحيث يتجول بك فى الأماكن والأشخاص والأحداث والرؤى فى مقال يجمع الفكر والحوار والسرد وخصوصية التجربة..
ولابد ان تتوقف عند أسلوب الأستاذ هيكل إنه صاحب أسلوب خاص لا تجهله العين ان جملته مشحونة بكل العناصر المضيئة ما بين الإحساس والدقة والرهافة والعمق الشديد تستطيع ان تعرف أسلوب الأستاذ هيكل من مئات الكتاب وتستطيع ان تكتشف جماليات لغته رغم انبهارك الشديد بما يطرحه من الأفكار والأحداث والرؤى من هنا كان الأستاذ هيكل رغم احترافه الصحافة وحياته التى قدمها بسخاء لصاحبة الجلالة قريبا جدا من عالم الأدب.. فإنه يحكى ويحلل ويفكر ويسرد وكل ذلك فى إطار لغة بديعة غاية فى التميز..وهو دائما يطارد الكلمة الجميلة ومن الصعب ان تجد فى كتاباته لغة عادية، إنه غواص ماهر دائما يبحث عن اللآلئ فى أعماق البحار ولا يقبل ان يجلس على رمال الشواطئ.
وحين تتحدث مع الأستاذ هيكل فى دنيا الأدب والشعر والرواية والمسرح تشعر بمتعة خاصة.. إنه منبهر بأمير الشعراء احمد شوقى ويحفظ الكثير من شعره.. وهو يرى ان الشعراء الكبار فى كل مراحل التاريخ كانوا قلة والدليل ليس لدينا غير شوقى واحد والمتنبى العظيم..والشعر فى حياة الأستاذ هيكل ومكوناته الثقافية والفكرية مورد هام ولعل هذا ما جعل جملته الصحفية تتمتع بخصوصية شديدة فى التميز والتفرد والإيقاع ودرجة الحساسية والإقناع..إنه يحب الشعر ويحفظ الكثير من تراثنا الشعرى وهو يميل كثيرا للمدرسة التقليدية فى الوزن واللغة والقافية والتأثير ولأنه عاشق من عشاق الموسيقى الكبار فهو يطرب كثيرا للإيقاع وفى كتاباته الصحفية يلعب الجرس دورا كبيرا فى تشكيل الجملة ومساحتها ومفرداتها وإيقاعاتها المختلفة.
الأستاذ هيكل كتب الشعر فى شبابه واعتقد انه اطلع قلة قليلة من الناس على ما نظم من الشعر..وحين تتحدث معه عن قامات الشعراء سواء فى الماضى أو الحاضر تشعر بمدى تعاطفه معهم وكيف تتبع سيرتهم بما فيهم شعراء شباب ماتوا فى شبابهم وهو يعرف الكثير عن اشخاصهم وحياتهم وما كتبوا من الشعر الجميل..هو يعرف الشابى شاعر تونس الجميل ويعرف الهمشرى والشرنوبى وكلاهما كان شاعرا مجيدا فى شبابه..ولديه قصائد لم تنشر لشاعر العراق الكبير الجواهرى..وأحب محمود درويش الشاعر انطلاقا من إيمانه الشديد بالقضية الفلسطينية ورموزها فى الشعر والأدب والسياسة..
إن الأستاذ هيكل يشعرك دائما انه يتحاور دائما مع الرموز الحقيقية إنه يحمل تقديرا خاصا لتوفيق الحكيم ويضعه دائما فى الصدارة من المشهد الثقافى والابداعى فى ثقافتنا العربية..وهو يقدر كثيرا دور طه حسين المفكر والمصلح وصاحب الرؤى المستقبلية خاصة فى قضية التعليم..وهو حين يتحدث عن مفكرى مصر الكبار تشعر بمدى تقديره للإمام محمد عبده والشيخ الغزالى وخالد محمد خالد ويتوقف كثيرا عند دور الشيخ شلتوت فى قضايا الإصلاح الدينى والتقارب بين المذاهب فى الإسلام..والأستاذ هيكل يؤمن كثيرا بالشاعر الكبير كامل الشناوى شاعرا وصديقا وكثيرا ما يحكى عن حياته وظروفه وشعره رغم ان الزمن والحياة جارت عليه ولم يخلص كثيرا للشعر أمام متطلبات الحياة..وحين يتحدث الأستاذ عن الصحافة تطل أسماء كثيرة يحمل لها التقدير والعرفان والمحبة ابتداء بالأستاذ التابعى وانتهاء برفيق مشواره احمد بهاء الدين مروراً بعلى أمين..
ولا شك ان الأستاذ هيكل يقدر كثيرا وهو على حق دور جيل من الصحفيين الكبار فى مصر وهبوا حياتهم بكل سخاء لهذه المهنة العظيمة.. إنه دائم الاعتزاز بتاريخه الصحفى رغم كل الأدوار التى قام بها على المستوى السياسى والفكرى فى تاريخ مصر الحديث ومازال حتى الآن يعيش هموم الصحافة المصرية بكل مظاهر الخلل والتراجع التى أصابتها فى السنوات الماضية ومن هنا كانت مؤسسة هيكل للصحافة التى أنشأها لتوجيه وتدريب ورعاية الصحفيين الشباب وإرسالهم فى منح دراسية تدريبية إلى كبريات الصحف فى العالم كل عام..
إن الأستاذ محمد حسنين هيكل الصحفى الأشهر والكاتب المتفرد كان يمكن ان يكون روائيا كبيرا يتجول العالم بين رواياته وشخصياته وحواراته وإبداعاته وكان من الممكن أن يكون شاعراً صاحب تجربة خاصة ولكنه اختار ان يبنى لنفسه وسط الأمواج المتلاطمة بالمواهب والقدرات جزيرة خاصة تحمل اسمه ترى فيها كل ألوان الإبداع ما بين السياسة والصحافة والفكر..فى مقال هيكل تشعر بعمق الرؤى وقدرات التحليل وسحر اللغة بمفرداتها وإيقاعها المميز وقبل هذا كله قدراته فى الإقناع والبحث عن الحقيقة.. إن مشوار الأستاذ هيكل يحتاج إلى دراسات أكاديمية تقدم للقارئ صورة حية عن عبقرية هذا الانجاز الصحفى والفكرى والثقافى حتى يكون نموذجا للتميز والتفرد أمام الأجيال القادمة
إن مراحل مشوار الأستاذ هيكل جمعت محطات كثيرة من المحرر الشاب فى مناطق العالم الملتهبة بالحروب والمعارك إلى السياسى الذى فضل دائما ان يرى الأشياء والشواهد من بعيد ولا يصبح طرفا فيها..إلى صاحب التجربة الصحفية الأعمق والأكبر فى تاريخ الصحافة العربية..وبعد ذلك كله كيف ارتبطت حياته بثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر وماذا ترك هيكل فى شخصية الزعيم وماذا أضاف الزعيم لتجربة الصحفى الكبير..
لقد اقتربت من الأستاذ هيكل سنوات طويلة منذ التحقت بالأهرام فى نهاية الستينيات وترك الأستاذ الأهرام بيته وإنجازه وجزءا عزيزا من تاريخه أمام عواصف السياسة ليتحول مشواره الصحفى والفكرى إلى مؤسسة أخرى حملت اسمه شخصيا.. إنها هيكل الحقيقى بعيداً عن السياسة وحساباتها ومخاطرها وتقلباتها وقد تعلمت من مشواره شيئا فريدا ان تراهن دائما على ما تملك وألا تترك حياتك ومصيرك فى ايدى الآخرين حتى لو كانت سلطة القرار.. خرج هيكل من الأهرام الذى بناه وشيده لكى يبنى لنفسه تاريخا جديدا كاتبا وصحفيا ومفكراً وصاحب دور شهد به العالم كله.. فى مشوار الأستاذ هيكل محطات كثيرة ينبغى التوقف عندها بكل ما فيها من عناصر الثراء والإثارة والإصرار والقدرية.. إن اجمل ما قدمه الأستاذ هيكل لصاحبة الجلالة طوال تاريخها هو هذه الهيبة التى أحاطت به وبها وهذا الإحساس بالمسئولية تجاه الوطن وقبل هذا كله المكانة التى وصل إليها أصحاب الأقلام بالمصداقية والمسئولية والكفاءة.
إن الأستاذ مازال متألقا ومازال متابعا للأحداث والأشخاص والمواقف بروح صحفى شاب وقدرات مفكر كبير وعشق صاحب قلم للكلمة بكل مفرداتها وتأثيرها ورونقها..مضت السنوات وتجربة الأستاذ تزداد تألقا وبريقا وتأثيرا وهى مكانة صنعتها موهبة فذة وإصرار عميق وحب لم يتغير لصاحبة الجلالة عشقه الدائم وتاريخه الحافل وانجازه العظيم . أستاذ هيكل كل سنة وأنت تزداد تألقا وشبابا.
مع الهرم الرابع!
عزت السعدنى
الهرم الرابع للذين يعلمون.. والذين لايعلمون.. اسمه الأستاذ.. والأستاذ فى محراب صاحبة الجلالة الصحافة.. اسمه محمد حسنين هيكل.. الصحفى الكبير الذى بنينا له نحن تلاميذه ومريديه الذين يدينون له بالأستاذية والعمادة والريادة والقيادة فى مملكة صاحبة الجلالة الصحافة هرما باسمه هو الهرم الرابع للصحافة المصرية المتطورة والمستنيرة.. التى نحن تلاميذها.. وسنظل تلاميذ فيها حتى يرث الله الأرض ومن عليها!
ولقد بنينا لهذا الهرم الرابع باسم الأستاذ.. فى صدورنا قبل قلوبنا.. وفى قلوبنا قبل عقولنا.. حتى إننا مازلنا رغم الشعيرات البيض فى رءوسنا مازلنا عندما نتحرك ونسافر ونفرح ونتألم ونكتب نسأل أنفسنا: هل هذا الذى نكتبه سوف يعجب الأستاذ؟.. أو هل يرضى عنه الأستاذ؟
ولكن اسمحوا لى بعد هذه الديباجة الصحفية التى لابد منها.. أن أحكى لكم حكايتى مع الهرم الرابع الذى أقمناه وشيدناه فى قلوبنا قبل عقولنا فى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة.
أول لقاء لى مع الهرم الرابع عندما كنت محررا صغيرا فى قسم التحقيقات الصحفية، عندما كتبت تحقيقا عن النجوم والكواكب والمجرات البعيدة.. وأجريت حديثا مع بروفسور البرت هوفمان عالم الفضاء الأمريكى الذى كان يزور القاهرة أيامها.. وقال لى: لو انك سافرت إلى الفضاء الخارجى بصاروخ ينطلق بسرعة الضوء وجلست على كوكب زحل ونظرت بميكروسوب عملاق إلى كوكب الأرض.. فسوف تشاهدها فى عصر المماليك وما قبلها.. وتشاهد القاهرة أيام أن بناها جوهر الصقلى..
المفاجأة هنا اننى يومها كنت أجلس فى حجرة التحقيقات فى المبنى القديم للأهرام فى باب اللوق للسيارات.. وكانت الساعة الحادية عشرة والنصف مساء وبين يدى نسخة من الأهرام الذى كان يصدر أيامها فى هذا التوقيت.. ودق جرس التليفون ورفعت السماعة وأنا جالس.. فإذا بالمتحدث يقول لى: أنا هيكل.. مين معايا؟
قمت لفورى من جلستى.. فكيف أكلم الأستاذ وأنا جالس! المهم أن الأستاذ قال لى: كويس ياعزت.. بكرة عدى على نوال فيه حاجة عشانك!
ونوال هى سكرتيرة الأستاذ الحديدية.. التى أعطتنى ورقة بمكافأة كتبها الأستاذ تقديرا على هذا التحقيق المثير!
اللقاء الثانى.. كان عندما ذهبت إلى الإسكندرية فى قطار الصحافة فى الرابعة والنصف صباحا لكى أنقذ أسرة من الطرد إلى الشارع بعد أن تأخر رب الأسرة عن دفع الايجار لشهور عدة.
ولكن القطار لم يصل إلى الاسكندرية بعد أن اصطدم قبل وصوله بقطار آخر فى محطة خورشيد.. ونزلت وشمرت عن ساعد الجد واشتغلت صحفيا.. ثم ركبت عربة نقل خضار إلى محطة الرمل.. ومن هناك اتصلت بمكتب الأهرام فى الاسكندرية بحثا عن مصور يلحق بى وجاءنى على عجل الزميل العزيز أحمد مصطفى.. وصنعنا معا قصة صحفية مميزة عن هذا الحادث..
وفى مكتب الأهرام فى الاسكندرية عندما انتهيت من عملى.. قالوا لى: الأستاذ هيكل على التليفون!
قال لى: أنا هيكل.. انت صحيح كنت فى القطر اللى عمل الحادثة..
قلت له: أيوا ياافندم
قال لى: أنا موش حاسألك انت كنت رايح فين.. لما ترجع ابقى احكيلى..
أكتب شغلك وابعته بسرعة!
وكتب الأستاذ عنوانا للتحقيق المتميز: 4 ثوان مع الموت!
وكان حكاية ورواية ولقاء مع الهرم الرابع فى مكتبه بعد عودتى.. ومكافأة طبعا!
أنصفنى الأستاذ هيكل مرة.. وسامحنى مرة أنا وشلة «الشقاوة الصحفية» التى كانت تضمنا محمود كامل وسامى متولى وسعيد عبدالغنى ومحمود أحمد وحسن أبوالعينين وأنا.. أنصفنى الأستاذ عندما كتبت عن كشف أثرى مثير فى منطقة سقارة.. وقرر الأستاذ أن أكتب عنه ثلاث حلقات صحفية.. ولكن لمجرد ظهور الحلقة الأولى من هذا الكشف المثير حتى تحركت نيران «الغيرة الصحفية» لدى زملاء مهنة فى الأهرام.. وسلطوا رئيس هيئة الآثار أيامها أن يرسل إلى الأهرام تكذيبا لهذا الكشف المثير.. وقد كان وصل التكذيب للأهرام فأمر الأستاذ بوقف سلسلة التحقيقات التى كتبتها..
وذهبت إلى الأستاذ فى مكتبه ومعى كل مستنداتى وملفاتى.. وعندما دخلت على الأستاذ وضعت الملفات على مكتبه وقلت له: أنا يا افندم..
يقاطعنى وهو ينظر فى عينى.. وقال لى: أنا مصدقك ياعزت عينيك بتقول كده!
ثم رفع سماعة التليفون وقال لنوال: يانوال.. موضوعات عزت تنزل زى ما هى!
آخر حكاية عندما ذهبنا نحن شلة «العفاريت الزرق» أيامها إلى فندق الهيلتون الذى كان فاكهة الفنادق أيامها ليلا للسهر والفرفشة.. ليفاجئنا الجرسون عندما علم اننا صحفيون من الأهرام بقوله: ترابيزة الأستاذ هيكل هناك أهيه..
قال له محمود كامل بخفة دمه المعروفة: أيوه ماهو الأستاذ قالنا نقعد نستناه عليها!
وطبعا الأستاذ لم يقل لنا.. ولا كلمة! وجلسنا وسهرنا وهات يا أكل وهات يا شرب.. وكان الحساب فى آخر السهرة فوق الأربعمائة جنيه.. وكان أيامها مبلغا كبيرا جدا فوق طاقتنا!
وقال محمود كامل بظرفه المعهود للجرسون: ابقى ابعت الفاتورة للأستاذ هو عارف وهو اللى قال لنا! قال الجرسون: سمعا وطاعة! وطبعا قعدنا شهرا بحاله نحاول أن نهرب من مقابلة الأستاذ.. ولو حتى صدفة.. حتى فاجأنا هو مرة ونحن نازلين من سلم الأهرام القديم فى باب اللوق وقال لنا: تتعشوا بربعميت جنيه يامفتريين.. خلاص سماح.. بس ماتعملوهاش تانى! وكانت ال 400 جنيه أيامها تساوى 4 آلاف جنيه الآن ويمكن أكثر!
كانت أياما حلوة.. فيها صحافة وفيها أدب وفيها ظُرف بضم الظاء وفيها شقاوة كمان وكل سنة وأنت طيب ياهرم الصحافة الرابع!.
دروس لا أنساها
أمينة شفيق
التحقت بالعمل بجريدة الأهرام فى شهر ابريل عام 1960 وغادرنا الأستاذ هيكل تاركا إيانا وجريدة الأهرام عام 1974 وبذلك لم يستمر عملى مع الأستاذ هيكل فى الجريدة لأكثر من أربعة عشر عاما.
ولكن خلال هذه الفترة القصيرة من عملى المهنى تلقيت نصيحتين من الأستاذ هيكل لا أزال أتذكرهما جيدا أفادتنى النصيحتان خلال عملى المهنى ثم خلال مسيرتى النقابية التى قضيتها أقدم الخدمات لزملائى الصحفيين كعضو فى مجلس نقابتنا العريقة.
كانت أولى النصيحتين عندما انتخبت لمجلس نقابة الصحفيين فى أول انتخابات تجرى بعد حركة 15 مايو عام 1971 صبيحة إعلان النتيجة توجهت إلى الجريدة سعيدة بما أنجزته فى المعركة الانتخابية التى كانت بالفعل معركة حامية. ولحظة دخولى إلى الجريدة إلى ان صعدت إلى الدور الرابع من المبنى تلقيت عدة رسائل من الاستعلامات تخبرنى أن «الأستاذ هيكل عايز حضرتك، فوتى على المكتب» «خير» تعجبت من الرسائل لكنى ما كدت أصعد إلى الدور الرابع حتى توجهت إلى حيث مكتب رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة وفى الحال وجدتنى أمام الأستاذ هيكل جالسا على مكتبه الشهير.
استقبلنى بابتسامة وهنأنى بالنجاح فى الانتخابات ثم اعتدل على الكرسى الشهير ووجه إلى أولى نصائحه وكانت فى شكل تنبيه مهم قال:» مبروك على النجاح، شيء جيد لجريدة الأهرام ولكن أود أن أوجه انتباهك إلى أنك لابد أن تفرقى بين عملك فى الجريدة وعملك الآخر فى النقابة انتى فى الأهرام صحفية مجرد صحفية وسط زملائك ولو أردتى أن تكونى زعيمة فده مكانه يكون فى النقابة».
فهمت الرسالة وبالفعل تنبهت إليها ولم يحدث فى يوم ما فى أثناء عضويتى فى مجلس نقابة الصحفيين التى امتدت لأكثر من عقدين من الزمان أن تغيبت يوما عن الجريدة أو أنى لم ألتزم بقواعد العمل أو أن أتغيب بالرغم من عملى النقابى المتشعب... كنت وسط زملائى فى الجريدة محررة وفقط.
أما النصيحة الثانية فكانت بعد الأولى بأقل من ستة أشهر عندما دعتنى منظمة العمل الدولية لحضور مؤتمر نقابى عمالى فى عاصمة عربية اشتهر نظامها السياسى حينذاك بتكوين مجموعات أصدقاء له من الإعلاميين والسياسيين والصحفيين... توجهت إلى مكتب رئيس التحرير ومعى خطاب الدعوة لأستأذنه فى قبولها أو الاعتذار عنها... كانت هذه هى تقاليد الأهرام ونظامها... قرأ الأستاذ هيكل خطاب الدعوة ثم وضعه أمامه على المكتب ونظر إلى قائلا: «شيء جيد، بس بشرط مهم... وهو أن تذهبى إلى هذه العاصمة مندوبة للأهرام وتعودى منها بعد المؤتمر وأنت مازلت مندوبة الأهرام وليس العكس، يعنى مش مندوبة البلد ده فى الأهرام، أظن أنا واضح». وكانت نصيحة آمرة غير قابلة للمناقشة بالقطع لا يكون الولاء إلا للأهرام.
توالت بعد ذلك رحلاتى إلى كل بلدان المنطقة العربية وغيرها من البلدان شرقا وغربا وأنا أردد ما قاله لى أستاذنا الجليل وعرفت وتعلمت من النصيحة الفصل بين كونى مجرد صحفية أو نقابية وبين تمسكى بقيمى كمواطنة مصرية تمارس مهنة الصحافة فكان بلدى هو ساحة عملى السياسى الأساسى أعارض فيه السياسات ثم أؤيد فيه السياسات الأخرى علنا دون خوف مستندة على حقى فى الممارسة وعلى قدرة زملائى وأصدقائى وعلى الناس المصريين المقربين أو المتابعين لى دون أن أستند على أى روافد أخرى مهما تكن كان العمل تحت رئاسة الأستاذ محمد حسنين هيكل منضبطا منظما.. أهم ما فيه أنه علمنى احترام مهنتى والزهو بمهنة «الجورنالجي».
لم يكتبه هيكل.. ولم تنشره الأهرام
عاصم الشيدى
فى فبراير من عام 1974 عندما نزل فرانسوا ميتران، الذى سيصبح لاحقا رئيسا لفرنسا، من طائرته العائدة من مصر سمع نبأ إعفاء صديقه الصحفى المصرى الأستاذ محمد حسنين هيكل من رئاسة تحرير جريدة الأهرام، وبعفوية قال: لا يمكن..
يبدو أن انقلابا حصل فى القاهرة. لم يكن انقلابا، رغم أن الانقلابات فى الوطن العربى فى تلك المرحلة كانت حاضرة فى المشهد أكثر من الأنفلونزا فى الشتاء، وكانت القاهرة حينها فى فصل الشتاء. كان هيكل قبلها بأقل من أربع وعشرين ساعة يصطحب ميتران إلى الرئيس أنور السادات ليتناول الثلاثة طعام الغداء وسط أجواء بدت طبيعية جدا، ولا تنبئ بأى عاصفة، ناهيك عن انقلاب سياسي. وكان ترجل هيكل عن رئاسة تحرير الأهرام لا يقل أثره عن آثار الانقلابات السياسية فى تلك المرحلة.
الشاهد فى هذه القصة التى أسوقها مقدمة لهذا المقال أن فرانسوا ميتران لم يكن يتوقع أن يقدم الرئيس السادات على إعفاء هيكل من رئاسة تحرير أهم جريدة فى الوطن العربى وبين أهم الصحف فى العالم إلا إن كان قد حدث انقلاب حقيقي، سياسي، فى مصر، غيّر طبيعة الأشياء وسياقها المنتظم، ذلك لأنه يعرف مكانة هيكل، ليس فى سياق الصحافة المصرية فقط وإنما فى سياق الصحافة العالمية، وفى سياق صناعة المشهد السياسى المصري، ومدى تأثيره بالتالى فى المشهد العالمى الذى لم يعرف بعد القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي. فرغم الأسماء الكبيرة التى عاصرته فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى سواء فى التايمز والجارديان البريطانيتين أو لموند الفرنسية أو واشنطن بوست ونيويورك تايمز فى أمريكا وغيرها المئات فى مختلف دول العالم فإن اسم محمد حسنين هيكل كان الأبرز بينهما على الإطلاق، وكان يجد مقاله الأسبوعى «بصراحة» صدى كبيرا ليس فى الأوساط السياسية العالمية فقط بل لدى الجماهير العربية التى كانت تنتظر سماعه عبر إذاعة صوت العرب لتعرف المشهد السياسى العربى ووجهة نظر القيادة المصرية فى القضايا العالمية، وكان الأستاذ هيكل بوصفه مخبرا صحفيا بارعا يستطيع أن يصل للمعلومة ولو كانت فى أدراج أعتى أجهزة المخابرات فى العالم، وهذا درس لا بد أن يتلى اليوم بكل تفاصيله على الصحافة العربية.
وليست هذه المقدمة هى محور الحديث فمضمونها كان ومازال من الثوابت لدى كل الأوساط تقريبا، حتى تلك التى لم تكن على وفاق مع جمال عبدالناصر وبالتالى مع هيكل، وحتى فى الضفة الأخرى من الطريق الذى كان يسير فيه الأعداء.. والحق ما شهدت به الأعداء كما يقول المثل العربي.
لكنّ المحور الرئيسى الذى أردت الحديث عنه هنا هو موجه بشكل خاص ورئيس إلى اتحاد الكتاب والأدباء العرب وإلى اتحاد الصحفيين العرب ومن خلفهما كل الكتاب والصحفيين العرب للاحتفاء بأحد أهم رموز الكتابة والصحافة فى القرن العشرين، ليس على المستوى العربى فقط بل على المستوى الدولي، وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل.
أعرف يقينا أن الأمة تمر اليوم بأصعب مراحلها، أصعب حتى عن تلك المراحل التى أرخها الأستاذ هيكل فى مقاله الأسبوعي، وناقشها وحاور فيها وحولها كبار الساسة والقادة فى العالمين العربى والغربي، لكن علينا فى خضم كل هذا المشهد الذى وضعنا أنفسنا فيه ألا ننسى رموزنا التاريخيين، فى الصحافة وفى الفكر السياسى الذين يتربى على فكرهم اليوم جيل عربى كبير.
الاتحادان «الكتاب والأدباء، والصحفيين» مطالبان اليوم، وأكثر من أى وقت مضى فى تبنى مشروعا جاد يعرف من خلاله بتراث الأستاذ ومكانته فى المشهد الصحفي.. وليس ذلك بأقل من الاتفاق على إعلان سنة عربية باسمه، ولماذا لا تكون سنة دولية؟، تحمل اسم «سنة الأستاذ هيكل» تبدأ فى ذكرى ميلاده أو حتى مطلع العام القادم، وثمة متسع من الوقت لعقد اجتماع مشترك بين الاتحادين، وإلا فإن اتحاد الصحفيين العرب هو المنوط بهذه الفكرة فى المقام الأول. وستكون هذه السنة فرصة لإعادة قراءة تراث الأستاذ منذ كتابه الأول مطلع خمسينيات القرن الماضى «إيران فوق بركان» وإلى كتبه الأخيرة «مبارك وزمانه» عبر ندوات تقام فى مشارق الوطن العربى ومغاربه، وعبر جائزة عربية محترمة للصحافة تحمل اسمه «جائزة هيكل» على غرار جوائز صحفية كثيرة فى العالم. وحرى بالصحف المصرية أن تتبنى مثل هذا المقترح لأنها الرائدة فى العالم العربي، ولأن الأستاذ هيكل نشأ فيها منذ نعومة أقلامه، وخاصة جريدة الأهرام التى حولها إلى واحدة من أهم وأعظم عشر صحف فى العالم، والأهرام ارتبطت فى الذهنية العربية برئيس تحريرها الأشهر، الأستاذ هيكل، وعرفت فى الأوساط العربية باسم «رئيس تحرير جمهورية الأهرام»، وكانت الأهرام جمهورية فعلا، وكان هيكل نجمها. وسمعت من بعض كبار السن فى قرية عُمانية صغيرة تستكين بهدوء أسفل ثلاثة جبال شاهقة، لم يسمع بها هيكل لكنها سمعت به وأحبته، عندما يُقرأ أمامهم خبر فى صحيفة يكون ردهم على الفور: «لم يكتبه هيكل، ولم تنشره الأهرام»، فى دلالة لا تخفى على مكانة الصحيفة والرجل فى قلوبهم والمصداقية التى رسخت فى أذهانهم حتى إنهم لم يعودوا يثقون بغيرها. وحرى بهذه الدعوة إذن أن تنطلق من «جمهورية هيكل» إلى المعنيين بأمر الكتابة والصحافة فى عالمنا العربي.
وإذا كانت سنة نجيب محفوظ قد ذهبت أدراج الرياح وسط هتافات «الربيع العربي» ولم نر ونسمع عنها أى شيء بعد الإعلان عنها فإننا نتمنى أن تلقى السنة المقترحة «للأستاذ هيكل» كل عناية وكل محبة، وستكون حينها موازية لجائزة نوبل التى للأسف لا تعطى للصحفيين وللكتاب السياسيين وإلا فإن الأستاذ هيكل كان أحق بها منذ ستينيات القرن الماضي، وستكون إضافة للجائزة قبل أن تكون إضافة لهيكل.
أستاذ الأساتذة
مكرم محمد أحمد
على كثرة الشخصيات الصحفية والاعلامية التى كان لها تأثيرها الضخم فى حياة مصر السياسية والصحفية، ابتداء من العقاد الى التابعى وسلامة موسى واولاد أمين فى أخبار اليوم وأولاد أبو الفتح فى المصرى، مرورا بقامات كبيرة عالية من نوع أحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوى وأنيس منصور وكامل زهيرى وموسى صبرى وعشرات آخرين.
لم يحدث ان تحقق لشخص واحد هذا الاجماع الضخم الذى يتمتع به محمد حسنين هيكل ، أستاذ الأساتذة الذى انجز ما لم ينجزه الأوائل، وقدم للمصريين صحافة جديدة متطورة كان لها تأثيرها الطاغى على الرأى العام المصرى والعربى والدولى، وقدم كرئيس تحرير لصحيفة الأهرام نموذجا فريدا فى التعامل مع أقرانه وأنداده وتلاميذه.
حفظ للمهنة كرامتها كما حفظ لها أصولها وأخلاقياتها المهنية، وأنشأ مدرسة جديدة للصحافة تجمع بين صدق الخبر وعمق الرأى وطلاوة الاداء، يشكل تلاميذها الان كهول المهنة وشيوخها الذين حافظوا على مصداقية الكلمة، واحترموا حق الاختلاف، وابتكروا اساليب جديدة للشيوع والانتشار وجذب القراء دون ابتذال.
وعندما يتأمل الإنسان هذه الكوكبة الرائعة التى عملت مع هيكل منذ أن تقلد منصب رئيس تحرير »الأهرام« التى ضمت توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزى وزكى نجيب محمود ولويس عوض وصلاح جاهين وجلال الحمامصى وجمال العطيفى، فضلا عن جيل جديد من الشباب كان يمثل القوة الضاربة للاهرام، لا يملك سوى ان ينحنى احتراما لهذا الاستاذ العظيم الذى حافظ على هذه الحديقة اليانعة بما تملكه من نباتات نادرة ، يرعاها هيكل بالاهتمام الواجب لكل اشجارها وفروعها وازهارها .
عملت فى صحيفة الأهرام محررا للحوادث عام 1958 قبل ان يرأس هيكل تحريرها بستة اشهر ، لم اكن من النخبة القريبة منه لكن هيكل الذى يعتبر جزءا من مهامه كرئيس تحرير اكتشاف القدرات والمواهب التى تعمل معه هو الذى منحنى فرصة وشرف التعرف عليه ، لتربطنى به علاقات ود واحترام متبادل على امتداد ثلاثة عقود لم تخل من خلافات عديدة، كانت فى جوهرها خلافات فى الرؤى بين جيلين متتابعين فى المهنة، حول مستقبل الصحافة فى ظل النخبة الحاكمة ليوليو ، وعلاقة الحرية بالأمن، ومدى مسئولية الصحفى عن كشف الحقيقة، أدارها هيكل ببراعة شديدة عبر سلسلة من الحوارات كان يعقدها بصورة شبه منتظمة مع شباب «الأهرام»، لأن من ميزات هيكل الاساسية انه يملك قرون استشعار قوية تجعله دائما فى صف المستقبل ، حتى إن ألزمته الظروف الحفاظ على الامر الواقع الى ان يجيء موعد التغيير الصحيح، كما كان هيكل يحرضنا قليلا على التمرد على بعض شيوخنا فى المهنة ، كان يرفض بشدة الخروج عن ناموس العمل اليومى، واظن انه نجح فى ان يغرس فى نفوس هذا الجيل خطا فاصلا جعلنا نحسن التمييز بين الشجاعة والحماقة .
عندما اصدر الرئيس السادات فى نهاية عام 72 قرارا بإبعاد 61 صحفيا، بينهم اكثر من 20 صحفيا فى «الأهرام»، على راسهم احمد بهاء الدين ولويس عوض وعشرات الشباب المتميز ، بدعوى انهم يناصرون مظاهرات طلاب جامعة القاهرة الذين احتلوا قاعة الاحتفالات الكبرى ، طلب منا هيكل ان نمتثل الى الاوامر ، ونمتنع عن المجىء الى الاهرام ، لكنه التزم فى اليوم نفسه بان يعطينا كامل اجورنا رغم قرار الرئيس السادات بإحالتنا الى المعاش ، كما التزم بمعارضة كل الاجراءات التى تستهدف شطبنا من جداول النقابة..، والحق ان احدا من المبعدين لم يختلف على احترام موقف هيكل والانصياع لقراره والاشادة بموقفه الاخلاقى والمهنى الصحيح الذى يستحق الاحترام ، والذى الزمه دائما الوقوف فى صف العاملين معه ومد مظلة الحماية لهم وتحمل المسئولية الكاملة عنهم.
كان هيكل فخورا بنفسه ومهنته، وكان ينفش ريشه خيلاء وهو يمشى وسط صالة تحرير الاهرام مسرعا الى اجتماع (الديسك المركزى) فى الرابعة عصر كل يوم ، تتبعه نظرات إعجاب تلاميذه الذين كانوا يحاولون تقمص شخصيته بصور شتى ، يقلدونه فى مشيته وفى ربطة عنقه وفى خطه الدقيق وطريقة كتابته لمقالاته وفى استخدام يديه وهو يشير أو يتكلم ، لكن الكثير من هذا الخيلاء ذهب مع الريح بعد هزيمة 67 خاصة ان عناوين «الأهرام» كانت قد اسرفت كثيرا فى التبشير بنصر مبين، يسد عين الشمس ويخترق اسرائيل فى النقب يفصل شمالها عن جنوبها!، غير أن هزيمة مصر وقعت فى غضون ست ساعات على نحو صاعق وغيرت كثيرا من توجهات الأهرام ومواقف شبابه وشيوخه، بعدها بعدة أسابيع نشر «الأهرام» مقالات جمال العطيفى عن مثالب حكم الفرد وزوار الفجر فى اشارة مهمة الى ضرورات التغيير.
وعلى حين كتب هيكل عقب الهزيمة ان النكسة فى جوهرها حادث تصادم مفاجئ قلب الامور رأسا على عقب، كان الشعب المصرى بأكمله يعتقد ان الهزيمة لم تكن مجرد حادث تصادم ولكنها هزيمة موجعة لنظام لم يحسن تجهيز نفسه لمواجهة أعدائه وتحدياته..، وعندما خرجت المظاهرات فى شوارع القاهرة تطالب عبد الناصر بأن يصحو من غفوته ليرى أبعاد الهزيمة، وتطلب محاكمة المسئولين عنها أعاد هيكل تقويم موقفه ليكتب عبد الناصر ليس أسطورة مؤكدا ان هزيمة 67 لم تكن هزيمة للرجال الذين حاربوا ولكنها هزيمة الذين أداروا ورسموا وخططوا لهذه الحرب الفاشلة.
تحية الى استاذ الاساتذة محمد حسنين هيكل فى عيد ميلاده الثالث والتسعين، وعمرا مديدا لشعلة مستنيرة متوهجة اضاءت مصر كثيرا ، تحمل بشارات الامل بالعدل والكرامة والحرية وكشفت الكثير من اخطاء افعالنا وزماننا كى نتعلم من دروسها المستفادة ، وقدمت للمصريين على امتداد هذا العمر المديد مع فنجان القهوة صباح كل جمعة اكبر كم من الاخبار حول احوالهم واحوال الحكم وانتصاراتهم وخيباتهم، وأسهمت فى الحفاظ على فضائل يوليو فى ضمير الشعب المصرى ايقونة غالية ، وقاومت اوجه قصورها قدر الاستطاعة، وفى جميع الاحوال كان ولا يزال محمد حسنين هيكل صحفيا وطنيا عظيما كرس قلمه لخدمة وطنه واثرى الحياة السياسية والصحفية فى مصر على نحو غير مسبوق ، كما كان داعية سياسية فذا ادار وجهه دائما شطر المستقبل الذى يسهم فى بنائه اليوم الملايين من المصريين الذين تعلموا من مقالات هيكل الاستنارة والحداثة واصول الحكم الرشيد .
فى يوم ميلادك
سناء البيسى
في هذا الصباح المبارك.. في ذلك التوقيت المشهود.. في تلك المناسبة المقدسة يأتى مصادفة عيد ميلادك.. يأتى ميموناً في أمسية عيد الفداء لفجر يبزغ على الضارعين الحامدين الشاكرين لله الذى صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده، ونزل إلى السماء الدنيا يباهى ملائكته بعباده المؤمنين الملبين المكبرين: لبيك اللهم لبيك.. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.. إن تلازم الاحتفال بيوم عرفات هذا العام مع يوم مولدك ما يمثل فأل سعد وبشارة خير ويمن ودعاء مستجاب لكل ما هو آت.. أستاذ محمد حسنين هيكل حافظ القرآن عن ظهر قلب منذ الطفولة كل عام وأنت طيب.. كل عام أدعو لك من كل قلبي وعقلى.. أدعو لك بجميع مشاعرى وفكرى.. أدعو لك بكل حصيلة أيامى وذكرياتى وصباي وآلامى وأحلامى ومسيرتى وعملي.. أدعو لك بكل ما كان وما كنت من قريب وبعيد، وما علمتنيه، وأطلعتنيه ونورتنيه، ودربتنيه، وثقفتنيه وظللتنيه برعايتك ورئاستك وزمالتك وصحافتك ونُبلك.. أدعو لك بالصحة والعافية والراحة والهناء، ودوام العطاء، وعبقرية الفرز بين الصالح والطالح، وقراءة كف الوطن، والتجوال الحر في أروقة الأحداث الجُسام.. أدعو لك أن تظل بيننا قلعة للصمود، وكلمة للحق بصراحة، وصواباً في الرأى الذى ندر صوابه، ونفاذًا للبصر والبصيرة، وصوتاً للعقل والتعقل، ومثالا للكاريزما التي ما بعدها كاريزما... أدعو لك ألا تغادر مقعدك خلف مكتبك في حجرة وحيك وإلهامك وأمامك زهرتك الحمراء تغازل ناظريك فى فازتها الدقيقة الزرقاء، وصفحة النيل الفضية تتثنى تتلألأ تحت نافذتك تروى لك حكاية فتي أسمر الجبهة غض الإهاب قادما من قرية باسوس بالقليوبية سابحاً في زورق طموح من صنع أحلام الشباب قام بتحقيقها كلها بتؤدة وروية ودراسة وتخطيط وعلى مهلٍ وبإصرار يبلغ المحال، وفي خلفيتك علي الحائط خريطة العالم الذى سافرته وعجنته وخبزته وطويته وفردته وعلوته وقرأت ما بين سطوره وكشفت عن أسراره وتضاريسه وأجوائه وسهوله وصعابه وحلوه ومُره وشعابه وشعوبه وشعاراته وشوائبه وحروبه وأمجاده وملوكه وثوراته وانتكاساته وأشهر فنادقه وقصوره التي نزلت عليها ضيفاً دولياً مكرماً فى جناح يجاور جناح الحاكم والزعيم والرئيس والإمبراطور... أدعو للفارس ألاّ يرتاح ولا يأخذ منا استراحة.. أدعو ألا يغادر موقعه.. أدعو ألا يغيب عن عينى وسمعى وشاشتى ونشرة أخبارى.. أدعو ألا تطول إجازاته.
أدعو أن يتمدد الشتاء بطول شهور السنة ولا يترك مساحة للصيف الذى يجتذبه بعيدًا عن الدفء المصرى الحميم... أدعو ألا تُبعده رحلاته.. أدعو ألا يتذكر حريقه، وفَنَاء جزيرته المُثلى، ورماد خميلته المزهرة، وحطام مقتنياته الثمينة، وأشلاء حديقته الغنّاء في برقاش التى شيّد فيها موضعاً قام بتجهيزه ليغدو مثواه ومرقده، وألاّ تصعب عليه إلي ما لا نهاية مكتبته العظمى التى ضمت 18 ألف كتاب ومجلد والتي أكلتها ألسنة نار حقد الإخوان.. أدعو ألاّ يجد هناك ما ليس عندنا وكفة الميزان أرجح ها هنا.. أهرامك، وأهلك وخلانك، وتلامذتك، ومرتع صباك، ومسار خطواتك، وصروح مشوارك.. ألاّ يقدم حججا للتوارى.. ألاّ يستسلم لآلام ساقه فلكل حصان كبوة، وما يقع إلاّ الشاطر شاطرنا وليس شاطرهم وأدعو ألاّ نرهقه بالسؤال، وألاّ نكبله بالمجاملات، وألا نرفعه تزلفاً فوق المنصة، لنصفق له ونهتف، فالوطنية ليست حفل زار، أو حلقة ذِكر، وألاّ نخلع عليه أوسمة من صفيح وألقاباً من خشب وكؤوساً من رمال، وألاّ نحمله من ثقلاء الدم والوطأة ما لا طاقة له به.. أدعو ألاّ يزهد فينا ومنا فيتصدع البناء وتهتز القواعد وتميل السقوف وتتشعب الشروخ وتخمد الهمّة ويتراخى الذراع، ويرقد القلم علي الأوراق ويشد عليه الغطاء، ويغلق السأم شبّاك الإبداع، وتعطى اللوحات ظهرها للمشاهد، فتقوم الأنصاص وتنام القوالب، ويغدو التحقيق الصحفي كلام جرايد وسياسة الجرنال بين أصابع رجل الأعمال، والصحافة مهنة وسطاء الرشاوى وخريجى الزنازين، وهواة وقفات السلالم، والمانشيت مضروب والأخبار كمالة عدد والحوارات تحصيل حاصل والمقال بايت والتمويل الخارجى خارجة رائحته من بين السطور والكاريكاتير بايخ ووجهات النظر بنظارة كعب كوباية.. وتموت فينا روح التوثب، وتذبل بقية من قوة كانت تدفعنا للإجادة كى يرضى عنا الأستاذ هيكل الراعى والمراقب ومانح درجات التفوق..
أستاذى ومقصدى.. سألته في ذكرى يوم مولده عن لوحات من أيام الطفولة لم تزل تعيها الذاكرة الحديدية التي عادة ما يسافر فيها عند ذكر تفاصيل أحد أحداثها، ويجول بعيدا لتتفتق ذكرى من داخل ذكرى من باطن ذكرى مستعرضا مواقع وأحداثا وشخوصا وأقارب وأبناء حتى لتخال أن العقل مش دفتر، لكنك تفاجأ بالراوى المثالي قد أعاد الترتيب الدقيق، لكل شاردة واردتها ولجميع الأبواب أقفالها، ورجع لأصل الحكاية بسهولة ويسر، دون قطع ذهنى، ودون أن يسألك: كنا بنتكلم فى إيه؟.. عن صور من ذكريات طفولة المحتفي بيوم مولده قال: «صورتى صغيرًا أجلس في مندرة بيت جدى لأمى فى حى الحسين بين الأشقاء والشقيقات وأطفال العائلة نتلقى دروس تحفيظ القرآن من الشيخ قاسم، وكان موظفاً مستديماً لدى جدى، وكان من يحفظ جزءا كاملا من القرآن يجازى من الجد جزاء حسنا، فإذا ما ختم المصحف فنصيبه جنيه ذهبي.. كان يحضر معنا أحياناً دروس القرآن بعض أطفال بيوت جيراننا، ومنهم بيت الرافعى وبيت الرزاز».. «وصورة أخرى وأنا في مقصورة سيدنا الحسين بجوار جدى الذى كان يصحب معه أحد أطفال العائلة يقدمه لمجالس القرآن، وكان من بين الجلوس جمع من العلماء وأئمة قراء ذلك الزمان من أمثال الشيخ على محمود والشيخ على حُزيّن، والشيخ محمد رفعت، والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى»... «وصورة أخرى جالس فيها بمندرة الضيوف في البيت الكبير وقد تحول معظمها إلي أكداس من الكتب التى جاءت لخالى من مكتبة صبيح، وكان أصحابها أصدقاء له، وأذكر بين يدى كتاب ضخم أقلب فيه برهبة عنوانه (أدب الدنيا والدين) مازلت أذكره، ومازلت أحس رهبة قراءة أشياء لا أستطيع فهمها ولكنى أحاول»... «وطفلا يهدهده ملاك النوم بينما نبرات صوت أمى تهبط وتعلو بانفعال مواقف دراما السطور وهى تقرأ لوالدي سيرة الظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمّة، ولقد كانت أمى قارئة من الجيل الأول الذى تعلم القراءة والكتابة، وكانت ناقدة لي تتابع كتاباتى حتى رحلت عنى».. و«كان أبى يخطط لمستقبلي وخطته أن أكون فى خدمة العلم، ونذرنى للأزهر، وانتظمت في التعليم الأولى حتى حان الوقت للأزهر، وكان لي أخوة أكبر منى من زوجة سابقة من الريف، وكان إخوتى يعملون معه فى تجارته، وتلك عادة أسر الطبقة المتوسطة في مجالات الزراعة أو التجارة، الجيل الأول من الأبناء مع الآباء، والثانى للعلم والدين، والثالث لوظائف الحكومة.. الأفندية.. وتمنت أمى لى مستقبلا آخر، وما أن سافر أبى فى رحلة لمدة خمسة عشر يوماً حتى سارعت للاتصال بأخيها واتفقا علي أن التحق بالمدارس الأميرية، وبالفعل، وهنا أتذكر صورة مشوارى صغيرًا معها لمحل في وسط البلد اسمه (بلاتشى) حيث اشترت لي بدلتين جديدتين للمناسبة الجديدة، وبعدها بأيام كنت أجلس تلميذًا في سنة أولى بمدرسة خليل أغا.. وعلى فكرة كان إحسان عبدالقدوس وقتها في سنة رابعة... حقيقة أمى عملت انقلاباً جذرياً فى حياتى»..
أستاذ هيكل الذى أجارنى من عسف واضطهاد الهجمة الماركسية علي صحف ومجلات أخبار اليوم، ومن بعدى أجار الأستاذ على أمين ليبعثه مراسلا حرًا للأهرام وذلك في عام 1964 في زمن قربه من عبدالناصر، حيث استطاع من موقعه بجواره أن يوقف كثيرا من المهازل والمظالم والكوارث، مدافعا عن قضايا معظمها حق وعدل، وبهذا المستوى الرفيع من الأداء استطاع أن يقود بحِكمة ويدير برشد معركة تجديد شباب الأهرام فلم ينجح خلال فترة رئاسته لتحريرها 1957 1974 فى وقف خسارتها فحسب بل نقلها إلي الربح ثم الازدهار ورفع توزيعها من مائة ألف نسخة عام 1958 إلى 420 ألف نسخة عام 1974 وكان الأخوان تكلا قد عرضا عليه العمل بالأهرام على مدى أربع سنوات كصحفى أولا، ثم تدرج العرض حتى منصب رئيس التحرير الذى وافق عليه لتكون خطته وقتها التغيير البطىء وليس مجرد عملية شد وجه يصاب بعدها صاحبها بفترة قصيرة بالترهل، ومن هنا وقع اختياره على 40 طالبا وطالبة من الجامعة للدفع بدماء جديدة في شرايين الأهرام المعتق كان يجلس إليهم يوميا يحاضرهم عن الصحافة والأهرام في ثوبه الجديد المعتمد علي صحافة الخبر، وظلت نظرة الدهشة الكبرى على وجه تكلا باشا محفورة على شاشة ذكريات هيكل عندما فتح باب حجرة رئيس التحرير ليجده جالسا بين عشرات الشباب والكل في حوار صارخ، بينما الأهرام طابعها السكون المقيم بين ذوى الياقات البيضاء، فلم يجد الباشا تعليقاً للوم هيكل سوى قوله: انت قلبتها لى كتّاب؟!!..
ولقد سارَ هيكل علي هدى أبوبكر الصديق مع الفارق الكبير بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ساد الكرب وعظُم الأمر وانقسم الخلق ما بين مصدق ومكذب فوقف فيهم الصديق مخاطباً: «ألا من كان يعبد محمدا صلي الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات! ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت»، وتلا قول الله تعالي: «إنك ميت وإنهم ميتون»، و«وما محمد إلا رسول قد خلّت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين»... انتظر هيكل حتى ذكرى الأربعين لوفاة الزعيم.. ليكتب مقاله الشهير «عبدالناصر ليس أسطورة» الذي حكم فيه بأن الزعيم الخالد كما كان يسمى رسمياً وقتها كان واحدا من البشر وليس أسطورة.. وبعد أن مات عبدالناصر قال الأستاذ إن العلاقة بينهما كانت علاقة حوار مستمر، ولعلهما كانا الوحيدين اللذين يتحاوران في ذلك الزمن البعيد المجيد.. ويرن جرس التليفون الأبيض، عندما يسدل الليل أستاره، فيرفع هيكل السماعة متيقناً أن على الجانب الآخر الصوت الرئاسى، ليمتد الحوار طلياً علي جميع الساحات، حتى صيَّاح ديك الفجر، فيرسل ناصر طالباً الأهرام ليقرأ مقال هيكل الذى كان يعلم كل حرف فيه مسبقاً من فم صاحبه.. وبعدها يُشير هيكل علي السادات بفتح قناة السويس للمِلاحة البحرية واختيار يوم 5 يونيه موعدا لذلك الافتتاح ليمحو عار هزيمة 1967 التي أطلق عليها هيكل اسم «النكسة» ليخفف من وطأة الكلمة على النفوس ويحول ذكراها من يوم للحداد إلى عيد لفتح القناة..
أستاذ هيكل.. أين أنت؟!.. أين أهرامك وخلية النحل.. أين الصحافة؟! أين الناس الكبار.. أين العظماء؟!.. أين الالتزام والانضباط والأمان؟! أين منى سكان الطابق السادس الذى جمعت لنا فيه النخبة من قمم الفكر والأدب والشِعر والفن.. الحكيم ومحفوظ والشرقاوى وبنت الشاطئ ويوسف إدريس ولويس عوض وزكى نجيب محمود وحسين فوزى وصلاح طاهر وبطرس غالى وأحمد بهاء الدين وثروت أباظة وصلاح عبدالصبور ومعين بسيسو وأحمد بهجت وجاهين ويوسف فرنسيس.. الخ.. الطابق يا سيدى مطبق الصمت والممرات خاوية سُحبت دماؤها وأنفاسها وناسها، تلك التي كنا نتدافع فيها ونهرول وننادى ونضحك ونسهر في مكاتبها وقاعاتها على الجانبين، بل يبلغ بنا حد الهوس وجلال الهوية إلي حد النوم بجوار الماكينات للصباح انتظارا للطبعة الثالثة والرابعة.. أما اليوم فأهرول هاربة من جحيم الصمت والخيالات المتحركة الباهتة لأضغط على زرار الأسانسير فيأتينى فارغاً متجهماً لأنزلق في فوهته الحديدية للطريق، للعربة، لبيتى، لروتينى، للطاحونة، وقد أبتسم لذكرى تبزع فجأة علي شاشة عقلي عندما انتقلنا لمبنى الأهرام الجديد من بعد الأهرام القديم في شارع مظلوم ومددت يدي يومها لأضغط على زرار الأسانسير الجديد اللامع فى الدور الرابع مرة تلو أخرى ربما لا شعورياً لأبدد حرجى من طول فترة انتظارى واقفة بجوارك، فما كان منك إلا أن ضربتنى على يدى مؤنباً شارحاً بأن كثرة الضغط الجهول في وقت الانتظار تخريب لسيستم الأزرار ودمار للدوائر الكهربائية!!
أستاذ هيكل.. ليتك تعود.. وها أنا أنذرك بأنى لن أرفع أصبعى من فوق أزرار جميع الأسانسيرات فى جميع طوابق المبنى حتى تعود.. كى تنزل بى أى عقاب يتراءى لك.. ففى العقاب اهتمام وتقييم وتشجيع وتأنيب وانتظار لنتيجة العقاب..
كل سنة وأنت طيب.. أنتَ طيب.. و..يطيب ليّ أن أهنئك بالعيدين معاً..
حكايتان من «أهرام هيكل»
سامى فريد
9 نوفمبر 1970. أقف أمام أهرام الأستاذ هيكل يرجنى الفرح والخوف معا. دقائق وأكون داخل الصرح الصحفى الكبير. موعدى مع الأستاذ عبدالحميد سرايا فى الواحدة ظهرا. الساعة الآن الواحدة إلا سبع دقائق. فى الواحدة إلا دقيقة دخلت أسأل عن الأستاذ سرايا، وشعرت بكفه على كتفى يسألنى بصوته العميق:«أنت سامى؟» خلفه دخلت الأهرام مبهورا أتأمل كل شىء. صعدت معه إلى الدور الرابع يملأنى الأمل فى رؤية «الأستاذ» هكذا يسمونه فى الأهرام. سأراه ويتحقق الحلم.
فى صالة التحرير ومع اقتراب الساعة الرابعة يخفت الكلام ويدخل منطقة الهمس وتغلق أبواب الصالة وتسحب التليفونات جميعا - ماعدا الدسك- إلى سنترال صغير فى آخر الصالة. دقائق وأرى الأستاذ. ألمحه من بعيد ومن خلفه سكرتيره منير عساف. يخرج الدكتور عبدالملك عودة من مكتبه منتظرا ليفتح باب منتصف الصالة. الدسك وكل أساتذة الصحافة «قيام» حتى دخل الأستاذ مشيرا إليهم بالجلوس، ثم تبدأ مناقشات جريدة الغد وشكل صفحاتها. حلم تحقق أخيرا. بعد انتهاء الاجتماع وانصراف الأستاذ يرتفع الصوت من جديد ولكن إلى حدود لا يتجاوزها.
فى «أهرام هيكل» كل شىء ستقابله يلفت النظر وستتوقف أمامه طويلا. اللوحات الفنية لكبار الفنانين.. أساتذة الأدب وأعلام الثقافة. فى منتصف صالة التحرير تابلوه الصفحات عليه عدد صفحات جريدة الغد وتقدم سير العمل بها. نظافة.. صمت.. انضباط.
حكايتان لا تفارقانى على كثرة ما صادفنى فى الأهرام من حكايات. الأولى عندما جاء الرقيب أحمد حسن على استحياء إلى الأستاذ سرايا مسئول السهرة يطلب رفع كاريكاتير الفنان صلاح جاهين كأمر د. عبدالقادر حاتم لأن به كلاما يمس الموسيقار عبدالوهاب وتمثيليته «شىء من العذاب» مع نيللى والدكتور لا يريد مشاكل مع عبدالوهاب. «شيلوا الكاريكاتير»، قالها يائسا الأستاذ سرايا، وجاء د. عودة يقترح إضافة خريطة إلى مقاله فى الصفحة. سألت الأستاذ سرايا:«أليس مفروضا أن نعتذر مكان الكاريكاتير؟» قال:«كيف والكاريكاتير منشور فى الطبعة الأولى؟» تأملت الكاريكاتير طويلا وقلت: «إن المشكلة فى الكلام.. فلماذا لا نغير الكلام ويبقى الكاريكاتير؟» وافق الأستاذ سرايا على الاقتراح وطلب متابعة الأستاذ صلاح منتصر للصفحة. كان الكاريكاتير يصور ستوديوهين من ستوديوهات الاذاعة فى واحد منهما يشير المخرج إلى الاستوديو الآخر ويقول للمذيعة: «إن كانوا هم جابوا عبدالوهاب.. احنا كمان حنجيب عدوية». قمت بتغيير كلام الصورة إلى شقة 1 وشقة 2 وأحد الزوجين يقول لزوجته:« طلعى قشر الياميش بتاع السنة اللى فاتت وحطيه على الباب عشان يعرفوا اننا اشترينا السنة دى».
فوجئت فى اليوم التالى بالأهرام ينتظرنى بدءا من الباب الخارجى يسألونى:«ماذا عملت؟» قلت:«خير؟» قالوا:«الأستاذ هيكل كتب اسمك فى مفكرته». فى الدور الرابع كان الأستاذ ماهر الدهبى رئيس السكرتارية الفنية ينتظرنى عند باب أكرم الصراف قائلا:«لك مكافآة عند أكرم». فوجدت فى انتظارى مرتب شهر كامل وعرفت تفاصيل القصة عندما دخلت إلى صالة التحرير من أكثر من طرف وقالوا إن «الأستاذ» وجه كلامه إلى الأستاذ سرايا قائلا:«أنت أنقذت شرف الأهرام امبارح يا عبدالحميد. «فرد الأستاذ سرايا:« مش أنا يا فندم، ده شاب فى السكرتارية اسمه سامى فريد». فكتب «الأستاذ» اسمى فى مفكرته، وفى ورقة أخرى كتب:«تصرف للأستاذ سامى فريد مكافأة شهر كامل من مرتبه».
الحكاية الثانية عن عربة توزيع الأهرام التى انقلبت فى ماء المطر فى ميدان رمسيس وهى تدخل المحطة ثم اعتدلت وواصلت رحلتها وأفرغت شحنتها فى القطار. وشاهدها الأستاذ هيكل الذى كان يمر بالصدفة فى الميدان. فى اليوم التالى طلب الأستاذ هيكل من مكتبه استدعاء عمال العربة التى انقلبت وتصور الجميع أن نهايتهم هى الفصل! وكانت المفاجأة أنه أمر بصرف شهر لكل منهم لأدائهم رسالتهم رغم اصابتهم وزاد عليها من جيبه مكافأة لكل منهم.
هكذا كانت شخصية مؤسسة الأهرام التى استمدتها من شخصية «الأستاذ» هيكل ولهذا ظل الأهرام إلى اليوم يسمى «أهرام هيكل».
مطلوب من الأستاذ
يوسف القعيد
بعد غد الأربعاء يكمل الأستاذ هيكل أمد الله فى عمره عامه الثانى بعد التسعين. ويبدأ عامه الثالث أكرر أمد الله فى عمره كثيراً ونحن نحتفل بميلاده. فكرت طويلاً ماذا يمكن أن أكتب له؟ وما أكثر ما كتبت عنه. وما أكثر ما كتب غيرى عنه. حتى خصومه كتبوا عنه كتابات كثيرة. لكن الله حباه قدرة فريدة ألا يرد على من ينتقدونه مهما كان ما يكتبون.
أتصور عندما أقول للأستاذ هيكل كل سنة وأنت طيب. أذكره بما أطلبه منه فى معظم إن لم يكن كل لقاءاتنا وفى كل مرة يستمع بصبر وآناة. وأحياناً يحضر ورقة وقلماً ويدون ما أقوله. ربما من باب إرضائى أو إشعارى أن كلامى لاقى قبولاً فى نفسه. لكنه لا يرد على طلباتى بنعم أو بلا.
الآن أحتكم لبرلمان القراء الذين يحترمهم هيكل ويجلهم ويقدرهم أكثر من أى كاتب آخر رأيته وتحدثت معه واستمعت إليه.
أول الأمور مذكرات هيكل. أسأله لا يرد. تزداد أسئلتى فيعتصم بالصمت. لا يؤكد ولا ينفى. لكنى أعتقد أن هذه المذكرات لو أنه كتبها ستصبح شهادة شديدة الأهمية والخطورة عن مصر فى القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين. وفى إحدى المرات قال لى ان المذكرات لا تُملى. ولا بد أن تكتب كنص يقف فى منتصف المسافة بين أدب الاعتراف والصياغة الأدبية الجميلة. وأنها تحتاج لتخطيط محكم لأن كتابة الاعتراف أو كتابة السيرة الذاتية تختلف عن أى كتابة أخرى.
فهل كتب مذكراته؟ ومتى؟ وبأى شكل؟ لكن الأهم أين هى إن كان قد كتبها؟ أطرح هذا الكلام لأن لدىَّ يقينا أن الرجل دوَّن فعلاً مذكراته. هذا اليقين لا تسنده معلومات محددة. لكنه إحساس بداخلى أو هاجس فى عقلى. أتصور أنه صحيح. أما ما هو أكثر من هذا. فلا يوجد لدىّ ما يمكن قوله.
الأمر الثانى الوثائق التى يحتفظ بها الأستاذ هيكل. وربما كانت خارج مصر. وذلك بعد محاولة العدوان على مكتبه وسرقة وثائق منه. بعضها يتصل بقيادات عربية رحلت عن عالمنا. لكنى أشهد أن الأستاذ يفكر كثيراً جداً فى إحضار هذه الوثائق إلى مصر وإيداعها لجهة يضمن استقلالها ونزاهتها وبعدها عن الإدارة المصرية. لقد فكر كثيراً فى دار الكتب والوثائق المصرية. لكنه يسمع كثيراً عن مشاكلها وهمومها وعدم قدرتها على متابعة ما لديها من وثائق. فهل يضيف لها وثائق جديدة؟.
بعد افتتاح مكتبة الإسكندرية. وتولى الدكتور إسماعيل سراج الدين رئاستها. فكر الأستاذ هيكل طويلاً فى إهداء هذه الوثائق لمكتبة الإسكندرية. كان قد لاحظ الطريقة التى تدار بها المكتبة. وأيضاً مدى استقلالية المكتبة عن الإدارة المصرية الراهنة. لكنى أعتقد أن الرجل لم يحسم أمره بأن يستحضر هذه الوثائق ويقدمها لمكتبة الإسكندرية.
عند إنشاء مؤسسة هيكل للصحافة. ربما كان وارداً أن توضع الوثائق فيها. لكننا نعرف الملابسات الحزينة لإنشاء المؤسسة رغم الاعتمادات المالية الضخمة التى اعتمدها لها. وإشرافه بنفسه على محاضرتها. ودعوته لكبار الصحفيين فى العالم ليحاضروا شباب الصحفيين المصريين. بل وإرساله بعضهم لمنح فى الخارج يتعاملون فيها مباشرة مع الصحافة العالمية.
لكن المؤسسة جُمِّدَت أو توقف النشاط فيها لفترة من الوقت بعد مضايقات أمنية. حيث طُلِب من القائمين على المؤسسة أن يقدموا أسماء من سيحاضرون فيها. أو من سيستضافون من الخارج من كبار صحفيى العالم. مما ينفى عن المؤسسة استقلالية قرارها وكونها عملاً علمياً صرفاً مهمته الوحيدة: تطور المهنة والوصول بها إلى آفاق تجعلها أفضل مما هى عليه الآن.
من المشروعات التى داعبت خيال هيكل كثيراً. أن يتفرغ لكتابة كتاب عن التكوين النفسى لجمال عبد الناصر. فقد اقترب منه أكثر من أى إنسان آخر. وهو يعرف أن آلاف الكتب صدرت عن عبد الناصر بعد رحيله. لكنها كلها توقفت عند حدود الدور العام عند عبد الناصر الزعيم والبطل والرئيس والقائد. لكن أحداً لم يحاول الاقتراب من عبد الناصر الإنسان لكى يقدمه للناس. من المؤكد أن عبد الناصر علامة فارقة فى تاريخ الزعامات المصرية منذ فجر التاريخ وحتى الآن. ومن عاصروه ومن جاءوا بعدهم يعرفون الكثير عن عبد الناصر الزعيم والشخصية العامة. لكن تكوينه النفسى والتركيز عليه يجعله قدوة للأجيال الطالعة التى تبحث عن من يمكن أن يكون قدوة يقتدون بها فى حياتهم.
ثقافة هيكل قصة أساسية فى تكوينه. وقد تمنيت عليه أكثر من مرة أن يدون مختاراته الشعرية. فالرجل يحفظ كماً هائلاً من الشعر العربى. قديمه ووسيطه وحديثه. وإن كانت محفوظاته من الشعر القديم »الموزون والمقفى« تتفوق على أى محفوظات أخرى. لكنى من كثرة سماعى له يردد أبيات الشعر. ويستشهد بها. أتصور أنه لو دوَّن مختاراته الشعرية. لقدم خدمة جليلة للشعر العربى.
ومختارته الشعرية تجعلنى أتوقف أمام هذه المختارات كما كتبها جمال عبد الناصر بخط يده. فقد كان من عادة عبد الناصر عندما يسمع بيتاً من الشعر من هيكل أن يبحث عن أقرب ورقة أمامه. ربما كانت صفحة الأجندة التى تحدد تاريخ اليوم. ويكتب عليها بخط يده الأبيات التى يرددها هيكل. وقد كان هيكل حريصاً على أن يحتفظ بهذه الصفحات بخط عبد الناصر. وأتصور أنها وثيقة مهمة للغاية فى علاقة السياسى بفكرة الثقافة.
لا يتصور أحد أن ما أكتبه لغوٌ. ربما لم نكن فى حاجة إليه. فمن قرأ كتاب أندريه ماليرو: أشجار السنديان المقطوعة. والكتاب كله عبارة عن حواراته التى دارت بينه وبين شارل ديجول. ليست مكتوبة على شكل سؤال وجواب. فالرجل لم يكن يجرى مع ديجول حوارات صحفية للنشر. لكنها قصة السؤال والجواب والأخذ والعطاء بين عقلين التقيا فى لحظة فارقة من تاريخ فرنسا. وقدما للبشرية العلاقة التى يمكن أن تصل لحد المثال بين المثقف والرئيس. بين الكاتب والقائد.
لذلك فإن ما أطلبه من هيكل ليس ترفاً. وربما كان مهماً. لكن تبقى استجابته لهذا واتساع وقته لإنجازه. ووجود دافع داخلى عنده لكى يقوم به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.