العلماء والباحثون هم زخر كل أمة ودليل علي تفوقها في المجالات المختلفة، فالعديد من دول العالم المتقدم تخصص مبالغ هائلة للبحث العلمي، وتعمل علي توفير البيئة المناسبة للعلماء من أجل تحفيزهم علي التفوق والإبداع، لكن في مصر تواجه المنظومة العلمية مشكلة تسرب الكفاءات العلمية إلي الخارج.. حيث يسافر الباحثون وقلما يعود أحد منهم مرة أخري إلي مصر. علي الرغم من أن وزارة التعليم العالي والجامعات المصرية تقوم بإرسال بعثات دراسية في كافة المجالات للخارج لعمل دراسات في التخصصات المتقدمة من أجل الاستفادة من خبراتهم بعد إنهاء دراساتهم، إلا أن المفاجأة تكمن في تفضيل البعض منهم البقاء في الخارج لأسباب متعددة، تتمثل في نقص الدعم المادي والإمكانات العلمية الموجهين لهم مباشرة، ولعدم وجود نفس المستوي من التقدم سواء علي مستوي الأجهزة الحديثة، أو المنظومة المثالية في العمل لتطبيق ما تعلموه بالخارج عند عوتهم، لتتلقفهم بعد ذلك الهيئات العالمية ومراكز الأبحاث، اعتمادا علي تفوقهم العلمي، وما يمتلكونه من مهارات في تخصصاتهم. كل هذا يضع علامة استفهام كبيرة للمنظومة العلمية المصرية، ليكون السؤال هنا هو كيف يتم التخلي عن تلك الكفاءات وعدم توفير بيئة حاضنة لها داخل البلاد، وهي التي من المفترض أن تعمل علي رفع مستوي المؤسسات العلمية مستقبلاَ. الدكتور سيد محمد حجازي, نائب رئيس جامعة كفر الشيخ للدراسات العليا والبحوث أوضح أن الإمكانيات البحثية المرتفعة التي اعتاد أن يجدها الباحثون والمبتعثون في الدول الأجنبية مقارنة بما يجدونه في مصر، بالإضافة إلي المستوي المعيشي الجيد في الخارج، تجعل العديد منهم يفضلون البقاء في الدول المستضيفة للبعثة الدراسية، وهذا بجانب أن الدول المبتعث إليها الباحث تقوم برعايته اجتماعياَ والسماح له أحيانا بإلحاق أبنائه في مدارسها مجاناَ، لذلك نجد أن حوالي 25 أو 30% فقط من المبتعثين هم من يعودون مجددا سواء إلي الجامعة أو الفريق البحثي في مصر، رغم أن الدولة تتحمل مصروفات دراساتهم كاملة التي تتضمن رسالتي الماجستير والدكتوراه وتصل تكلفتها إلي 4 ملايين جنيه. يضيف: حتي لو عاد المبتعث إلي وطنه الأم، بعد مدة قصيرة يحصل علي عقد عمل من إحدي الدول، وهو ما عايشته بنفسي في حالة واقعية لمبتعث إلي اليابان، كان مجال تخصصه البحثي في مجال صناعة وتصميم الدواءdrug design وبعدما عاد إلي مصر بعد انتهاء مدة البعثة، توجه إلي الخارج بعد حصوله علي إجازة "كمرافق لزوجته" التي حصلت علي عقد عمل. حالة أخري كانت لمبتعث تخصص في مجال الثروة السمكية والإنتاج السمكي، ذهب إلي النرويج ضمن بعثة خارجية لإحدي الجامعات المصرية، ونظراَ لتخصصه النادر، استقطبته إحدي الشركات النرويجية للعمل بها، حيث قامت بتحمل تكاليف بعثته التي وصلت إلي مايقارب 2 مليون جنيه وقامت بردها للجامعة المصرية نتيجة عدم عودته وتفضيله البقاء للعمل بالشركة النرويجية، حيث يشغل منصباَ رفيعاَ بها الآن. ويطالب الدكتور سيد بوضع تشريعات خاصة للكفاءات التي يجب الاحتفاظ بها سواء من الباحثين وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات، خاصة أن القانون يسمح لهم بالسفر بدون استثناءات إذا ما حصلوا علي عقد عمل في الخارج، مضيفاً: من الأفضل عمل بعثات علمية قصيرة المدي، بحيث لاتمتد سنوات دراسة الطالب لأكثر من 5 سنوات، مع احتساب درجات البعثة العلمية له من مصر وليس من الدولة التي يتم إرساله إليها، ليتدرب علي الجزء العملي من البحث في الدولة المضيفة لمدة عام أو عامين ثم يعود بعد ذلك ليأخذ الدرجة العلمية من الجامعة المصرية. ويري الدكتور حمدي حسين عميد كلية طب جنوب الوادي أن بعض المبتعثين يتدربون علي تقنيات متقدمة في الجامعات الدولية، وعندما يعودون إلي الوطن يجدون أن الأجهزة التي تدربوا عليها في الخارج غير متوفرة، أو لم تجهز بالقدر الكافي لكي يتم العمل عليها، فالطالب يتم إرساله للتعلم وبعد ذلك لا يتم تمهيد البيئة اللازمة بعد رجوعه لكي يعمل بها، لافتا في ذات الوقت إلي أن أبرز الأقسام الطبية التي تعاني جراء تسرب الكفاءات إلي الخارج هي في تخصصات تتعلق بزرع الأعضاء، والخلايا الجذعية والعلاج الإشعاعي وكذلك التخصصات الدقيقة مثل جراحة المخ والأعصاب. ونفي الدكتور حمدي أن يكون الدعم المالي غير متوفر للباحثين، حيث أكد علي أن الدعم المالي لا يشكل معضلة حالياَ علي عكس الفترات السابقة، ولكنه أوضح أن المشكلة تكمن في البيروقراطية في طريقة توفير الأجهزة عالية التقنية، فالباحث يحتاج إلي التقنية الأعلي كفاءة وجودة في عمله وأبحاثه، ولكن هنا يتم الالتزام بقوانين المشتريات للأجهزة الأرخص سعراَ, وهذا يعتبر عائقا كبيرا بالنسبة له. بينما أوضح الدكتور عبدالعزيز طنطاوي عميد كلية العلوم بأسوان أن ميزانية الدراسات العليا والبحوث ضعيفة للغاية في مصر، لكن وزارة التعاون الدولي تحاول المساعدة من جانبها عبر تزويد الجامعات بالآلات الحديثة في الأبحاث العلمية، مضيفاً: هناك أيضا تواصل ما بين الجامعات المصرية عبر بروتوكولات تعاون فيما بينها بحيث يتم تحليل العينات في الجامعات التي يتوفر بها الأجهزة عالية التقنية وأيضا تبادل العمل في المعامل الجامعية. يتابع: نحاول التغلب علي أزمة الأبحاث الخاصة التي تحتاج إلي تقنيات عالية وأجهزة غالية الثمن ليس في مقدرة الجامعات المصرية توفيرها عبر عمل برامج شراكة بيننا وبين الجامعات الأجنبية في البعثات الدراسية، بحيث يتم تحليل المعلومات البحثية في الخارج باستخدام الأجهزة المتطورة، ويكون هناك مشرف عليها من مصر ومن الدولة المستضيفة للبعثة، والطالب بذلك يستفيد من الجانبين وهو ما يسهّل الأمر عند رجوعه إلي البلاد، لأنه يكون علي تواصل مباشر بالأستاذ المصري والأستاذ الأجنبي. في المقابل، قال الدكتور جمال تاج عبدالجابر عميد كلية الهندسة بقنا إن نقص الإمكانيات عامل ليس مبررا لعدم عودة المبتعثين من الخارج، بدليل أن هناك أشخاصا يعملون هنا بإمكانيات بسيطة أو إمكانيات توفرها الدولة ووزارة البحث العلمي عن طريق المشاريع البحثية، لافتا إلي أن فكرة إيجاد مشاريع بحثية بتمويل من صندوقstdf أو صندوق تنمية العلوم والتكنولوجيا" تشكل بديلا لتوفير الإمكانيات المناسبة للبحث العلمي داخل البلاد، فالكثير من الدارسين كانوا قد قاموا بعمل مشروعات بحثية في كلية الهندسة، وحققت نتائج طيبة، ليتم نشرها علمياَ بعد ذلك، أي أن هناك طريقة وآلية متواجدة بالفعل وقادرة علي تحفيز الإبداع العلمي داخل مصر. يضيف: رأيت الكثير من تجارب الدول المتقدمة مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية في البحث العلمي، وأفضل تجربة يمكن تطبيقها في مصر هي تجربة كوريا الجنوبية تحديداَ في البحوث العلمية، فإذا كان هناك أستاذ متفوق في تخصص معين، تنشئ له الدولة معملا متكاملا يتضمن أحدث الأجهزة العلمية، بحيث تكون هناك منح من قبل الدولة للطلاب المتميزين علي ذلك المعمل بدلاَ من إرسالهم إلي الخارج، فيأخذ الطالب المنحة الخاصة به داخل الجامعات المصرية، وبهذه الطريقة سيتم تقليل عدد المبتعثين إلي الخارج، ويتم النهوض بالبنية التحتية لمعامل البحث العلمي وتوفير كل احتياجاتها من المعدات الحديثة.