تحدثنا فى مقال سابق من هذه السلسلة عن ”التعليم والبحث العلمى بين الادارة والتطبيق“ عن التعليم والبحث العلمى فى مصر وأسباب الاضمحلال التى وصلنا اليها فى مجالات التعليم والبحث العلمى وفى هذا المقال نكمل باذن الله تعالى ما بدأناه فى المقال السابق لعله يكون تنبيها إلى من يهمه أمر التعليم والبحث العلمى فى مصر الغالية، سنبدا بالبعثات العلمية ثم المهمات العلمية وننتهى باهمية ربط البحث العلمى بالصناعة فى مصر. البعثات العلمية، بدأت مصر نظام البعثات العلمية مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول التى سبقتنا بكثير استفادت هذه الدول من هذا النظام بسرعة لأنها كانت تتبع نظام صارم فى هذا الشأن مثل أن هذه البلاد كان لها خطط استراتيجية لسد العجز لديها فى التخصصات التى لم يكن لها خبرة فيه بمعنى أن هذه الدول كانت ترسل المبعوثين وتشجعهم على العودة باغراءات أكثر من الدول التى ابتعثوا اليها وتعلموا فيها، حيث أن هذه الدول كانت تضع خطة شاملة للمبتعثين بعد عودتهم إلى بلدانهم من راتب جيد، وامكانيات بحثية تفوق فى احيان كثيرة امكانيات البحث فى البلد التى ابتعث اليها مما شجع أغلبية هؤلاء إلى العودة وتوطين البحث العلمى فى بلادهم مما انعكس ايجابا على المنظور القريب والمتوسط حتى أصبحت تلك البلدان يهفو إليها المبعوثين من شتى بقاع الأرض، حتى الدول التى كانوا يرسلون إليها باحثيهم أصبحت تلك الدول ترسل باحثيها إلى دول مثل اليابان وكوريا وماليزيا وأصبح هناك شراكة حقيقية وتبادل للباحثين والدارسين من هذه الدول إلى تلك. كانت ومازالت هذه الدول بعد عودة المبتعث لوطنه لابد له أن يقدم تقريراً علمياً مفصلاً عن الفترة التى قضاها فى الخارج بكل جوانبها المعيشية والعلمية والبحثية وكل ما يتصل بالفترة التى قضاها فى الخارج منذ مغادرته بلده حتى العودة إليها. أما فى مصر فكان المبتعث ومازال يذهب ويرجع وما عليه إلا أن يقدم تقريرا سنويا موقعا من المشرف على رسالته قبل بداية العام التإلى حتى يتمكن من الموافقة على الحصول على الإجازة الدراسية للعام الذى يليه وبعد أن ينهى الطالب رسالته العلمية يعود وليس مطلوباً منه شئ سوى أن يقدم محاضرة عن مضمون رسالته العلمية أمام أعضاء القسم الذى ينتمى اليه حتى يتمكن بعد ذلك من استكمال إجراءات التعيين فى وظيفة مدرس بالجامعة وليس مطلوباً منه أن يعلم الطلاب الذين سيوكل إليه التدريس إليهم أى شئ مما تعلمه لأنه عادة ما يكون هو أحدث عضو فى القسم وبالتإلى سيسند إليه تدريس الفرق الأولى أو الإعدادية فى الكليات التى تطبق نظام الخمس سنوات والتى تدرس ألف باء العلم وغالبا ما تكون مواد غير تخصصية لهذه الفرق، بالتإلى ينتاب الدكتور الوافد الجديد نوع من الصدمة والذهول ويبدأ بالتفكير فى ما قيمة العلم الذى تعلمه فى الخارج وهو أحدث ما وصل اليه العلم كل فى تخصصه، وما قيمة الأموال التى أهدرتها الدولة لتعليمه فى الخارج وحصوله على درجة الدكتوراه فى مجال تخصصه هل هو نوع من الوجاهة الاجتماعية تسبغها الدولة على بعض من الطلبة المتفوقين دراسيا وعينوا فى الجامعة كنواة لأعضاء هيئة التدريس الذين تعدهم الجامعة والدولة فى خطتها العلمية كل عام. هذه بداية المشكلة ثم تأتى الطامة الكبرى وهى أن الدكتور الوافد يريد استكمال أبحاثه العلمية التى تعلمها فى الخارج ويؤسس لها فى الداخل ويكون لديه حلم تكوين مدرسة علمية كالتى شارك فيها أثناء دراسته للدكتوراه حتى لا تحتاج الجامعة وبالتإلى الدولة بعد ذلك إلى ابتعاث آخرين فى هذا التخصص فلن يجد الباحث إمكانيات بحثية أو معمل مجهز أو المواد اللازمة لاجراء البحوث أو يسند اليه طالب ماجستير أو دكتوراه إلا ما ندر بل على العكس يجد المعمل الذى تعلم فيه البحث أصبح أكثر سوءا وأشد فقرا مما تركه فلا يجد الباحث أمامه مفرا الا طريق واحد من عدة طرق مطروحة أمامه كلها لا تعود بالنفع على الجامعة أو الدولة بفائدة تذكر، نذكر منها على سبيل المثال أن يعود الباحث إلى المكان الذى حصل منه على الدكتوراه وكثير من المشرفين الأجانب يرحبون بذلك بعدما وجدوه في هؤلاء من قدرة على البحث والعطاء، أو يجد فرصة فى أحد الدول العربية يعمل فيها حيث الراتب الذى لا يقارن بما سيتقاضاه فى بلده والمشاريع البحثية والإمكانيات التى توفر له، أو أن يهاجر ولا يعود بعدها أبدا الا فى زيارات سنوية للأهل، أو أن يتقوقع فى كليته فى الداخل ويصبح مجرد رقم فى طابور طويل حتى يأتى بعده آخر فى الطابور طال أو قصر. الغريب فى الأمر أن اليابان وكوريا توقفت عن نظام الابتعاث منذ فترة حتى أنهم أصبحوا من أكثر الدول التى تحظى بطلب الابتعاث إليها ومازالت حكوماتنا المتعاقبة تفتخر بأن عدد المبتعثين للخارج مازال فى ازدياد مضطرد هل رأيتم غيبوبة أطول من هذه؟!. هل سمعتم عن فساد فى التعليم مارسه الوزراء السابقين إما عن جهل وغياب رؤية أو عن علم وتدمير ممنهج أكثر من ذلك، ؟! المهمات العلمية والبحث العلمى، أما بالنسبة للمهمات العلمية فقد تحولت فى الجامعات المصرية بفضل تباين الرؤى للسادة وزراء التعليم العإلى المتعاقبون من سنتين كاملتين للمبتعث إلى سنة واحدة ثم 9 أشهر ثم ستة أشهر وأخيرا ومنذ أكثر من 15 سنة أصبحت ثلاث أشهر )وكل اختصار فى الوقت له مبرراته وأسبابه( حتى أصبحت المهمات العلمية أكثر عددا ولكن بلا قيمة تذكر فبدلا من الهدف الأساسى للمهمة العلمية وهو أن يذهب الحاصل على الدكتوراه خاصة من الوطن إلى المعاهد العلمية المرموقة كى يتعلم فيها لمدة سنتين كاملتين أصول البحث العلمى وقواعده وطريقة التفكير المنهجى فى البحث ويزداد خبرة على الخبرات التى حصل عليها أثناء دراسته للماجستير والدكتوراه وخاصة من داخل الوطن، تحولت إلى فترة نقاهة وتسوق لمدة ثلاث شهور على حساب الدولة وبالدور فى كثير من الأحيان إلا من رحم ربى. وللعلم فإن بعض أعضاء هيئة التدريس حصل على هذه المهمة العلمية بعد بلوغه سن التقاعد وقضائه أكثر من عشر سنوات فى دوله خليجية وبعد رجوعه تذكر أنه لم يحصل على دوره فى المهمات العلمية مما اضطر بعد ذلك لوضع قانون ينظم هذا العبث بحيث ألا يزيد سن المستحق للمهمة العلمية عن 50 سنة وطعنت عليه إحدى الزميلات وكسبت القضية وألغى القانون بعد ذلك، وجاء الدكتور هانى هلال وزيرا للتعليم والبحث العلمى وخصص عددا من المهمات العلمية قاصرة على المدرسين والأساتذه المساعدين مدتها من 6 إلى 9 أشهر، استفاد منها عدد كبير من الباحثين الشباب، تلك هى سياسة وزارة التعليم العإلى فى هذه النقطة تحديدا، حيث أنه لا توجد خطة استراتيجية قصيرة أو متوسطة المدى وبالتإلى لا توجد خطط طويلة المدى للنهوض بالتعليم أو البحث العلمى، كما أنه فى كثير من الأحيان وخاصة فى التعديلات الوزارية يتم فصل التعليم العإلى عن البحث العلمى وفى أقرب تعديل وزارى يتم دمجهما فى وزارة واحدة أو تغيير وزير التعليم العإلى ووزير التربية والتعليم وهكذا ندور فى دائرة مغلقة لن نصل فيها إلى هدف ولا تدرى ما الغاية من كل ذلك وبتغيير الوزير يأتى آخر يدير الوزارة بطريقته ورؤيته هو والدائرين فى فلكه لأنه لا توجد استرتيجية ثابتة ولا أحد يسأله ماذا تفعل طالما أنه يؤدى دوره فى قمع مظاهرات الطلبة واعتراضات أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونه والوصول بأجرهم إلى المراحل المتدنية مقارنة بأكثر الدول فقرا وتخلفا فى العالم. ربط البحث العلمى بالصناعة. للخروج من هذا النفق المظلم بالنسبة للبحث العلمى لابد أن يكون البحث العلمى طبقا لخطة محددة ويجب أن تكون مرتبطة بالصناعة كل حسب تخصصه وفى جميع المجالات لأن تمويل البحث العلمى فى جميع الدول المتقمه تتحمل الصناعة والقطاع الخاص والجهات المستفيده الجزء الأكبر منه طواعية وذلك لأن المشاكل البيئية والمشاكل المترتبة على المخلفات الصناعية والتى تسببت فيها الشركات والمصانع والقطاعات المنتجه وحتى المستشفيات والجامعات والشركات المنتجه للدواء تعد من أكبر الجهات الملوثة للبيئة فى مصر وذلك لغياب الرؤية حول التخلص من النفايات وتدوير المخلفات الصناعية والزراعية كل على حده لأن كثيراً من هذه المخلفات غاية فى الخطورة والضرر الناتج عن حرقها أو دفنها فى الصحراء وهى الوسيلة الأكثر استخداما، كما أن بعض مربى الماشية يقومون بتغذية الماشية عليها قبل حرقها وهذا الأسلوب مدمر للصحة سواء الانسان أو الحيوان والذى يتغذى عليه الانسان مرة أخرى. إذا لابد أن تكون هناك رؤية وخطة للتخلص من المخلفات الضاره منفصلة عن المخلفات الزراعية وأى مخلفات يمكن تدويرها والاستفادة منها دونما التسبب بأضرار للإنسان والبيئة بكل ما تحتوى من مكونات، والحديث عن فصل المخلفات وتجميعها له قصة أخرى ليس مجاله هنا. الأمر الآخر فى هذا الشان هو أن الشركات والمصانع دائما ما تكون فى حالة تنافس شديد مع مثيلاتها فى الداخل والخارج وبالتالى تبحث عن الجودة المستمرة والتطوير الدائم للمنتج أو اكتشاف منتجات جديدة بتكلفة أقل وجودة أفضل وهنا يأتى دور الجامعات ومراكز الأبحاث والأعضاء العاملين بهما، أما ما يحدث فى بلادنا فمعظمه أبحاث للترقى للوظائف الأعلى فقط، أستاذ مساعد ثم أستاذ وبعدها تبدأ رحلة البحث عن السلطة والثروة. والسؤال هو أين نحن من هذه الأنظمة التى لديها خطط عمل فى جميع مجالات البحث العلمى والتعليم الجامعي وما قبل الجامعى والصناعة والزراعة والتجارة والعلوم والتكنولوجيا والطب والصيدلة والهندسة والاقتصاد وان شئت التعميم التنمية المستدامة فى كل مناحى الحياه، حفظ الله مصر والثورة المصرية التى فتحت عيوننا على الظلام الدامس الذى كنا نعيشه طوال الحقبة الماضية وللموضوع بقية، [email protected]