الزمن يعمل وقوانينه تدور. ولم يختبر القلب البشري كلمة لها وقع كوقع كلمة المستقبل . دائما ًنتحرش به ونتطلع إليه، ثم يفاجئنا أنه قد صار وراءنا. جاء ومضي من غير جلبة . أذكر أنني كنت في العشرين من عمري، طالبا ًفي الجامعة، حين قلت للأستاذ الكفيف الذي أقرأ له : ياه .. فاضل أربعين سنة والواحد يطلع معاش . أغرق الرجل في الضحك، وكنت أنا مغرقا ًفي المستقبل . وهأنذا أفتح عيني علي نفسي .. شعري صار أبيض، ولعل ذاتي هي الأخري قد مسها الشيب. أين تذهب هذه الأيام التي تنقضي . اتساءل وفي رأسي يطن قول البحتري " ما أجمل الأيام لولا أنها .... يا صاحبي إذا مضت لم ترجع "، وأجتر، مع نفسي، ماذا يكون موج البحر سوي الأيام التي مرت عليه . البحر والزمن رديفان عندي . كلاهما هناك يرقبنا ويسخر منا . وكل شعرة بيضاء تتسرب منا إلي البحر موجة بيضاء للساحل . الزمن، المصائر، المستقبل الذي تنتظره الأرامل والمساجين والمكروبون والبنات ينتظرن من المستقبل " بيت العدل " .كنت أظن أنني سآتي بالمستقبل من قفاه . وعدت أمي بذلك، عوضاًعن حياتها وحياتي التي تشبه جملة اعتراضية بين الماضي والمستقبل . إنني لم أعرف أبدا كيف هو الحاضر. أنا دائما ًعالق في المستقبل . وفي انتظاره أحصي التنهدات التي بعتها للشوارع وأحصي الشعر الذي ابيض، قبل الأوان، في رأسي ورأس جيلي . وعدت أمي ولم أف بالوعد . أما يس فأظن أنه رجل محظوظ . باستثناء ألمه علي فقد الزوجة والابن، هو رجل محظوظ . لم يكن شيء في حياته عسير الهضم . تنقلت قاطرته بسلاسة بين المحطات، وعرف هو كيف يتزود من كل محطة بالوقود اللازم . إن أقصي ما كان يمكن أن يكون عليه هو أستاذ بالجامعة، لكنه، فوق ذلك، أصبح اسماً جهيراً قد تختلف في تقييمه، لكن الرجل سد ثغرة في المكتبة العربية هي ثغرة الانسجام والتلاقح بين العلوم والثقافات . إنه مثقف شامل . أحياناً أغبطه ( تهذيب لكلمة أحسده ) وأحياناً أتعاطف . أما الاختلاف عنه ومعه فهو هوايتي المفضلة . منذ عرفته، منذ امتننت له، قبل عشر سنوات، وإلي سنة مضت، حين اقتربت منه، وأنا أحاول جاهداً أن أفهمه وأن أفهم عصره . لكن الرجل هو وعصره ملتبسان . كان يس قد كتب، علي غير معرفة بيننا، عن كتاب لي . اتصلت به شكرته ووضعت السماعة . وفي العام الفائت اتصلت به ورتبنا لهذه الحوارات . عام كامل الآن ولم يصل إلي أعماقي . ولا أظن أنني قد وصلت له . قلت لنفسي إنني أحاوره، لكي أفهمه . ليس مطلوبا ً أن أحبه أو أكرهه . الحب والكره زاويتان للنظر، بينما التعاطف هو ما يبقي منا . بعد أن نكبر ونتلاشي مثل موجة مرت علي البحر . كنت قد سألت يس عن العلوم الإنسانية : هل تواكب المتغيرات التي تحدث في مصر؟ قال : إلي حد ما . ليس بالقدر الكافي، لأن الأساتذة في مصر مشغولون بالتدريس أكثر من البحث . مراكز الأبحاث متواجدة أكثر، المركز القومي للبحوث الجنائية يواكب هذه التغيرات ويدرس ما يستجد من ظواهر علي المجتمع . وما المطلوب، أو المنتظر عمله، كي تنتقل هذه العلوم من دائرة الفكر إلي دائرة الفعل؟ - تشجيع الأساتذة علي البحث العلمي، بتوفير منح بحثية، فرص للتفرغ . أساتذة الجامعات الذين يعملون في البحوث بالمراكز المختلفة إنتاجهم مختلف لهذا السبب .. التفرغ . هناك فرق ينتج عن الاحتكاك بالواقع الاجتماعي . لا بد أن تكون هناك فرق بحثية، ميزانيات . المسألة تحتاج لإعادة نظر شاملة. بماذا تشعر كونك خليطا ًمن هذه العلوم؟ - أنا لست خليطا ً. هذه كلمة غير موفقة دعني أشرح لك ماذا اقصد بها . قد يتبادر إلي ذهنك ما تعنيه الكلمة في الوعي العام . من كل بستان زهرة . لا أنا أعني أنك خلاصة مركزة من هذه العلوم .. علم الاجتماع علي الفلسفة علي القانون ..إلخ؟ - يمكنك أن تقول، بدلا ًمن ذلك، إنني عالم اجتماع لديه نظرة موسوعية للعلم . فإذا كنت تقصد ذلك، أنا مضطر لأن أوافقك . هذا صحيح، فالثقافة الموسوعية التي تشكلت لدي عبر سنوات طويلة هي امتزاج شديد من هذه العلوم . وهذا يتضح من كتاباتي، أنا كنت، منذ وقت قريب، مع الدكتور مصطفي السعيد، في أحد المؤتمرات، قال لي: كتابتك غريبة .. أنت تمزج بين الاقتصاد والقانون والتاريخ والفلسفة في المقالة الواحدة . وقد يترجم هذا ما تقصده . تنقلي بين العلوم أكسبني هذا الميل . كانت لدي عادة في المركز القومي للبحوث، أنا خلصت علم الإجرام وقفلت بابه، لم يعد فيه جديد بالنسبة لي فانتقلت إلي علم الاجتماع القانوني . خلصته، لا بد من الانتقال إلي تخصص آخر . هذا التنقل من تخصص إلي تخصص منحني رحابة النظرة إلي الطبيعة الإنسانية وللمجتمع وللثقافة . لأن كل علم من هذه العلوم ينظر للمجتمع من زاوية مختلفة . خذ مثلا ًعلم الإجرام، ولي فيه بحوث منشورة منها بحث مشهور عن تصنيف المجرمين . هذا العلم أو الظاهرة الاجرامية نهلت منها وهضمتها . هل أقف محلك سر. لي بحوث في علم العقاب . شرحه . دخلت علي علم الاجتماع القانوني . القانون باعتباره نسقا ًاجتماعيا ًيتأثر بالأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة . علم الاجتماع القانوني يدرس العلاقة بين القانون كنسق وبقية الأنساق . المهم، في هذا العلم، أنه علي خلاف مع المنهج التقليدي في شرح القانون . دارس القانون يكفيه الإلمام ببعض قواعد المنطق وبعض قواعد اللغة، كي يستطيع تفسير النص القانوني . هذه رؤية المنهج التقليدي . في علم اجتماع القانون هناك تفرقة بين المشرع الظاهر والمشرع الباطن . الأول منوط به التشريع .. مجلس الشعب وغيره . الثاني هو القوة الخفية التي تؤثر علي تدوين التشريع بشكل ما . جماعات المصالح . مهمة الباحث في علم الاجتماع القانوني هي الكشف عن المشرع الخفي .. من الذي دفع بالتشريع في اتجاه دون اتجاه آخر . هذه هي مهمة علم الاجتماع القانوني . المهمة الثانية هي دراسة أسباب الفجوة بين النص والتطبيق . المادة شيء وتطبيقها شيء آخر . من أجل ذلك هناك مدرسة، في علم اجتماع القانون الأمريكي، تقول : القانون هو ما تطبقه المحاكم . لا النص أو الكود . يمكن أن يكون النص في الكود، لكنني أعرف تطبيق القانون من أحكام المحاكم . لأن القاضي يؤول النص ويجتهد في فهمه ويضيف إليه . بعض الأحكام القانونية تغير عمليا ًمن القاعدة القانونية . خذ مثلا ً: في القانون الفرنسي هناك مادة شهيرة تتحدث عن مسئولية الإنسان عن الأشياء . لم تكن هناك سيارات حين ظهرت هذه المادة إلي الوجود . استطاع القضاء الفرنسي، بعد أن ظهرت السيارة، الاعتماد علي هذه المادة العتيقة في تأسيس مسئولية سائق السيارة عن حادثة ما . تأويل النص . هنا يصبح القاضي مشرعا ًبشكل غير مباشر . علم الاجتماع يمنحك الفرصة لفهم القانون بطريقة عميقة وواقعية، علي عكس المنهج التقليدي . لا أعتقد أن الآلة هي عنوان التقدم الآن؟ - هذا سؤال في غاية الأهمية . الآلة هي رمز المجتمع الصناعي. وحدة تحليل المجتمع الصناعي هي السوق . الآلية الخاصة للرأسمالية. فضاء اجتماعي جديد نشأ يعتمد، كما زعموا، علي آلية العرض والطلب . إنه متوازن ذاتيا ً. لكن رمز هذا المجتمع هو الآلة . لذلك أثرت هذه الفكرة في العلوم الاجتماعية . تشبيه الإنسان بالآلة أو تشبيه المجتمع بالآلة . لأن الآلة سيطرت علي المناخ الثقافي والاجتماعي في العهد الصناعي . الآلة هي التي أنتجت السلع والأدوات والإنتاج الكبير ..إلخ . فأحد رموز المجتمع الصناعي هي الآلة . مجتمع المعلومات العالمي الذي نعيشه الآن وحدة تحليله هي الفضاء المعلوماتي . لا الآلة .. فضاء جديد أنشأته شبكة الإنترنت يتفاعل فيه الناس بالإيميل والتشاتنج . هذا فضاء جديد عنوانه الفضاء المعلوماتي لا الآلة . في يوليو 67 وأنا أتعمد الرجوع إلي الوراء، لنعرف أن احتقار الثقافة له في مجتمعنا جذور، صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقرير جاء تحت عنوان " تخطيط الاستثمارات في الأبحاث العلمية " ما نصه : «كما أن هناك نقطة أخري لا تقل أهمية عن اعتبار التعليم استثمارا ًاقتصاديا ً. وهي أن الآداب ترف ذهني لا تستطيع المجتمعات النامية الإغراق فيه ". يبدو أن هذه النظرة، احتقار الثقافة ما زالت مستمرة»! - هذه العبارة تدل علي جهالة مطبقة، لأن النظرة الحديثة لا تفرق بين العلم الطبيعي والاجتماعي . زمان كان فيه كاتب بريطاني اسمه " سنو " كان أَلَّفَ كتاباً عنوانه " مشكلة الثقافتين " . the problem of the two cultuers عزا فيه أحد أسباب التخلف في المجتمع الغربي إلي الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية . وحكي قصة طريفة .. في مجلس الكلية بأكسفورد كان يدخل أساتذة الرياضة، فيقول أساتذة الاجتماع : الجماعة الجهلة داخلين أهُم . وعندما يدخل أساتذة الاجتماع يقول الرياضيون : الجماعة الهجاصين داخلين أهُم . هناك إنكار متبادل. نفي؟ - نفي أراد " سنو " أن يهدمه بدعوته إلي التعليم الخلاق . ثقافة العلم الطبيعي وثقافة العلوم الإنسانية . ولهذا هناك، في أمريكا، منهج واحد يطبق علي جميع الطلبة الجامعيين يجمع بين العلم الطبيعي وبين العلوم الأخري، خاصة ما يتصل منها بالبيئة . لدي هذا المقرر، وأتمني أن يدرس في جامعاتنا، لنقضي علي الفصل بين الثقافتين . أشار إلي هذه الإشكالية أيضا ًأستاذنا زكي نجيب محمود، في إحدي مقالاته سخر من هؤلاء الذين يقولون : أصل أنا تكويني علمي، والثاني يقول لك أصل أنا معرفش إيه . هذا كلام غريب ونظرة متخلفة تحتاج إلي ثورة تعليمية للتأليف بين الثقافتين وما الأسباب التي أدت إلي ضعف البحث العلمي عندنا؟ - يعني إيه ضعف البحث العلمي. هل الصيغة غامضة أم أنك تنكر أن يكون سؤالي في محله . هل تعتقد أن البحث العلمي علي ما يرام في مصر؟ - طبعا ً. هذه قضية معقدة دعنا نسميها ازمة البحث العلمي في مصر . ولكي تقترب من هذه الأزمة لا بد أن تحدد مداخل للاقتراب . أول مدخل : السياسة العلمية، ثم هناك مدخل علم اجتماع العلم . المدخل الأول يقول إنه لا يمكن أن يوجد بحث علمي فعال ومنتج بدون سياسة علمية مرسومة تحدد الأولويات، أولويات مشكلات البحوث وطريقة حلها، ربط البحث العلمي بالتنمية، ربط البحث العلمي بالأمن القومي . هذه مسائل مهمة . أما علم اجتماع العلم فيعني دراسة العلم باعتباره نسقا اجتماعيا يرتبط بباقي الأنساق، كما قلنا قبل ذلك عن القانون . النسق السياسي يؤثر علي البحث العلمي .. هل النظام السياسي في مصر يؤمن أو لا يؤمن بالبحث العلمي . هذه قضية . النخبة الحاكمة علام تعتمد في تحليلاتها .علي البحث العلمي أم أن لها تحليلات فكرية معينة . هل تحترم العلم أم لا؟ ثانيا ً: كيف يتشكل المجتمع العلمي في بلد ما؟ فكرة المجتمع العلمي ال : academic community . عندنا قصور في كل هذه الأشياء في مصر . هناك أساتذة وهناك باحثون وهناك معيدون، لكن لدينا تفككاً ومنافسات عقيمة وعدم ارتباط . لا يوجد مجتمع علمي في مصر . المجتمع العلمي الحاصل بالخارج يتبادل الحوار والنقد والآراء وهي أشياء لا نفعلها، للأسف . لما أحمد زويل سافر، حصل علي الماجستير من هنا . كان محظوظا ً. اثنان من أساتذته كانا حاصلين علي الدكتوراة من ألمانيا، عرف منهما معني البحث العلمي الحقيقي، تبنياه . لما راح لجامعة " كلتكت " اكتشف هذا الذي أكلمك عنه .. المجتمع العلمي . كبار الأساتذة، كل التخصصات، الندوات، المؤتمرات . هذه الأشياء لا توجد في مصر، لنقص في الهمة، في الإمكانيات، الطموح، الميزانيات ..إلخ، ومع ذلك هناك نماذج بارزة في المركز القومي للبحوث بالدقي . هناك علماء معترف بهم عالميا ولهم أبحاث في كافة الفروع . هؤلاء أفراد مش فرق . البحث العلمي يقوم علي الفرق . فرقة زويل حوالي " سبعين تمانين واحد " يعملون في فريق واحد وبخطة متكاملة . من الصعب أن تفعل شيئاً كهذا في مصر، نحن لا نؤمن بالفريق . كل واحد عايز يبقي ريس نفسه، لا يريد منافسين، وبالتالي يفقد العلم كثيراً من عدم وجود تقاليد المجتمع العلمي . فضلا عن ال communication . كمان .. مسألة الاتصال بين الباحثين . في الخارج يعرف الباحث من هؤلاء ماذا فعل الباحث باليابان مثلاً، أو في الصين . هناك نشر علمي ومجلات علمية لا تحكمها الفوضي والمحسوبية . ومقاييس علمية . هناك معهد في أمريكا يرصد رد فعل المقالات، يرصد كم قارئا ًرجع إلي هذه المقالة . كل شيء محسوب . مقاييس منضبطة، لأنك قد تقع من رصد كهذا علي كشف . ومن أجل ذلك هذه المجتمعات تنتج المعرفة . إنتاج المعرفة مسألة تحتاج إلي شروط سياسية واقتصادية واجتماعية . مسألة ليست سهلة . الشروط السياسية أن يؤمن النظام بالعلم . ويرصد لذلك ميزانية كافية ويقيم مؤسسات علمية، حقيقية لا مزيفة، تقود البحث العلمي . الشروط الاقتصاية .. الميزانيات الحقيقية التي نتكلم عنها ويجب أن تكون هناك شفافية وانضباط . الشروط الاجتماعية أن يحترم المجتمع العلم ولا يقوم علي الفهلوة والتفكير الخرافي . هذه أسباب الأزمة. ذهبت إلي فرنسا وفي مخيلتك، مؤكد، توفيق الحكيم ومحمد مندور، لكنك، بعد عامين من الدراسة، تحولت عن القانون إلي السياسة والاجتماع . كيف واجهت الموقف بعد رجوعك؟ - أنا ذهبت إلي فرنسا مبعوثاً من المركز للحصول علي الدكتوراه في القانون الجنائي . قبلها كنت سجلت الدكتوراه في القاهرة مع الدكتور نجيب حسني. رئيس جامعة القاهرة. - لكن كان حلمي أن احصل عليها من فرنسا، فذهبت إليها، لكنهم لم يعترفوا بالماجستير الذي حصلت عليه . وكان لا بد أن أدرس، من جديد، دبلوماً للدراسات العليا 12 شهراً أدرس فيها المواريث الفرنسية .. كلام معقد لا علاقة لي به . أردت التهرب فأعددت بحثاً بالفرنسية في القانون الجنائي عن " المشكلة الذاتية لقانون العقوبات " . دخلت الامتحان التحريري في السنة الأولي فسقطت بجدارة . وفي السنة الثانية سقطت بجدارة فأقسمت بالله ما أنا داخل تاني . قررت ألا أكمل في هذا الطريق . ثم عدت للقاهرة، وثقت بحثي والتزمت بجدران المكتبة . أصبحت حراً أقرأ وأكتب فيما أريد .. السياسة، الأدب، التحليل الاجتماعي للأدب ..إلخ . بعد فترة أهملت فكرة الدكتوراه تماما ًوأخرجتها من ذهني وانتهت المسألة وتفرغت لعلم الاجتماع وما رد فعلك تجاه لقب الدكتوراه الذي لم تحصل عليه؟ - ليست لدي مشكلة تجاهه . أقولك أنا عملت باحثاً مساعداً في المركز القومي للبحوث . ساعتها كان أمامي خياران لتصبح أستاذا. الأول هو الحصول علي الماجستير فقط ثم تكون لك أبحاث تترقي بها إلي درجة أستاذ، أو تحصل علي الماجستير ثم الدكتوراه بعد ذلك . وأنا اخترت الاتجاه الأول . لا أريد الدكتوراه . أنا مغرم بالبحث العلمي، حصلت علي الماجستير وقلت سأتجه للأبحاث، لست بحاجة للماجستير . لكن من سوء الحظ تغير قانون المركز، ومن ثم كان لزاماً علي أن أكيف أوضاعي . كان لابد من الحصول علي الدكتوراه، لكني فشلت فشعرت بعبثية الموضوع . كنت في حيرة من أمري . ماذا أفعل إلي أن جاء موضوع مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام فأنقذني من هذا الموقف . أنا أحترم الحاصلين علي الدكتوراه .. أهلاً وسهلاً . لكن ليس لدي إحساس بالنقص أو بالاحتياج للقب . كان لدي يقين منذ زمن بأن إنتاجي هو الذي يميزني . أنا كنت في الثلاثين من عمري حين بدأت أشارك في مناقشة رسائل دكتوراه عديدة في الجامعات المصرية . أنا، بدون دكتوراه، ناقشت رسائل في السوربون مع كبار الأساتذة الفرنسيين، مع جاك بيرك، المستشرق العظيم وغيره . في الداخل وفي الخارج عوملت معاملة خاصة . لم تهمهم حكاية اللقب . أنا أدعي لإلقاء محاضرات في هارفارد ولندن وأكسفورد ولا يسبق اسمي لقب دكتور . لست بحاجة له . أحد الزملاء الأعزاء، واعفيني من ذكر اسمه، سافر في بعثة ل " هارفارد " فوجد أستاذه لا يضع لقب الدكتور علي كتبه، فتساءل الزميل، مستنكرا، عن ذلك . لكن الرجل رد عليه بابتسامة . قال له : هذه أشياء قد تهم أرشيف الجامعة، لكنها لا تهمني . زمان في الثلاثينيات كنت تجد أحمد أمين أستاذا دون أن يكون حاصلاً علي الدكتوراه . علي بدوي أستاذنا العظيم . وأنا لست ضد الدكتوراه . ينبغي أن تكون هناك درجات علمية، لتقيس انتاجنا العلمي . أنا كنت خارج السياق، بحكم تميزي العلمي وانتاجي، لا لشيء آخر . من أجل هذا الانتاج تم الاعتراف بي مبكراً في العالم العربي والأوروبي . ولذلك ليس لهذا اللقب، بالنسبة لي أدني أهمية . تفضل وتفضلت . سألته : ما التأثير الذي أدخلته باريس في سياق تطورك؟ - لما ذهبت إلي فرنسا، ذهبت إلي ديجون أولا ً. وقطعت علي يس الطريق للاسترسال في ذكر الأسباب قلت : علشان ديجون ما فيهاش مصريين . أمن علي كلامي قال .. أيوه . وأكمل؟ - ... كانت تدرس لي مادة علم الاجتماع القانوني، إحدي المقررات علي في الدبلوم إياه، واحدة اسمها مزموزيل فسييوره، لم تكن متزوجة . قانونية القانون التقليدي . كانت مبسوطة إنها درست علم الاجتماع القانوني . دي مسألة غير معتادة عندهم في القانون . هي تعرف منهاج البحث . كنا قاعدين ..طلبة فرنسيين وأساتذة ..إلخ . سألت : فيه حد يعرف يعني إيه مناهج البحث . قلت أنا . سألتني تعرف منين . قلت أنا لي كتاب في الموضوع . قبل سفري إلي هناك كنت أخرجت كتاباً عن " أسس البحث الاجتماعي " ألفته مع جمال زكي . كانت مندهشة جداً . المهم الأستاذ فسيوروه كانت أستاذة قديرة . هناك مسابقة علي مستوي فرنسا، لكي تشترك فيها يتحتم عليك الحصول علي ليسانس الحقوق ودبلومتين ودكتوراه الدولة ولابد أن تكون لك أبحاث منشورة . الناجح في هذه المسابقة يصبح أستاذاً في القانون .. بروفيسور . هذا الامتحان تشرف عليه وزارة التعليم الفرنسية لا الجامعات . ينعقد مرة كل سنتين . تسجل فيه كطالب وأنت استاذ في الجامعة . ثم يكون هناك اجتماع في كلية الحقوق بجامعة باريس لمدة 24 ساعة، حاجه كده زي الاعتقال . المهم تسحب سؤالاً وتمتحن فيه أمام اللجنة . السؤال أنت وحظك .. في القانون العام، في القانون الجنائي . المهم ليس من حقك أن تغادر مقر الكلية . من حقك الاستعانة بصديق . نظام هذه المسابقة " الأجريجسيون " إذا كان فيه 23 درجة خالية في الجامعات الفرنسية، سينجح 23 حتي لو عدد المتقدمين ألف . ثانياً ليس من حقك أن تتقدم لهذه السابقة مرتين . لو كنت مدرساً في الكلية ورسبت تظل مدرساً، لكنك لن تكون في يوم من الأيام أستاذا. فسيوروه كانت مدرسة تقدمت لهذه المسابقة وسقطت فتركت الكلية واشتغلت قاضية أحداث . أنا حزنت عليها، لأنها اضطرت للاستقالة، كرامتها العلمية لم تسمح لها بالبقاء في كلية نجح منها زميلان لها في نفس المسابقة . أحد الناجحين كان اسمه ماليوم فو . كان طاووساً وكان أحد أعضاء اللجنة التي ناقشتني في بحثي عن " ذاتية قانون العقوبات " . هذا الرجل قال لي : إيه ده . كنت كاتب فقرة أقول فيها إن " الجزاء ليس عنصراً أساسياً في تعريف القاعدة القانونية " . قال لي .. احنا بندرس للأولاد في سنة اولي كلام غير ده . قلت : سأثبت لك أن كلامك غير صحيح . وقد حدث . هذا هو ما أدخلته باريس . الثقة بالنفس .