موضوع التحول الرقمي من متطلبات بناء الدولة الحديثة، ولم تعد قضية محو الأمية مقصورة علي محو أمية القراءة والكتابة، إنما تتطلب إلي جانب محو أمية القراءة والكتابة، محو الأمية الرقمية، وهذا يتطلب منا مسابقة الزمن في مجالات التأهيل والتدريب والتثقيف الرقمي. ولم يعد الأمر قصرًا علي جهة دون جهة، أو مجال دون مجال، أو فن دون فن، فقد أصبح العالم كله قرية رقمية كبيرة ولا مجال للتعامل الجاد مع هذه القرية دون الدخول من باب التحول الرقمي، وكلما كانت الخطي أسرع والتقنيات أحدث كان ذلك في صالح الأفراد والمؤسسات والشعوب. ويحسب للدولة المصرية توجهها الكبير والسريع نحو التحول الرقمي في جميع المجالات، فالتحول الرقمي يقضي علي كثير من سلبيات العمل الإداري من الواسطة، والمحسوبية، والتعويق الممنهج أحيانًا، والبيروقراطية أحيانًا أخري، ويضع آليات وتوقيتات محددة لإنجاز الأعمال، ويسد الطريق ويغلق المنافذ أمام ضعاف النفوس الذين كانوا يتاجرون بقضاء حوائج الناس التي هي جزء لا يتجزأ من صميم عملهم. إن مفهوم الثقافة قد تغير تبعا لمتغيرات ومستجدات العصر ومن هذا التغير ضرورة التعامل بجدية مع العصر الرقمي والتواصل الإلكتروني والتسويق الرقمي سواء للأفكار أم للمنتجات، وقياس أثر هذا التسويق والوقوف علي أحدث التطورات في هذا العالم الذي لا غني عن اقتحامه والتعامل معه بجسارة. علي أن التحول الرقمي الذي نسعي إليه هو التحول الجاد نحو العمل والإنتاج وتقديم الخدمات بسهولة ويسر، وتسويق المنتجات فكرية أم مادية علي نطاق واسع من خلال الوسائل الأكثر دقة وحداثة وإنتاج التكنولوجيا الرقمية، لا أن نكون مجرد مستهلكين لها، عالة علي غيرنا فيها. إن مفهوم عصر العلم يتطور تطورًا هائلا ومذهلا، ومن الخطأ البين قصر مفهوم العلم الذي حثنا القرآن الكريم علي الاهتمام به علي العلوم الشرعية فحسب، بل يشمل كل ما يحمل نفعًا للناس في شئون دينهم، وشئون دنياهم، في العلوم الشرعية أو العربية، أو علم الطب، أو الصيدلة، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الفلك، أو الهندسة، أو الميكانيكا أو الطاقة، وسائر العلوم والمعارف الذي أصبح عالم الرقمنة يتبوأ موقع الصدارة منها، وأري أن قوله تعالي: »هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»، وقوله تعالي: »فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، أعم من أن نحصر أيًّا منهما أو نقتصره علي علم الشريعة وحده، فالأمر متسع لكل علم نافع، فنسأل كل مختص في مجال اختصاصه، الأطباء في مجال الطب، والمهندسين في مجال الهندسة، والقانونيين في مجال القانون، وعلماء الشريعة في مجالات اختصاصهم، وعالم التكنولوجيا في مجال اختصاصه. إن قيمة العلم إنما تشمل التفوق في كل العلوم التي تنفع الناس في شئون دينهم أو شئون دنياهم، ولذا نري أن قول الله (عز وجل): »إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية ، حيث يقول سبحانه: »أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ»، ويقول سبحانه: »إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَي جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، ويقول سبحانه »يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ»(الرحمن: 33) قال كثير من أهل العلم إن المراد بالسلطان هنا هو سلطان العلم.. وإذا كان تاريخنا الإسلامي والعربي قد حفل بأسماء علماء كبار في العلوم الشرعية واجتهدوا في تحصيلها وعرفوا بمؤلفاتهم حتي صاروا أعلامًا في الفنون والعلوم التي تصدروا فيها من أمثال: الإمام الشافعي، وابن حجر العسقلاني الذي يفرض نفسه علي شروح البخاري، والسيوطي، والزرقاني في علوم القرآن، والشاطبي في موافقاته، وابن خلدون والطبري في علم التاريخ. وفي المجالات العلمية عرف تاريخنا العلمي علماء عظماء من أمثال: ابن النفيس، وابن سينا، وابن الهيثم، وأبو بكر الرازي، وابن البيطار وغيرهم.. فإننا لا يجب أن نقف عند أمجاد هؤلاء العظماء ونركز فقط إلي أننا أصحاب تاريخ عريق في العلم والحضارة بل علينا أن نضع لبناتنا وبصماتنا في التاريخ الإنساني وندخل إليه من باب العلم الحديث الذي أصبح التحول الرقمي أحد أهم معالمه. ونري أن شباب الدعاة من الأئمة والوعاظ، والواعظات أيضًا في حاجة ملحة أن يقتحمن عالمين في غاية الأهمية، هما عالم التحول الرقمي ونظم وتكنولوجيا المعلومات من جهة، وإتقان إحدي اللغات الأجنبية من جهة أخري حتي يستطيعوا التفاعل مع العصر بأدواته، وهو ما نسعي لترسيخه من خلال أكاديمية الأوقاف لتأهيل الأئمة والدعاة والواعظات.