قلب نوفمبر.. الأجواء الخريفية محملة بالشوق الحارق.. الاحتياج الموجع لتلك العاطفة النبيلة المسماة حب بكل التنويعات.. الألوان والتوابع الممكنة.. باقة مجوهرة من المشاعر تموج بالعشق.. المحبة.. الرفق.. الرحمة.. التعاطف.. الوله.. الولع.. المودة.. باقة مزهرة تنعش الوجود المقلق الذي صار يحاكي المغيب الدموي لشمس متضرجة سالت دماؤها وهي تحتضر في ذروة اشتعالها مخلفة لنا أياما ناضحة بغياب المحبة.. الحضور البغيض للكراهية.. القسوة.. الانتهازية.. الغل المتصاعد والرغبة في الثأر من الآخر حتي وإن كان مجهولا، انتقام منزوع المصلحة فأصبحت هناك ظاهرة الانتقام للانتقام علي غرار مدرسة الفن للفن فتجردت الأفئدة من زينتها الأبدية.. الرحمة والمحبة الدافقة لكل آخر هنا وهناك.. ذات ليلة ملهمة بديعة قال ابن عربي: »لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلي دينه داني لقد صار قلبي قابلاً كل صورة.. فمرعي لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف.. وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنَّي توجهت.. ركائبه فالحب ديني وإيماني» 4 نوفمبر عيد الحب المصري هكذا أراد الأب الروحي للصحافة المصرية والعربية مصطفي بك أمين من خلال دعوته الكريمة. تعملق تلاشي الثالوث النفيس.. الحب.. المحبة.. الرحمة في خضم العالم المتعولم المفترس.. هو يقتات علي غياب تلك الأقانيم المؤنسة في هذا الوجود الموحش المكفهر، الناضح بالغربة والخواء رغم امتلائه بهذا التكاثر المربك، وبينما تتضاءل وتخفت جذوة الحب.. لتصبح ظاهرة كونية بثتها السلطة الخفية، السفلية بشيطانها الحديث البراجماتية والأصداء الأفدح تصب لدينا لأسباب متعددة ومن ثم أصبح الحب بتنويعاته ضرورة قصوي، بل فرضاً علينا أن نلوذ به، نتدثر به في مواجهة هزيم النفعية الصارخة، الغل المتفاقم، القبح النفسي، السمعي والبصري، ومن ثم استعرت التعبير القانوني »أمر سلطاني» أو »لو فيه دي برنس» وهو ما يُفعَل في الضرورة القصوي والضرورة القاهرة واليوم استدعاء المحبة ضرورة ملحة وليست رفاهية فبدونها كل شيء أصبح مباحاً.. الفساد.. البغض.. الجريمة.. سفك الدماء لأهون سبب في المحروسة أتأمل المشهد بحزن شفيف ماذا جري للمصري الوريث الشرعي لأعرق وأقدم حضارة عرفتها البشرية، ماذا حدث لهذا الذي يحمل في جيناته من الأعوام 7000 سنة، ماذا ألمَّ بحمّال »الأسية» هذا الذي كابد الاحتلال، الجهالة، الحروب، التطرف، والتجارب المريرة ربما سلبت من روحه العفية، من وعيه، من يقظته، من جسارته وكأنما فرغ من الداخل، توارت الحكمة المعتقة بمذاق 7000 عام، تبخر العمق والامتلاء الداخلي وذائقة الجمال والروعة التي صدرها ذات يوم بهيج إلي العالم أجمع غابت النخبة بمعناها الحقيقي.. الصادق.. الأصيل وتمت عملية الإحلال علي قدم وساق.. وصارت النخبة ذات طابع طبقي، مادي لا ثقافي تنويري، والتمجيد والتصفيق والمدح لما هو زائف، زائل، وهمي أنظر في مجال الأدب!! وتحت طائلة الاستهلاك الأعمي والسطحية وقدسية الآلة والأشياء لا الإنسان، والتكاثر المروع عبر عشرات السنين حيث غاب توجيه السلطة والقدوة لخطورة »أرخص ليالي» عنوان قصة د.يوسف إدريس، ثم ظاهرة الفرقة، التفتيت، التقسيم والتباعد والانطواء الإرادي حتي داخل الصحبة، صار المجتمع منزوع المحبة بل وصل إلي درجة توبيخ من يمد يدا رحيمة لحيوان يرفق به والرحمة لا تتجزأ ولتكن السخرية من نصيب كل من يقدم علي فعل رحيم وجميل من هؤلاء الكثر حيث الغلظة مقيمة في الأفئدة. تقول الأم تريزا: »إننا لا ننعم بالسلام فهذا لأننا نسينا أننا من شجرة واحدة»، »لا نستطيع أن نأتي بأعمال عظيمة باهرة كل ما نستطيعه هو أن نأتي بأعمال صغيرة لكن بحب عظيم»، »الوحدة والشعور بأن أحداً لا يريدك هي أشد أنواع الفقر مدعاة للإزعاج» وتقول إميلي دكنسون: »لا تصبح حياتي عبئاً إن جبرت قلباً مكسوراً لا تصبح حياتي عبئاً إن خففت ألم إنسان أو أعنت طائراً ضعيفاً ليعود إلي عُشه»، »أبحث عن الحب في الرفق بالآخرين ومواساتهم في ظلمة الليل وبرد الشتاء القارس ووسط العراة والمنبوذين» قال وليم بليك: »ليست الحياة ركضاً وراء الجوائز المادية وليست هي الانغماس في الملذات وإنما هي كفاح ليكون المرء صادقاً مع نفسه فالجوائز الحقيقية ليست هي الصحة والثروة والسعادة ذلك الثلاثي المبهج الذي يمكن أن يتلاشي بسهولة أمام أي نفحة من نفحات الحظ العاثر وإنما الجوائز الحقيقية هي الإيمان والأمل والأهم منهما هو الحب» سوزان هواتش. أما الحكاية الصوفية فتقول: »بينما رجل صالح يصلي مر به الأعرج والمتسول والمصاب فخر الرجل الصالح ساجداً وراح يبتهل بعمق يا ربي العظيم كيف وأنت الخالق الرحيم تري هؤلاء ولا تصنع من أجلهم شيئاً؟ فناداه ربه نداءً باطنياً من خلال السكون العظيم »لقد خلقتك كي تعينهم». أتأمل بأسي العلاقات الإنسانية المهشمة امرأة ورجل وثالثهما إشباع رغبة وتابعها يسر الاستغناء »فاست لاف»! Fast Love، فالبدائل جاهزة، متربصة، أبدان وأجساد لا أرواح ونفوس ترنو وتأنس لبعضها البعض، شهوات عابرة والمادة آمرة ناهية، أما الحب بمعناه الساحر، السحري الآسر صرنا نسمع عنه بندرة كئيبة أشبه بمهاجر عاود بمعجزة، العلاقات الأسرية اخترقتها الجرائم المروعة الابن، الأب، الأم، الشقيق ولتذهب الطمأنينة المألوفة إلي الجحيم فكل شيء ممكن وغير ممكن، الصداقة والجيرة حدث ولا حرج، أما الطريق فالتهديد المروع كامن، قائم ويل لمن يحاول عبور الشارع سيلحظ رغبة عارمة في قتله بدون مرجعية منطقية إلا الكبت الاجتماعي والإنساني المزمن وعملية تخليص حق من هذا الكائن المسالم، الأعزل، عابر السبيل الذي طمح فقط في عبور الطريق واستفزاز مشاعر سائق السيارة! فأخيراً وقعت فريسة تحت سطوته، غله وكبته! هكذا أصبحنا. أما أبناء الطبقة الواحدة البورجوازية مثلاً فوقع التفتيت والتقسيم الجغرافي، الاجتماعي والإنساني فيما مضي كان الجميع يرتادون ذات النادي وذات الأمكنة يسكنون بضعة أحياء متقاربة، في نادي الجزيرة علي سبيل المثال أذكر بكل النوستالجيا الموجعة كل الحبايب، المعارف وهذا الحضور المبهج، نادي الجزيرة يحاكي سماء منجومة مرصعة بناس ينتمون لثقافة واحدة مستنيرة، عاشقة للجمال والإبداع لم تتعرض بعد للشوائب.. التشظي والتفتيت، والركض وراء النميمة والمظاهر التافهة وتكديس الأشياء، نضوب الخير والبركة استرجع سنوات المراهقة ها هو مبني الليدو في النادي ذروة الفتنة والألق كل شيء نظيف متوج بالذوق الرفيع للأيام الخوالي، والطبقية أخلاقية، عقلية جمالية تلك التي أؤمن بها لا طبقية مادية، وظيفية مزيفة، تابعها الشر، ها هو الليدو ترصعه حضرة الجميلات الشفاه تحاكي لون الزهور الأرجواني والوردي، الأذرع البضة تضاهي الشموع الشهباء في أعياد الميلاد.. مصر تعرف الجمال ولا تعرف الابتذال، كنا شعبا كله من النخبة، الأحاديث مغلفة بالحرير يبثه المناخ التنويري، الكل تفرق هذا في القطامية والآخر في أكتوبر وهي في المنصورية وهؤلاء هاجروا.. انفرط عقد اللؤلؤ وتكاثرت البيوت وتعملقت العزلة في قلب الصحبة، الأنانية، حب الامتلاك الموجه للأشياء والمقايضة بأي شيء في سبيل الجشع والنهم والجوع التاريخي الذي لا يعرف فضيلة الشبع، الارتواء والاستغناء ومن ثم التعاسة والبؤس المقيم والنفوس الفقيرة المتلمظة لأي بريق من الصفيح وجوهره صدئ.. التطبيع مع القبح وغياب المحبة وجبت مقاومته كلما مررت بالزمالك وشاهدت الكوبري الأسمنتي، الدميم الذي شطر كخنجر آثم الجزيرة البديعة داهمني الأسي، أدعو الله أن نطبّع مع الجمال مرة أخري في يوم قريب.