منذ أيام أفلاطون, أي منذ دخلت الإنسانية في عصر التفكير المنطقي العلمي المنظم, يقول الناس إن الحب حبان. أما الأول فهو الحب الطبيعي المعروف بين رجل وامرأة, وهو حب واقعي غايته المنطقية الزواج وإقامة بيت وأسرة وأولاد...والثاني هو الحب العاطفي, ذلك العشق للعشق, ودون نظر الي بيت أو أولاد. وتدخل في هذا الحب كل العناصر المادية والمعنوية,, فكلا الحبيبين لا بد أن يرضي عن الآخر شكلا وموضوعا, إذ لا يعقل أن يحب رجل امرأة لا يعجبه شكلها, ولا يعقل كذلك أن تحب امرأة رجلا لا يروقها شكله أو لا تعجبها أخلاقه وطريقته في التصرف.. فالحب يقوم في هذه الحالة علي الرضا المتبادل, وقد يقف الأمر عند حد الرضا وقد يصل الي درجة الفتنة, فيفتتن الرجل بالمرأة أو تفتتن المرأة به هذا القول من مقال بعنوان رحلة مع الحب بقلم حسين مؤنس في عدد خاص من مجلة الهلال باسم الحب والجمال, يناير1978 والتي كان يرأس تحريرها حينها. شمل العدد مقالات لأعظم أدباء وكتاب وفناني وصحفي مصر حينها, في موضوعات عامة عن الحب, ومقالات عن الحب والجمال والعلاقة بينهما: الحب والجمال في المأثورات الشعبية بقلم رشدي صالح, والجمال نوع من الهندسة بقلم الدكتور زكي نجيب محمود, وانفعال غامض يرشدني الي الجمال بقلم نجيب محفوظ, والحب أجمل من الأرض والسماء بقلم مصطفي أمين, واللذة في الحب هل هي من العذاب والألم؟ بقلم الدكتور مصطفي محمود, والحب أبقي وأسمي والجمال لحظة ثم يفني, بقلم كمال الملاخ, الجمال اتساق وانسجام في النسب والألوان بقلم صلاح طاهر, من أشهر غنائيات الحب والجمال بقلم دكتور محمد عبد المنعم خاطر, في الحب والجمال لجبران خليل جبران. وشمل العدد موضوعات كثيرة أخري منها: من أجمل مواقف الحب في كتابات طه حسين وعباس محمود العقاد ومصطفي صادق الرافعي وإبراهيم المازني ودكتور زكي مبارك, وشمل أيضا مقالاعن فلسفة الجمال والفن عند أبي حيان التوحيدي بقلم ماهر قنديل, ومقالات عن عالم المرأة ومقالا طبيا بعنوان: ومن الحب ما قتل بقلم دكتور مصطفي الديواني, وشمل عديدا من المقالات عن الحب في الأدب الغربي, ومقالات عن أفلام الحب التي كتبها أدباء شبان, وختاما شعرا عن الحب لسعاد الصباح وإبراهيم عيسي ومصطفي العتريس والبابا شنودة وكامل أمين. كان بحق عددا تاريخيا. كتب المحرر في كلمته عن العدد, مقدما له: هذا العدد الرائع من الهلال يهدي لأمة العرب قطرات من الحب.. قطرات يهديكم إياها مفكرون وكتاب عرب وغير عرب, رسالتهم في الدنيا هي الحب.. لو بيدنا لقررنا في المدارس مادة اسمها المحبة. ولكن هذه الصفحات هي كل ما نستطيع اليوم أن نهديه. وهي إذا قرأتها أحسست أنها أغلي ما يمكن أن يهدي للعربي اليوم: قطرات من الحب. يفرق حسين مؤنس بين الزواج والحب, فيقول: الحب يشترط فيه الرضا والزواج أساسه التراضي, فالمرأة قد تتزوج رجلا لا ترضي عنه ولكنها ترضي به, وقد لا يرضي هو عنها ولكنه يرضي بها, المهم أن يكون هناك تراض بين الطرفين, وقد يتم التراضي بين أهل الرجل وأولياء المرأة, وهنا لا مكان لحب أو رضا. ويتم أكثر من نصف الزيجات في الدنيا علي هذا الأساس, فيحل التراضي محل الحب, ويتم التعويض عن الحب بعناصر أخري لا دخل للحب فيها, فالبنت التي تتفق مع زميلها العامل معها علي أن يتزوجا ويشتركامعا في حمل أعباء الزواج, لا تعرف الحب أصلا, وقد لا تعرفه, وإن ظلت مع زوجها عشرات السنين وأنجبا الكثير من الأولاد يستمر حسين مؤنس في شرح الفرق بين الإثنين: يخطيء الذين يقولون للشاب أو الشابة إن الزواج أولا ثم يأتي الحب, لأن هذا الحب الذي يأتي مع العشرة ليس حبا, وإنما هو رضا وتسليم وقنوع بالقسمة والنصيب. والمتزوجون بأجسادهم وعقولهم دون قلوبهم وعيونهم كثيرون, والعدد في النساء أكثر, لأن المرأة تغلب عليها النزعة الي الزواج والاستقلال ببيت وأسرة وأولاد علي نزعة الحب. يحدثنا عن الحب الروحي, أو عشق الروح فيشخصه أنه نوع من الفتنة لا يعرفه إلا من يعانونه, ومعظمهم من الشباب في مداخل الشباب ونهايات الصبوة, أو من الخياليين غير الواقعيين من الشعراء, سواء قالوا الشعر أم لم يقولوه, وأن هذا الطراز من الحب هو الذي يعرف بالحب العذري. هذا الحب العذري له جماله, لأنه عاطفة تصويرية تحب المحبوب لذاته لا لغرض معين بل لصفة خاصة فيه, وقد أكثر الشعراء في العصور الوسطي في الكلام عنه, لا لأنهم كانوا عشاقا أفلاطويين, بل لأن الحب كله كان مستحيلا, فقد كانت النساء في الشرق ثقيلات الحجاب ولا سبيل للوصول إليهن, وكذلك كانت النبيلات وبنات الأسر في أيام الفروسية في العصور الوسطي, فكان الشاب الرفيق الحال يحب النبيلة من بعيد ولا أمل له في الوصول إليها, وكان أقصي ما يجرؤ عليه هو أن يأخذ قيثارة ويقف تحت شباك المحبوبة ويغني لها أنشودة غرام شمل هذا العدد مواضيع ومقالات رائعة عن الحب الي جانب مقالة الدكتور حسين مؤنس, منها مقال بعنوان الحب والجمال في المأثورات الشعبية المصرية بقلم رشدي صالح نحن نظلم كلمة الحب إذ نقيدها بحدود العلاقة العاطفية بين رجل وإمرأة, لأنها أغني من ذلك بكثير, وأرحب من ذلك بكثير.ونحن نظلم كلمة الجمال إذ نقيدها بالسحر المادي الجسدي الذي يكون لها في النفوس لأنه أثري من ذلك وأعظم.. فالحب قد يكون بين الإنسان والحياة ذاتها, أوبينه وبين الطبيعة, أو بينه وبين أثر صامت يتكلم, لكنه ناطق بالفتنة أو السحر. والجمال قد يعترضنا في شكل فراشة واحدة جميلة, أو برغم لم يتفتح بعدأو قطرة ندي تتشبث بطرف ورقة من أوراق الشجرة قبل أن تشرق الشمس, وقد يلقانا الجمال في صوت نسمعه دون أن نعرف صاحبه, وهل هو همسة من همسات النسيم, أو وشوشة من مياه البحر وهي تتناهي عند شاطيء رملي. إحساسنا بالجمال وبالحب يتكاثر داخلنا بغير إرادة منا مادمنا عشاقا عشاق للحياة, لكنه يتعمق في وجداننا كلما صقلناه بالقراءة ومتابعة الأعمال الفنية الجميلة وإبداع الإنسان في مجالات التعبير بالفن, بل إبداعه في ميدان العلم والبحث ذاته. ونحن أهل مصر لنا مع الجمال تاريخ طويل, فنحن أول من صور الجمال في هيئات فاتنة علي جدران المعابد, ونحن أول من أشاد به في قصائد رائعة من الشعر, ونحن أول من أحس بجمال المرأة, وابتكر أدوات التجميل لزيادة فتنتها, وصورنا ذلك كله بأيدينا تصويرا دقيقاينم عن ملكة جمالية أصيلة رائدة في كياننا. وهناك مقالة لجمال قطب بعنوان: الحب والجمال وعبقرية الفنان خلاصتها أن الجمال والحب صنوان لا يفترقان.. فإن الإنسان لا يحب إلا ماهو جميل في نظره, ومن هنا إختلفت صور الحب والجمال بقدر اختلاف الناس.. ولكن الفنان يتميز بأن رؤيته الجمال والحب تشمل نفسه وغيره.إن الذي يجعلنا أن نقدر الجمال ونحبه هو شيء آخر غير العقل الذي يوازن ويقابل ويبرهن ويعرف الأسباب ويستخلص النتائج, فنحن نفهم الجمال بشيء آخر نسميه البصيرة. وفي نفس العدد كتب نجيب محفوظ فشخص لنا الجمال والحب والعلاقة بينهما تشخيصا أدبيا وفلسفيا بأنه: انفعال غامض يرشدني الي الجمال. إني أقف طويلا أمام شجرة ضخمة في شارع البرج, أو في حقل أزهار في حديقة الزهور أمام منظر السحب في الشتاء أو عند منعطف جسر الجلاء فانفعل انفعالا قد يتغذر اجتلاء فحواه, قل إنه نوع من السرور والوجد والاندماج في الكل, وأشعر نفس الشعور عند سماع أغنية الأطلال أو من قد إيه كنا هنا أو عندما أقرأ قصيدة أو قصة. هذا الانفعال هو مرشدي الي ما يسمي بالجمال, إنه الجزء المشترك بين هذه الأشياء الذي تستجيب له النفس فيحدث هذه المشاعر.... إن ما يربطنا بالجمال هو الحب, غير أن الحب يشمل الجميل والجليل, وما ليس جميلا أو جليلا. الحب أشمل وأثره أبقي, هو خالق الحياة, وخالق القيم والمثل العليا, والنهضات والباب الأول الي سر الكون سبحانه. والأدب يعرض شتي ألوان الجمال وجمال المرأة وجمال الطبيعة وجمال الذكري وجمال الخلق وجمال الوجد الصوفي, يعرضه بالمباشرة الواقعية وبالرمزية. بل إنه يعرضه عندما يعرض القبح في السلوك والحياه باعتباره الوجه الآخر من العملة. وصور الحب تتغير في الأدب تبعا لتطور الكاتب وعلي مدارج العمر, وليس نادرا أن يبدأ شاعر, مثل أبي نواس بالحب الشاذ, وينتهي بما يشبه التصوف والحكمة.. وفي تدرجه هذا يعطي تطلعات النفس البشرية في كافة أعماقها ودرجاتها. وكتب الصحفي والأديب القدير مصطفي أمين مقالا قصيرا بعنوان: الحب أجمل من الأرض والسماء, مفاده أن الله حينما خلق الأرض خلق شيئا جميلا, وعندما خلق السماء خلق شيئا أجمل من الأرض, وعندما خلق الحب خلق شيئا أجمل من الأرض والسماء, وأضاف: من الممكن أن يحب الإنسان امرأة غير جميلة, والجمال ليس هو الجمال الظاهري, فقد رأيت في حياتي جمالا رائعا مختفيا خلف قناع غير جميل, ورأيت غير جميل يلقي في النفس إحساسابالجمال.. وان الحب يؤثر في أكثر من الجمال لأنه من الممكن أن يري الإنسان فينا جمالا لا يحبه, ولكنه لا يستطيع أن يجد حبا ولا يراه جميلا. كانت وجهة نظر الدكتور مصطفي محمود مخالفة لما كتبه الدكتور مؤنس: الحب لا ينفك أبدا عن ثالوث الحب والجنس والقسوة.. وهو لهذا مقضي عليه بالإحباط وخيبة الأمل ومحكوم عليه بالتقلب من الضد الي الضد ومن النقيض الي النقيض.. فيرتد الحب عداوة وينقلب كراهية وتنتحر العواطف.. وذلك هو العذاب. ولهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساسا لزواج, ولا يصلح لبناء البيوت ولا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين..والرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة ففيها الحب وفيها الأخوة وفيها الصداقة وفيها الحنان وفيها التضجية وفيها إنكار الذات وفيها التسامح وفيها العطف وفيها الكرم:. ويختم الدكتور مصطفي محمود مقاله بجملة رائعة: كلنا قادرون علي الحب بحكم الجبلة البشرية وقليل منا هم القادرون علي الرحمة وتحت عنوان: الحب أبقي وأسمي والجمال لحظة ثم يفني, يحدثنا الصحفي الكبير كمال الملاخ, أنه ليس بالجمال وحده يحيا الإنسان, وإنما بالحب لأن الحب أبقي وأكثر أصالة, ويمكننا بالحب وحده أن نحيا مع الإيمان ولقمة العيش ورشفة ماء ونسمة هواء: ولو كان كان الجمال وحده لعشقنا الجماد وتماثيل الجرانيت والرخام. ولكن هل سمعتم عن عاشق ظل يتعبد ويهيم ويفكر في جمال منحوت من صخر, وربما الي لحظة خاطفة أو متعمقة سرعان ما يجذبنا الي روعة الفن ذاته, ثم لا شيء من تيه الحب.... أعود الي الحب والجمال فأقول ما أحلاهما إذا ما اجتمعا وما أندرهما إذا ما بقيا مع الزمان في نضرة تفتحهما, ولكن الواقع دائما يقول أن الحب أبقي وأسمي, وأن الجمال لحظة ثم يفني. أما الفنان القدير صلاح طاهر فيمدنا برؤية الفنان المبدع, موضحا لنا العلاقة بين الجمال والحب من خلال ريشة الرسام. في نظره أن الحب والجمال في العمل الفني يتجلي بأسمي معانيه في عملية التكامل التي ينضج بها العمل.. بمعني أن العمل الفني النفاذ الموحي بأسمي وأحلي حالات الحب والجمال والجلال والروعة هو العمل الذي تتحق فيه القيم الفنية الخالدة, لأن كل فن من الفنون له خصائص معينة يعيش معها الفنان في لحظة إنتاجه ليحققها, أو يحقق معظمها. وبدون تحقيق الخصائص الفنية في العمل الفني لا يكون هناك فن. ويخلص الفنان صلاح طاهر الي إستنتاجه: ولا يشترط في العمل الفني أن يكون جميلا. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك كثير من الأعمال الفنية تتصف بالجمال.. والجمال في تصوري هو حالة اتساق وانسجام في النسب والألوان تعكس حالة مزاجية خاصة قد تلمس مشاعر من كان مستعدا لها من المتلقين. والحب في العمل الفني التشكيلي هو عملية توفيق تامة في الأداء والوصول به الي النفوس المهيأة له.