لم تكن 30 يونيو مجرد تاريخ يمر على الرزنامة، بل كانت لحظة فاصلة، نطقت فيها الأرض المصرية بما لم تستطع السياسة أن تبوح به، وخرج فيها الشعب من صمته الطويل ليكتب بإرادته صفحة جديدة في كتاب الدولة الحديثة. كانت ثورة لا تشبه سواها، لا تقف على منصة واحدة ولا تُختزل في شعارات، بل هي صورة معقدة لوعي نادر، أذهل العالم، وجعل من مصر مدرسة في فن البقاء والاستعادة والاختيار. خرج الملايين إلى الشوارع، لا بدعوة من حزب، ولا تحت راية تيار، بل بدافع فطري خالص، تحركت فيه الغريزة الوطنية قبل الأيديولوجيا، وتقدّمت فيه الهوية المصرية على أي انتماء آخر. 30 يونيو كانت صرخة جمعيّة، ضد الخطف، ضد الوهم، وضد التزييف المتعمد للوعي الجمعي باسم الدين. هي اللحظة التي قرر فيها المصري أن لا يُحكم باسم السماء على حساب الأرض، ولا يُباع الوطن في صفقات الصمت الطويل. في قلب اللحظة.. كانت القيادة تقرأ المشهد بعيون الشعب ومن بين الجموع، كان لابد من قيادة تتحمّل مسؤولية القرار وتعيد للدولة المصرية هيبتها وهيكلها بعد أن نخر فيها العبث. وهنا، برز دور الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليس فقط كقائد عسكري شهد الميدان، بل كصوت اختار أن ينحاز لإرادة الناس دون حسابات ضيقة أو مكاسب آنية. في مرحلة ارتبك فيها الجميع، واتسعت فيها رقعة الضباب، كان قراره حاسمًا، مدفوعًا بثقة المصريين فيه وإيمانهم بأنه يمثّل صوتهم الحقيقي. لكن الدور لم يتوقف عند حدود اللحظة الثورية. فعلى مدى السنوات التي تلت، واجهت مصر تحديات غير مسبوقة، من محاولات بث الفوضى، إلى ملفات الأمن القومي، وصولًا إلى ما يشهده العالم الآن من أزمات ممتدة، وصراعات إقليمية، وضغوط اقتصادية عابرة للحدود. وفي كل هذا، ظل الرئيس السيسي حاضرًا بثبات، يمسك بزمام الأمور في لحظات بدا فيها العالم من حولنا على حافة الانهيار. في مواقف التوتر، كان يتقدم المشهد بلهجة هادئة وواضحة، تؤكد أن مصر لا تهدد أحدًا لكنها لا تقبل المساس بأمنها. وفي ساحات التنمية، كان يسبق الزمن بخطط طويلة المدى، لا تُبنى على شعارات، بل على مشروعات تُرى وتُلمس. ومن خلف كل هذا، ظلت رسالته للشعب واحدة: أن مصر قوية بأبنائها، وأن الدولة لن تُبنى إلا بإرادتهم ومشاركتهم الفعلية. لكن عظمة هذه الثورة لا تكتمل إلا حين نقارن صداها بما يحدث اليوم من تغيرات وتحديات. مصر الآن تقف في مواجهة مع واقع عالمي مضطرب، صراعات إقليمية، وتهديدات رقمية، ووعود مفرغة من الأمل تروّجها منصات خفية. وسط هذا الزخم، تظل 30 يونيو درسًا قائمًا بذاته، يذكّرنا بأن الشعوب الحيّة قادرة على إعادة توجيه مصيرها، مهما اختنق الأفق. وما بين الأمس واليوم، تقف الدولة على أعتاب تحدٍ جديد: ترسيخ مكتسبات ثورة لم تكن فقط لإسقاط نظام، بل لإعادة تعريف معنى الدولة نفسها. في البنية التحتية التي تتجدد، في قرى "حياة كريمة" التي ترتفع من رحم التهميش، في مشاريع الأمن الغذائي، والتعليم، وتمكين الشباب والمرأة... في كل تلك الخطوات، تنبض روح 30 يونيو وكأنها ما زالت تهتف في الميادين. ولعل أكثر ما يستحق التأمل الآن، هو هذا التحول الذي طرأ على عقل المواطن المصري. لم يعد يكتفي بالفرجة، ولا بالانفعال اللحظي، بل بات أكثر تحليلًا، أكثر تساؤلًا، وأكثر مطالبة بالمحاسبة. وهنا، نجد أنفسنا أمام جيل جديد، تشكّل وعيه من رحم الصدمات، لكنه يطالب بأكثر من النجاة: يطالب بالجودة، بالكرامة، بالمستقبل الحقيقي. 30 يونيو ليست مجرد ذكرى إنها وعدٌ مستمر بأن لا تعود مصر إلى الخلف، وبأن صوت الناس لن يُختزل مرة أخرى في صناديق مغلقة، ولا في شعارات مؤقتة. إنها لحظة تجديد لعهد لا يكتبه الحاكم فقط، بل يوقّع عليه الشعب كل يوم بمراقبته، بصبره، وبثقته المتجددة في نفسه. عزيزي القارئ، 30 يونيو ليست رواية سياسية، بل هي اختبار دائم لوعينا كمصريين. فكل أزمة تمر، وكل تحدٍ جديد، هو فرصة لنراجع فهمنا للثورة، لا كحكاية ماضية، بل كمنهج حياة. السؤال الآن ليس فقط: "ماذا حدث؟" بل الأهم: "ماذا سنفعل بما حدث؟". تذكّر دائمًا أن الثورة الحقيقية لا تبدأ في الميادين، بل في الضمير، وفي قرارك أن لا تسمح للتاريخ أن يُكتَب دونك.