للمرة المليون أنبِّه سيادتك إلى حقيقة أننا أطلقنا ثورة عارمة رائعة دفعنا فيها من دماء وأرواح ونور عيون أنبل وأجمل شبابنا حتى نقوم من رقدتنا التى طالت وننهض من كبوتنا ونسابق الزمن لتعويض ما فاتنا، غير أن حصاد الثورة سقط (بفعل فاعل ناقص العقل ومعدوم الضمير) فى حجر أشد القوى والجماعات تأخرا وظلاما وأكثرها استهتارا وعداء للحريات والحقوق الإنسانية.. فهل تريد حضرتك أن تتأكد أن سيارة الوطن ترجع الآن فعلا إلى الخلف وتندفع بقوة إلى منطقة ظلام دامس وغباوة وجاهلية جديدة؟ هل تحتاج إلى أن ترى آية أو ملمحا واحدا من ملامح المستقبل المظلم التى يجاهد هؤلاء القوم الظالمون القابضون حاليا على كل السلطات فى البلد لكى يجرجرونا إليه؟ وهل ينقصك دليل يثبت أن اللجنة البائسة المشوهة التى صنعوها فى أقبية «الجماعة» السرية الحاكمة لتكتب دستورا لمصر سوف تصنع إن شاء الله، أسوأ وأسود وثيقة دستورية فى تاريخنا الحديث والمعاصر كله، بل ربما تكون واحدة من أبشع الوثائق التى عرفتها أمم العالم شرقا وغربا؟ فى السطور المقبلة سأنتقى لحضرتك من بين عشرات الأدلة التى تسربت من المغارة المعتمة التى يجهزون فيها الطبخة الدستورية المسمومة (ممكن تقول «المشمومة») دليلا واحدا فقط يخص حق المصريين فى التمتع بحرية التعبير والصحافة والإعلام، تاركا باقى أدلة البلاوى التى يدبرونها لشعبنا الغلبان فى دستورهم إلى مناسبات تعيسة أخرى. وأبدأ بما كتبته مرات عدة من قبل (لأن التكرار يفيد الشطار وقد يُعلم الأستاذ الحمار) وخلاصته أن حرية التعبير والإعلام والصحافة ليست مطلبا فئويا ولا هى ميزة أو «ريشة» يسعى الصحفيون والمثقفون أن يميزوا أنفسهم ويزينوا رؤوسهم بها، كما يهلفط قطعان الجهلاء هذه الأيام (تلك «الريشة» بالذات من مخلفات المخلوع أفندى) وإنما هذه الحرية حق للمجتمع والناس العاديين جميعا، ومصداقا لهذا المعنى فإن ترسانة النصوص التشريعية الرديئة الموروثة والمتراكمة فى قانون العقوبات المصرى منذ عهود الاستعمار حتى عهد المخلوع، ليس فيها كلمة واحدة عن الصحفيين، وإنما تنصب كلها على تجريم أفعال التعبير وتعاقب كل مواطن يمارس هذا الحق بأى وسيلة من وسائل «العلانية» ابتداء من الهتاف (تسمية المادة 171 من قانون العقوبات «الجهر بالصياح») والغناء حتى الصحف ووسائل الاتصال والإعلام الأخرى. إذن، خلصنا من الادعاءات «الحميرية» اللئيمة التى تحاول تزييف القضية وتزوير معانيها الواضحة وتحويلها إلى نقاش جاهل فى أصل الحق وأصحابه، فأصحابه ليسوا فئة بعينها، وإنما الشعب كله.. هذا الشعب كافح كفاحا مضنيا وطويلا لكى يتحرر ويتخلص من ترسانة القيود الهائلة التى تكبل حقه فى التمتع بصحافة وإعلام حر، واستطاع خلال مسيرة نضال استمرت جيلا بعد جيل أن ينتزع بعض المكاسب ويحرز بعض الانتصارات، منها مثلا إسقاط نصوص قانونية كانت تسمح (أيام الاحتلال) بإغلاق الصحف وإلغاء تراخيصها، وقد تحقق هذا النصر فى نهاية الربع الأول من القرن الماضى (مع العمل بدستور 1923) ولكن بقيت للحكومات بنود وتشريعات أخرى تمكنها من «التعطيل المؤقت» للصحف أو مصادرة بعض أعدادها، غير أننا كسبنا الخلاص من هذا القيد أيضا فى السنوات الأخيرة من حكم الأستاذ المخلوع (عام 2006) فلم يعد ممكنا إلغاء أو تعطيل أو مصادرة الصحف بأى طريق إدارى أو قضائى. كذلك حقق المصريون فى العام نفسه انتصارا جزئيا آخر عندما نجحت ضغوط الصحفيين والكتاب والمثقفين والمبدعين الشرفاء فى إجبار نظام مبارك على إلغاء بعض النصوص الشاذة فى ترسانة القيود الهائلة على حرية التعبير، وأبرزها استبدال عقوبة الغرامة بعقوبة السجن فى بضع مواد قليلة، أهمها المادة المتعلقة بجريمة «السب والقذف».. وتآكلت المساحة، فانتظر للغد لكى أشرح لحضرتك كيف أن سيارة البلد ترجع إلى الخلف عمدا بسبب أن سائقها الحالى لا يفوق شره وغباوته إلا عماه