تركت أمس هذه المساحة فارغة إلا من سطور قليلة أعلمت فيها القراء الأعزاء بأن محيط البياض الواسع حولها هو احتجاج رمزى على بشائر العصر الأسود، الذى تجاهد الست جماعة الإخوان وذراعها الرئاسية حاليا لكى تجرجرا بلدنا ومجتمعنا إليه.. ومن نكد الدنيا أن يحدث هذا بعد ثورة رائعة دفع فيها شعبنا من دماء وأرواح ونور عيون أجمل وأنبه شبابه ثمن حلمه المشروع أن يتمكن من بناء وطن جديد ينهض ويزهو ويتألق بين أمم الدنيا بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، غير أن أول حصاد الثورة سقط للأسف فى حضن قوى غاشمة ظالمة ومظلمة العقل لا تدارى خصامها وعداءها الشديد لكل قيم ومنجزات الحضارة الإنسانية، وفى مقدمتها تلك الأهداف الثورية النبيلة التى أنفق عبد الله، كاتب هذه السطور، ثلاثة أرباع عمره وهو يحلم بها ويعمل (بتواضع وقدر الطاقة) من أجل أن يراها تتحقق على أرض الواقع، ولو ليوم واحد قبل أن يلقى وجه رب كريم. قلت أمس إننى لا أتضامن مع زميل شاء قدره أن يكون أول قافلة أصحاب الرأى المشرعة أمامهم الآن أبواب سجون عصر مرسى وجماعته، ولكنى أتضامن مع نفسى ومع شعب غلبان خرج بالدم من أسْر نظام فاسد وفاشل وقمعى، لكن البؤس والإنهاك الطويل أوقعاه بين أنياب جماعات تبدو أشد قسوة وأكثر إصرارا على تأسيس نظام حكم بديل، ينافس وربما يتفوق على حكم مبارك فى الفشل المحمى بالقمع والإرهاب. تعبنا (على الأقل أنا تعبت) من الكتابة والكلام عن ترسانة الزبالة القانونية والتشريعية التى تكاد لو طبقت كلها أن تصادر وتمنع عن الناس حق التنفس، وقد ورثتها «الجماعة» من المخلوع ولم تكتف بالحفاظ عليها مصونة لا تمس، وإنما راحت تسعى لتنميتها وإضافة قيود جديدة عليها، بل لقد بلغ بها الجنون والتهور حد أنها تحاول الآن «دسترتها» وتحويل أحكامها ونصوصها الشاذة إلى تكليفات وأوامر دستورية! طبعا الست الجماعة المذكورة التى تمسك بيديها الكريمتين الآن كل السلطات فى البلد لم تُبقِ على هذه الترسانة الرهيبة لتستمتع بالفرجة عليها أو تزين بها «متحف الزبالة»، وإنما استبقتها وتعضّ عليها بالنواجذ لكى تستخدمها وتطوعها لخدمة خطة «تمكين» جنابها من خطف مصر دولة ومجتمعا وإقامة سلطنة ظلام وخراب تتواضع بجوارها كل أنظمة الاستبداد والاستغلال التى عرفها تاريخنا الحديث.. هذا هو ما شاهدنا إشاراته وأدلته المادية تتراكم أمام عيوننا، إذ استطاعت «الجماعة» وذراعها الرئاسية أن تنفذ فى أسابيع قليلة هجمات وعربدات واعتداءات على حريات التعبير والصحافة، تماثل فى الحجم تقريبا ما ارتكبه نظام مبارك فى ثلاثين عاما، بل لقد تميزت ارتكابات الجماعة أحيانا بفداحة أكبر وإجرام أسوأ، مثل واقعة حصار مدينة الإنتاج الإعلامى بعصابات جهولة راحت تعتدى بدنيا على الداخلين والخارجين من المدينة، وكذلك لجوء الرئيس مرسى (عبر حفنة من أتباع جماعته) إلى تفعيل نص قانونى ردىء وشنيع لا مثيل له فى كل بلدان الدنيا المتحضرة، إذ يجعل من رئيس الدولة «بقرة مقدسة» محصنة ضد أى نقد أو خلاف، وهو نص من فرط بشاعته وشذوذه لم يجرؤ أى رئيس سابق (بمن فيهم مبارك) على استخدامه، غير أن فضيلة الشيخ الرئيس محمد مرسى لم يشعر بأى غضاضة ولا حرج من التوسل به لإرهاب وعقاب معارضيه، على نحو ما جرى مع الزميل إسلام عفيفى رئيس تحرير صحيفة «الدستور»، وما ينتظر الزميلين والصديقين العزيزين عادل حمودة وعبد الحليم قنديل. وأختم، بأن الإعلان عن تعديل النص المذكور بتجريده فقط من الحبس الاحتياطى وإبقاء أصله الشنيع كما هو، ليس إلا خديعة تافهة وعبيطة تعجز عن إقناع أى أهبل فى هذه الدنيا الواسعة بأن إنقاذ زميلنا عفيفى من الحبس بضعة أسابيع قليلة يكفى للرضا والصمت على احتمال حبس الزميل نفسه وزملاء آخرين، لمدة ثلاث سنوات إذا ما أدينوا بتهمة المس ب«البقرة المقدسة».