فى قلب الحرب الروسية الأوكرانية، التى أدمت أوروبا منذ أكثر من عامين، يطفو ملف إنسانى خطير يتجاوز خطوط النار وساحات القتال، ليكشف عن واحدة من أبشع صور النزاع: ترحيل الأطفال الأوكرانيين قسرًا وإخضاعهم لبرامج إعادة تأهيل وتدريب عسكرى على الأراضى الروسية. تقرير جديد صادر عن جامعة ييل الأمريكية يضع العالم أمام أرقام صادمة، إذ وثّق أكثر من 210 مواقع نُقل إليها هؤلاء الأطفال، حيث يتلقون تدريبات على القتال وتجميع الطائرات المسيّرة، بل ويُعرض بعضهم للتبنى داخل روسيا. وبينما تؤكد كييف أن ما يجرى يمثل جريمة حرب تستهدف اقتلاع هوية الأجيال الأوكرانية، تصر موسكو على أن الأمر لا يعدو كونه "إجلاءً إنسانيًا". بين النفى الروسى والتوثيق الدولي، يتسع الشرخ وتتعاظم المأساة، ليصبح الأطفال الحلقة الأضعف فى حرب لا ترحم. حرب لا ترحم حددت أبحاث ممولة من الولاياتالمتحدة أكثر من 210 مواقع تم فيها نقل أطفال أوكرانيين لتلقى تدريبات عسكرية وتصنيع طائرات بدون طيار، وغير ذلك من برامج إعادة التأهيل القسرى من قبل روسيا، كجزء من برنامج ترحيل واسع النطاق. وقالت كلية الصحة العامة بجامعة ييل فى تقرير نُشر أمس الثلاثاء، إنه تم اكتشاف أكثر من 150 موقعًا جديدًا منذ نشر نتائجها العام الماضي، عندما زعمت أن طائرات رئاسية روسية استُخدمت لنقل الأطفال. وفى أحدث الأبحاث التى أجراها مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لجامعة ييل، والتى تستند إلى معلومات مفتوحة المصدر وصور الأقمار الصناعية، إن ما يقرب من نصف هذه المواقع تديرها الحكومة الروسية. وذكر التقرير أن هذا "يمثل أكبر عدد من المواقع التى نُقل إليها أطفال من أوكرانيا، والذى نُشر حتى الآن". وأضاف: "يُرجّح أن يكون العدد الفعلى أعلى، نظرًا لوجود مواقع متعددة لا تزال قيد التحقيق من قِبل منظمة حقوق الإنسان، وقد توجد مواقع إضافية لم تُحدد بعد". تقول أوكرانيا إن روسيا رحّلت أو شرّدت قسرًا أكثر من 19.500 طفل إلى روسيا وبيلاروسيا، فى انتهاك لاتفاقيات جنيف. فى يونيو قدّرت جامعة ييل أن هذا الرقم قد يكون أقرب إلى 35.000 طفل. وتنفى روسيا أنها تأخذ الأطفال ضد إرادتهم وتقول إنها تقوم بإجلاء الأشخاص طواعية لإخراجهم من منطقة الحرب. ولم يستجب الكرملين على الفور لطلب التعليق على التقرير الأخير. وذكر التقرير الأخير أن باحثى جامعة ييل "يمكنهم أن يستنتجوا أن روسيا تدير نظاما غير مسبوق محتمل لإعادة التأهيل والتدريب العسكرى ومرافق الإقامة على نطاق واسع، قادرة على احتجاز عشرات الآلاف من الأطفال من أوكرانيا لفترات طويلة من الزمن". كان برنامج جامعة ييل، الذى أوقفت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تمويله، قد تعقب فى السابق 314 طفلًا أوكرانيًا إلى مواقع إلكترونية تابعة للحكومة الروسية، حيث تم عرضهم للتبنى من قبل عائلات روسية. تجنيد الأطفال لقد ارتفع عدد الأطفال الأوكرانيين الذين تم نقلهم وشبكة المرافق التى يتم احتجازهم فيها منذ أن نشرت جامعة ييل نتائجها لأول مرة فى عام 2023، عندما قدرت أن 6000 طفل تم نقلهم إلى 43 معسكرًا. ودعمت هذه النتائج أوامر الاعتقال التى أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى عام 2023 بحق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ومفوضة حقوق الطفل ماريا لفوفا بيلوفا، متهمة إياهما بالترحيل غير القانونى للأطفال، وهى جريمة حرب. وقال ناثانيال ريموند، المدير التنفيذى لمختبر الأبحاث الإنسانية، لرويترز: "الخبر السار هو أننا نعرف الآن تمامًا نطاق ما نتعامل معه. أما الخبر السيئ فهو أن معالجة هذه المشكلة، وإعادة هؤلاء الأطفال إلى ديارهم، تعتمد على وحدة عالمية شاملة ومطلقة". وتقول جامعة ييل إنه منذ الغزو الروسى الكامل لأوكرانيا فى فبراير، تم نقل الأطفال الأوكرانيين إلى مواقع منتشرة على مسافة 3500 ميل (5600 كيلومتر)، بما فى ذلك مدارس الكاديت، وقاعدة عسكرية، ومرافق طبية، وموقع ديني، ومدارس ثانوية وجامعات، ودور أيتام، وفى أغلب الأحيان، معسكرات ومصحات. وأضافت أن التدريب العسكرى للأطفال الأوكرانيين جرى فى 39 موقعا على الأقل، وتم تحديد 34 من هذه المرافق على الأقل حديثا. تم نقل الأطفال الأوكرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 8 إلى 18 عامًا إلى معسكرات وقاعدة عسكرية حيث خضعوا لبرامج عسكرية، بما فى ذلك التدريب على القتال، والاستعراضات الاحتفالية والتدريبات، وتجميع الطائرات بدون طيار وغيرها من المواد، والتعليم فى التاريخ العسكري. كما شاركوا فى مسابقات الرماية، ومسابقات رمى القنابل اليدوية، والطب التكتيكي، والسيطرة على الطائرات بدون طيار، والتدريب التكتيكي. فى إحدى الحالات، أفادت جامعة ييل بتلقى أطفال من منطقة دونيتسك "تدريبًا جويًا" فى قاعدة عسكرية. وأوضحت أن هؤلاء الأطفال نُقلوا إلى القاعدة على متن طائرة تابعة لإدارة الممتلكات الرئاسية التابعة للإدارة الرئاسية الروسية. الاحتلال الروسي وأعلن مفوض حقوق الإنسان الأوكرانى هذا الشهر عودة أكثر من 1600 طفل مُرحّل. وكتب أندريه يرماك، رئيس ديوان الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي، على تيليجرام أمس الأول الاثنين أن 16 طفلًا آخرين أُعيدوا إلى ديارهم بعد أن قضوا "سنوات تحت وطأة الاحتلال الروسي، فى خوف وإذلال". فى النهاية، يبقى ملف الأطفال الأوكرانيين المرحّلين قسرًا أحد أبرز الجوانب المثيرة للجدل فى الحرب الدائرة، ليس فقط لكونه موضع اتهام بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بل لأنه يرتبط بمصير جيل كامل يتم إبعاده عن بيئته الأصلية وإعادة دمجه فى سياق مغاير. وبينما تستمر أوكرانيا فى إثارة القضية على مختلف المنصات الدولية، وتواصل موسكو نفيها للاتهامات، تظل الحقائق الموثقة موضع متابعة ورصد من المنظمات الحقوقية والجهات القضائية الدولية. وتكتسب هذه القضية أبعادًا أوسع باعتبارها اختبارًا لقدرة المجتمع الدولى على التعامل مع الانتهاكات فى أوقات النزاعات، خصوصًا عندما يكون المتضررون هم الفئة الأكثر هشاشة وهى الأطفال. ويظل مستقبل هؤلاء مرتبطًا بمدى فاعلية الجهود الدبلوماسية والقانونية فى التوصل إلى آلية تضمن عودتهم، أو على الأقل حماية حقوقهم الأساسية فى ظل ظروف الحرب المستمرة. فبين النفى الروسى والاتهامات الدولية، يظل مصير آلاف الأطفال الأوكرانيين المفقودين معلقًا، فى انتظار حسمٍ لا يزال بعيدًا.