شىء خطير وعجيب يحدث الآن فى هذا البلد.. والحق أنه ليس شيئا واحدا وإنما فيض هائل من الظواهر والأشياء والأحداث المثيرة للقرف والغضب والاشمئزاز ربما أكثر من الدهشة والعجب، وقد اخترت منها بالأمس بعض التجليات وأضيف اليوم تجليا آخر يبدو بليغا جدا فى التعبير عن المحنة التى نعيشها وتشهد عليها تلك الحرب القذرة التى تشنها حاليا قوى الظلم والظلام والتخلف من أجل سحق وهزيمة ثورة عارمة دفعنا فيها ثمنا باهظا فإذا بثمارها تسقط (عمدا وبتخطيط إجرامى) فى حِجر أشد مخلوقات الله خصاما وعداء للحقوق الإنسانية عموما وبالذات الحق فى الحرية. باختصار، ألاحظ هذه الأيام (وكما يحدث عادة فى الحروب) ذلك القذف المدفعى المركز وهذا التمهيد الكثيف بالنيران لمسرح العمليات قبل أن تتقدم جيوش العدوان لاحتلال الأرض وتدمير الخصم الذى هو هنا حق المصريين فى التمتع بالحريات كلها وبخاصة حقهم فى إعلام وصحافة وتعبير حر.. فليس من قبيل المصادفات أبدا ما نراه ونسمعه ونقرؤه الآن من تحريض هابط وسافر وسافل على الصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة فى الوقت عينه الذى تتسرب فيه روائح كريهة وعفنة من شقوق مغارة مظلمة تقعد فيها لجنة عاجزة مشوهة فبركوها وفصّلوها على مقاسهم لكى تصنع دستورا للبلاد لن يقل سوءا وتشوُّهًا وتخلفا عن الأغلبية المهيمنة على هذه اللجنة الشيطانية، بل لعله سيكون الوثيقة الدستورية الأسوأ، ليس فى تاريخنا الحديث فحسب، بل قد يكون من أدنى وأوطى هذا النوع من الوثائق فى العالم بأسره. إن التسريبات التى تصل إلينا من بنود «دستورهم» تشى بأن هدف جماعات الظلام المهيمنة على كل السلطات فى البلد حاليا، هو «دسترة» مصادرة حقوق الناس وكبت حرياتهم وتكميم أفواههم بحيث لا يعود بمقدورنا (مثلما كنا نفعل فى الماضى) محاججة الظلمة والمستبدين والديكتاتوريين بالمبادئ المنصوص عليها فى بنود الدستور إذ ستصبح هذه البنود نفسها هى المصدر والمرجعية القانونية الأعلى للقمع والقهر، وهى التى ستشرعن التأخر وتوجه وتأمر بالعدوان. فى ظل هذا الوضع الرهيب وغير المسبوق، تنطلق أبواق وألسنة وأقلام قطعان أغلبها منحط ووضيع أصلا وتاريخه متخم بوقائع مخزية إذ كان يُستأجر (من المباحث) للعب أقذر الأدوار فى حملات الهجوم على حرية الصحافة، لكن المحزن حقا أن بعض الذين رسموا لأنفسهم صورا محترمة فى أذهان الناس تنكروا لتاريخهم وانقلبوا بفجاجة على ما كانوا حتى الأمس القريب يدّعونه من التزام صارم بقيم الحرية وأصولها، وراحوا يشاركون بنشاط ملحوظ وغِلٍّ محسوس فى حرب الأكاذيب والتحريض الصريح على الحريات الصحفية والإعلامية، وهى حرب لا يبدو لها أى هدف سوى تسويغ وتسويق الطبخة الدستورية المسمومة التى يطبخها الظلاميون الفاشيون الآن لحرمان الشعب المصرى ليس فقط من حقه فى التمتع بحرية مكفولة ومصونة ومحمية دستوريا، بل إطفاء النور تماما والانقضاض على هامش الحرية القائم حاليا بقوة الأمر الواقع الذى نستخدمه على مسؤوليتنا وتحت الظلال الثقيلة لترسانة رهيبة من التشريعات الشاذة التى تجعله مجرد هامش «عرفى» مهدَّد طول الوقت بالانكماش ومحفوف بخطر الزج فى الزنازين والسجون. ولا أستطيع أن أنهى هذه السطور من دون إشارة إلى واحدة من أعجب (لكى لا أقول أسخف) ما أنتجته قريحة المتورطين فى الهجوم على الصحافة والإعلام والتشهير بهما، فقد قرأت أول من أمس سطور مقال نشره كاتب مرموق (أحمل له ودا واحتراما كبيرين دفعانى ذات يوم إلى الاختلاف علنًا وبعنف لأمَسّ حدود القسوة مع صديق عزيز تجرأ على هذا الكاتب وهاجمه) انطوت هذه السطور على آية مذهلة من آيات قلب الحق الواضح إلى باطل مفضوح.. كيف؟! لقد وجه الكاتب الكبير لوما شديدا إلى الصحف ووسائل الإعلام لأنها قامت بواجبها ونشرت وبثت نبأ الفعلة الإجرامية النكراء التى ارتكبها رجل لا يوجد فى قاموس اللغة وصف مهذب لحالته العقلية والروحية، عندما أقدم على حرق «الإنجيل» علنًا فى الشارع وهدد بأنه سيأتى بحفيده الصغير لكى يتبول على الكتاب المقدس أمام الكاتدرائية! أظن أن دواعى العجب من هذا الذى ذهب إليه كاتبنا المرموق واضحة، لكن الأمر قد يتجاوز مجرد التعجب إلى الغضب الشديد لو كنت قرأت مثلى باقى ما تضمنه المقال المذكور، إذ لم يكتف الكاتب باللوم والتحريض على وسائل الإعلام واعتبار قيامها بنشر هذا الخبر المرعب دليلا على ما سماه «انفلاتا» إعلاميا، وإنما أمعن فى الغرابة لدرجة أنه بدا شديد الحنان والرفق بالمجرم الأصلى بطل الخبر، إذ لم يُشِر مجرد إشارة إلى ضرورة تقديمه للعدالة بتهمة ازدراء الدين المسيحى ومحاولة إشعال حريق طائفى فى جسد الوطن المنهك، وإنما قال عن هذا المجرم: «صاحبنا الذى مزق الإنجيل»، واصفا إياه مرة بأنه مجرد «مغالٍ ومتشنج»، ومرة أخرى بأنه «يفتقر إلى الحد الأدنى من المسؤولية، فضلا عن الذوق والحس السليم».. فهل يعاقب القانون أحدا على فقدانه «الحس والذوق»؟! طبعا لأ، المفروض أن يعاقب ويجتث «المنفلتىن» فحسب!!