رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت خلال السنوات الماضية للحد من انتشار فكر الجماعات المتشددة، لا تزال بعض هذه الجماعات وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية، تحاول العودة والتأثير من جديد، خاصة بين الشباب، مستخدمة شعارات دينية وسياسية تبدو جذابة فى ظاهرها، لكنها تحمل أفكارًا مغلوطة تدفع نحو العنف والانقسام، حيث استُخدم الدين فى غير موضعه لتبرير العنف واستقطاب الشباب.. في هذا التحقيق تناقش «الأخبار» مع الخبراء السبل الكفيلة بحماية الشباب من الإنجراف وراء هذا الفكر، وما حقيقة الشعارات التى يتم الترويج لها، وما الدور الذى يمكن أن تلعبه الأسرة والمدرسة والإعلام فى توعية الشباب وحمايتهم من الوقوع فى هذا الفخ. ◄ الخبراء: الانعزال ورفض الحوار.. أولى علامات التأثر بالفكر المتشدد ◄ الفراغ القيمي وغياب القدوة أبرز أسباب الانحراف ◄ أوهام «القيادة والجهاد» سر السقوط في بئر التطرف ◄ الأسرة والمدرسة من أهم طرق الحماية ◄ المناعة الفكرية يجب أن تبدأ من الطفولة يرى د. محمد ممدوح، رئيس مجلس أمناء مجلس الشباب المصري وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أن الشباب لا يُولد متطرفًا، وإنما يُدفع دفعًا إلى هذا الطريق حين تتكاثر حوله عوامل الضعف والإضطراب، وتقل من حوله فرص الأمل والتعبير والمشاركة، فالاستقطاب لا يحدث فى الفراغ، بل يتسلل إلى نفس الشاب حين يجد نفسه محاطًا بشعور بالغربة داخل مجتمعه، أو غارقًا فى تساؤلات وجودية دون إجابات، أو مهمشًا لا يشعر بقيمته فى محيطه. ويؤكد أن الجماعات المتشددة تتقن اللعب على أوتار النفس الإنسانية، فهى لا تخاطب العقل فقط، بل تخاطب أيضًا الاحتياج العاطفى العميق للانتماء، والبطولة، والرسالة، والعدالة، فالشاب ينجذب إلى الشعارات التى تمنحه شعورًا زائفًا بالقوة والتميز، خاصة فى ظل ضعف أدوات التفكير النقدى وغياب القدوة، وهنا تتحمل البيئة المحيطة سواء الأسرة، أو التعليم، أو المجتمع جانبًا كبيرًا من المسئولية فى تشكيل هذه القابلية للاستقطاب. وللتعامل مع هذه الظاهرة من الجذور، يرى ممدوح أن بناء المناعة الفكرية للشباب لا يكون من خلال الخطب الوعظية أو الندوات الموسمية، بل عبر عملية تربوية ممتدة تبدأ من الطفولة وتستمر مدى الحياة، شباب اليوم بحاجة إلى تعليم يحرر عقولهم، ويعلمهم كيف يفكرون ويسألون ويقارنون، لا كيف يرددون فقط ما يُملى عليهم، فهذا لا يتحقق إلا بمنظومة تعليمية تشجع التفكير النقدى، وتفسح المجال للنقاش الحر، وتقدم نماذج واقعية قريبة من الشباب، تتحدث بلغتهم وتفهم تحدياتهم. ◄ الشعارات المتطرفة ويشير ممدوح إلى أن الشعارات المتطرفة تنجح لأنها تملأ فراغًا، وبالتالى لا بد من ملء هذا الفراغ بالمعرفة والفهم العميق، وبفهم حقيقى لمقاصد الدين، ولقيم العيش المشترك وحقوق الإنسان، حين يُربى الشاب على أن الإسلام ليس مجرد طقوس، بل هو قيم رحمة وعدالة وتكافل، وأن السياسة ليست صراعًا على السلطة، بل وسيلة لإدارة الخلاف والتنوع، يصبح لديه وعى يحصنه من محاولات التضليل. وكذلك الوعى السياسي والدينى المتوازن، هو ما يجعل الشاب يفرق بين الدين كرسالة تحرر وارتقاء، وبين من يستغله لتبرير الاستبداد والعنف، وهو ما يجعله يميز بين السياسة كأداة لبناء المستقبل، وبين من يوظفها لبث الكراهية والانقسام. وبناء هذا الوعى يحتاج إلى إرادة مؤسسية حقيقية، تراجع ما يُقدم للشباب من مناهج تعليمية وخطاب دينى وإعلامى، كما يحتاج إلى أن يعيش الشباب تجارب حقيقية يشاركون فيها لا كمجرد متلقين، بل كصناع للحدث، عبر التدريب، والبرلمانات الطلابية، وبرامج التثقيف المجتمعى والدينى والحقوقى. ويشدد ممدوح على أن الأنشطة الثقافية والرياضية ليست ترفًا، بل أدوات فعالة لبناء شخصية متوازنة، فمن خلال عمله الميدانى مع آلاف الشباب، يؤكد أن المسرح قد ينقذ شابًا من التطرف، وأن مباراة كرة قدم قد تزرع بداخله التسامح والانتماء. فالثقافة توسع أفق الشاب وتعلمه تقبل الاختلاف، والرياضة تغرس فيه الانضباط وروح الفريق والمنافسة الشريفة، وبينما تملأ الجماعات المتشددة أوقات الفراغ بالشعارات، يجب أن نملأها نحن بالفن، والإبداع، والحوار، والمعنى الحقيقى للانتماء. ◄ اقرأ أيضًا | إخوان بنى صهيون |من منصات التضليل إلى تظاهرات الخيانة ◄ برامج تطوعية ويؤمن ممدوح بأن للمجتمع المدنى دورًا مهمًا فى هذا السياق، إذ يملك القدرة على الوصول إلى الشباب فى أماكنهم، ويمتلك أدوات مرنة وسريعة التأثير من خلال تجاربه فى مجلس الشباب المصرى، الذى أكد أن برنامجًا تطوعيًا بسيطًا قد يُحدث فارقًا حقيقيًا فى حياة شاب كان على حافة الانعزال أو التطرف، فعندما ينخرط الشباب فى أعمال تطوعية وحوارية، يشعرون بأن لهم دورًا وصوتًا، مما يخفف من فرص انزلاقهم إلى مسارات خطرة. ولا يمكن تجاهل الدور الجوهرى للمناهج التعليمية، التى يراها ممدوح فى حاجة إلى مراجعة شاملة، فتعليم الدين يركز على القواعد والعبادات، دون أن يلامس جوهر القيم والمقاصد العليا، بينما المطلوب هو تعليم يُربى التفكير، ويُدرب على التمييز بين الحقيقة والدعاية، ويغرس قيمة قبول الاختلاف، وهذا لا يتحقق بالمناهج فقط، بل يحتاج إلى معلم مؤهل وبيئة تعليمية تحترم عقل الطالب وتشجعه على التعبير لا التلقين.. وفيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعى، يصفها ممدوح بأنها «المجتمع الموازى» الذى يتشكل فيه وعى الشباب، وبالتالى فإن ترك هذا الفضاء خاليًا للخطاب المتشدد يُعد تقصيرًا كبيرًا، ولا بد من دخول هذه الساحة بوعى، من خلال إنتاج محتوى جذاب وموثوق، وبناء قدرات الشباب أنفسهم ليكونوا مؤثرين رقميًا، ينشرون رسائل التسامح ويدافعون عن القيم الإيجابية بلغتهم وأدواتهم. كما يشير إلى أن الفراغ القيمى وغياب القدوة من أبرز أسباب انجراف الشباب نحو جماعات ترفع شعارات براقة، لكنها فى حقيقتها شعارات مضللة، فالشباب بطبيعته يبحث عمن يُلهمه، لا من يُملى عليه، وعندما لا يجد قدوة حقيقية فى أسرته أو مجتمعه، تبدأ الجماعات المتشددة فى تقديم قدوة زائفة تتقن الحديث عن التميز والبطولة. لذلك، من المهم إعادة الاعتبار للنماذج الإيجابية فى كل المجالات، وإبرازها بشكل واقعى وحقيقى. ◄ مؤشرات مبكرة أما عن المؤشرات المبكرة لتأثر الشباب بالفكر المتشدد، فيلفت إلى أن هناك علامات واضحة يمكن ملاحظتها، مثل الانعزال، التغيرات فى طريقة التفكير والكلام، الميل إلى الأحكام القطعية، ورفض الحوار أو المختلفين، وأخطر ما فى الأمر هو عندما يبدأ الشاب فى تصنيف الناس إلى «نحن وهم»، و«مؤمن وكافر»، مما يُنذر بانزلاقه إلى الفكر الإقصائى، وهنا يجب التدخل مبكرًا بالحوار والاحتواء، لا بالعنف أو التوبيخ، لأن التشدد لا يُواجه بتشدد مضاد، بل بالحكمة والرحمة. وفي ختام حديثه، يوجه ممدوح رسالة واضحة للشباب الذين قد ينجذبون إلى شعارات مثل «العدالة أو النصرة» دون فهم عميق لمصدرها أو أهدافها، ويدعوهم إلى التفكير قبل التصديق، والتساؤل قبل الانجراف: من يرفع هذه الشعارات؟ ولماذا؟ وما النتائج المترتبة عليها؟ مؤكدًا أن العدالة والنصرة لا تُختصران فى شعارات غاضبة، بل تُترجمان إلى سلوك عادل، وفكر واعٍ، ورحمة حقيقية فى التعامل مع الآخر. ◄ الأسرة البديلة ومن جانبها تتحدث د. دعاء بيرو، استشارى سلوكى وتربوى، عن أن انجراف الشباب نحو الفكر المتطرف من فراغ، بل غالبًا ما تقودهم سلسلة من العوامل النفسية والاجتماعية والتربوية إلى الوقوع فريسة سهلة للشعارات المخدّرة التى تروجها جماعات مثل الإخوان، فالكثير من هؤلاء الشباب يشعرون فى الأصل بعدم الانتماء، أو بأن لا قيمة حقيقية لهم فى مجتمعهم. فيسعون جاهدين للبحث عن بيئة تمنحهم التقدير والقبول، ويجدون فى الجماعات المتشددة ما يشبه «الأسرة البديلة» التى تستوعبهم بمزيج من الاحتواء الوهمى والشعارات الكبيرة. ففي مرحلة المراهقة تحديدًا، يتعرض الشاب لأزمة هوية حقيقية، دينية كانت أو وطنية أو ثقافية. فى تلك السن المبكرة، لا يزال تفكيره فى طور التكوين، ولا يمتلك الأدوات الكافية للتمييز بين الحقائق والزيف، مما يجعله هدفًا سهلاً لأولئك الذين يقدمون له هوية جاهزة وشعورًا مصطنعًا بالتميز والبطولة، الخطاب المتطرف يستغل هذا الاضطراب الداخلى، فيمنح الشاب أوهام «القيادة والجهاد والتضحية»، وهى مغريات تجذبه خاصة عندما يشعر بأنه لا يحظى بأى فرصة حقيقية لإثبات ذاته فى واقعه. ◄ اضطرابات نفسية كامنة وتتسع رقعة الخطر حين تُضاف إلى هذه العوامل اضطرابات نفسية كامنة، كالاكتئاب أو القلق أو ضعف تقدير الذات، أو حتى الميل للعنف، ففى غياب الدعم الأسرى والمجتمعى، تتحول هذه الاضطرابات إلى أبواب مفتوحة نحو التطرف. كما تلعب البيئة الاجتماعية دورًا مؤثرًا، فالفقر والبطالة وشح الفرص الاقتصادية قد تدفع البعض إلى البحث عن معنى أو قضية يلتفون حولها، وأحيانًا يُستغلون ماديًا لتنفيذ أعمال متطرفة دون وعى كامل بما يفعلون. كما تستغل الجماعات المتشددة ضعف التربية الأسرية، سواء عبر غياب الرقابة، أو وجود تفكك أو عنف داخل الأسرة، وأيضا التأثر برفقاء السوء يُعد من أبرز أبواب الاستقطاب، فمجرد وجود صديق منتمٍ لجماعة متطرفة قد يكفى لجذب شاب آخر إلى نفس الطريق، خاصة فى ظل غياب التحصين الفكرى والدينى. ◄ خط الدفاع الأول وهنا، يبرز دور الأسرة بوصفها خط الدفاع الأول، فالأهل الذين ينتبهون مبكرًا لتغيرات فكرية أو سلوكية فى أبنائهم، ويتدخلون بلطف ووعى، يستطيعون كسر الدائرة، ومن المهم غرس القيم الدينية المعتدلة من الصغر، وفتح حوارات حقيقية مع الأبناء، تشجعهم على السؤال والتفكير دون خوف، كما أن تقديم الدعم النفسى والاحتواء العاطفى، ومراقبة ما يتعرض له الأبناء على الإنترنت دون قمع، يمثل خطوات ضرورية لحمايتهم. ◄ تطوير المناهج التعليمية وفي هذا الصدد، تؤكد داليا الحزاوى، مؤسسة ائتلاف أولياء أمور مصر، أن تطوير المناهج التعليمية يمثل خطوة مهمة نحو بناء طالب أكثر وعيًا ونضجًا، فالمناهج الجديدة تُعزز مهارات التفكير النقدى، وتنمى قيم التعايش والانتماء، وتساعد الطلاب على التمييز بين المعلومة الصحيحة والمغلوطة، مما يقلل من فرص التأثر بالأفكار المتطرفة التى تُروج على الإنترنت، وتشيد الحزاوى بجهود وزارة التربية والتعليم، خاصة فى الاهتمام المتزايد بمادة التربية الدينية، التى كانت مهمشة لسنوات طويلة. وذكرت أن تدريس مادة الدين ستتم من خلال الاستعانة بمعلمى الأزهر، والتربية المسيحية بمعلمين متخصصين تحت إشراف الكنيسة، وهى خطوة إيجابية تعكس احترام التعددية الدينية، وتؤسس لفهم أعمق لمبادئ الرحمة والتسامح والمواطنة، وتدعو أولياء الأمور إلى منح التربية الدينية الاهتمام الكافى، فهى لا تقل أهمية عن أى مادة أكاديمية، بل تؤثر مباشرة على سلوك الأبناء وتوجهاتهم. كما تشدد على أهمية دور الأخصائى الاجتماعى فى المدارس، بوصفه عينًا قريبة تتابع التغيرات السلوكية، وتساعد على التدخل المبكر بالتعاون مع الأسرة، وتنوه على ضرورة تنشيط الحياة المدرسية بالأنشطة التى تفرغ الطاقات وتوجهها لما هو نافع، بدلاً من ترك الشباب ضحية للفراغ أو المحتوى الرقمى المضلل.. واختتمت الحزاوى حديثها بالتأكيد على أن مواجهة الفكر المتطرف لا يمكن أن تتم إلا بتكامل الأدوار بين المدرسة والأسرة، مشيرة إلى أن التربية المبكرة، والاحتواء الأسرى، والقدوة الحسنة، تمثل الحصن الأقوى لحماية أبنائنا من أى فكر قد يهدد سلامهم النفسى والفكري.