رصاص كل جيوش العالم لا يقضى علي بقعة ظلام.. كذلك الإرهاب، لا يمكن استئصاله بالسلاح، فالإرهاب فكرة.. والفكرة لا تقضى عليها إلا فكرة، تماماً كما أن الظلام لا يبدده إلا النور. وحتي كتابة هذه السطور لاتزال كل مؤسسات الدولة تجلس في مقاعد المتفرجين تاركة الجيش والشرطة وحدهما في مواجهة الإرهاب، وهذه جريمة في حق الوطن، فالجيش والشرطة قادران علي كسر شوكة الإرهاب، ولكن القضاء علي الإرهاب يحتاج إلى أن تبدأ المعركة من المدارس. فالشباب المضللون اعتمدوا فى ارتكاب أعمال العنف على أفكار ومعتقدات مغلوطة، تسللت إلي عقولهم، فملأتها بأكاذيب وخرافات.. ومع الأسف لم يجدوا من يصححها لهم، فترسخت في عقولهم في ظل غياب التنوير والتثقيف، واعتماد أغلب المناهج الدراسية، وخاصة في التعليم الأزهرى، على مبدأ التلقين والسمع والطاعة، فأخرجت أجيالاً لا تقبل الرأى الآخر، ولا تؤمن إلا برأيها فقط، الأمر الذي يستلزم دق ناقوس الخطر، والتركيز علي التنشئة الصحيحة، لغرس قيم المواطنة لدي أبنائنا، حتي لا يقعوا ضحايا لتلك الجماعات المتطرفة. وكشفت دراسة أعدها المركز القومي للبحوث التربوية بعنوان «دمج مفاهيم الأمن الفكرى ضمن المناهج الدراسية» أن الأمن الفكري يضمن التحصين الفكري والأخلاقى، والعقائدى للمتعلمين، ويعد مطلباً ضرورياً للاستقرار الاجتماعى، فضلاً عن أنه ضمانة للمجتمع ضد قيم التطرف الفكري والإرهاب، لتأكيده قيم الوسطية والاعتدال، والتسامح ونبذ العنف، وقدمت الدراسة عدة مقترحات لتحقيق الأمن الفكرى أهمها تفعيل الإعلام التربوى المدرسى في التعريف بالأمن الفكرى، ووضع برامج علمية وعملية للكشف المبكر عن الانحراف الفكرى، وذلك من خلال التعاون مع مجلس الآباء والجمعيات الأهلية، وتكوين فرق لإدارة الأزمات داخل المدارس، تتولى تدريب الطلاب علي مهارات التعامل مع السلوكيات التي تتسم بالعنف، وتأهيلهم لتطبيق القانون. وقد وافق الدكتور محمود أبوالنصر، وزير التعليم، على توصيات المركز القومي للبحوث التربوية بحيث يتم تدريس مكونات الأمن الفكري ضمن المناهج الدراسية، فضلاً عن إعداد برامج توعية للمعلم تهتم بقضايا الأمن الفكرى. نشر المنهج الإسلامى وسبق أن أصدرت دار الإفتاء المصرية تقريراً حول أسباب الفكر المتطرف وطرق مواجهته، طالبت فيه العلماء بتقدم الصفوف في نشر المنهج الإسلامى الوسطى، لاحتواء الشباب، ووقايتهم من مخاطر العنف والتطرف، من خلال عمل ندوات تثقيفية، والاعتماد على الحوار ومقابلة الكلمة بالكلمة، والفكر بالفكر، وأكدت دار الإفتاء أن التصدى للفكر المتشدد والمتطرف هو مسئولية الجميع، وعلي الأخص علماء الدين والدعاة والأئمة، لما لهم من رؤية. وطالب تقرير دار الإفتاء بضرورة الانتباه للظاهرة الخطيرة، والعمل علي غرس القيم الفاضلة والثقافة الإسلامية الصحيحة في نفوس النشء، ليشبوا علي ما تربوا عليه، وتكون لديهم حصانة ضد الأفكار المتطرفة إلي عقولهم، وأكدت دار الإفتاء أن الفكر المتشدد والمتطرف نشأ في عقول الشباب بسبب قراءة بعض الكتب الدينية بطرق فردية وعشوائية، واستقاء المعلومات الدينية من أشخاص هواة ليست لهم قدم راسخة في العلم الشرعى، وهذا يتطلب العودة لمصادر العلم الأصلية، باعتماد الشباب علي المناهج المنضبطة التي تدرس علي أيدى العلماء في الأزهر الشريف، إضافة إلى تبني سياسة الاحتواء الفكرى لمن وقعوا في براثن التطرف، نظراً لأن الاحتواء سيحدث تقارباً بينهم وبين محاوريهم من العلماء، ويفتح آفاقاً للحوار والاستماع، واختتم التقرير توصياته بضرورة دعم الانتماء الوطنى، مؤكداً أن الانتماء يعد من الروابط الفطرية التي تجذب الإنسان إلي وطنه. ويشير أيمن البيلى، باحث في شئون التعليم، إلى أنه في نهاية السبعينيات تم استخدام أفكار ورؤى متناقضة لصالح النظام السياسي، حيث عقد الرئيس أنور السادات اتفاقاً مع جماعة الإخوان على مواجهة التيارات اليسارية، في الجامعات، فبدأ ظهور المدارس الفكرية والتوجهات الدينية المتأسلمة، واستمر الأمر في عهد الرئيس مبارك، حيث كانت السلطة تحاول بشتى الطرق تجفيف منابع وأفكار الدولة الديمقراطية، وقمع الأحزاب، ومع الأسف لم يتعلم نظام مبارك الدرس جيداً من الرئيس أنور السادات وكانت النتيجة حدوث الصراعات التي صنعتها الأفكار، وكانت نتاج صراع سياسي تحول لصراع فكري فانطلقت من هنا فكرة التفكير، وأصبح كل من ينادي بالديمقراطية «كافراً»، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن حلم الخلافة عاد يراود تلك الجماعات باعتبار الديمقراطية فكراً مرتبطاً بالصهيونية، ولمواجهة تلك الأفكار، لابد من البدء في إعادة صياغة المناهج الدراسية مرة أخرى، وذلك بمشاركة جميع مؤسسات الدولة، فالمناهج التي يتم تدريسها في التعليم الأزهرى «بالية»، خاصة في الفقه والتاريخ الإسلامى، ولم تعد صالحة، فهي تدفع الطلاب إلي العنصرية وتحول الدين إلي تدين «تمييز طبقى»، حيث تكفر المسيحيين، وتفسر بعض الأحاديث تفسيرات مغلوطة، فالخطاب الديني مغلوط وهذه القضية ليست مسئولية وزارة التعليم وحدها، بل مسئولية الأزهر ووزارة الثقافة والإسلام أيضاً. ويري أيمن البيلى أن مصر تحتاج لثورة ثقافية.. وقال التنمية لن تتحقق إلا إذا كان لدينا ظهير فكرى، فلابد أن تستهدف المناهج فكرة الانتماء للوطن، واحترام رأى الآخر، لكي نصنع جيلاً يؤمن بالديمقراطية والتعددية، وبات الوطن نسيجاً واحداً، ومن ناحية أخري يجب أن تتحول المدارس إلي ملتقيات ثقافية، ومنتديات فكرية، حتي نقضى علي الأفكار الظلامية التي تنتشر في مصر كلها، فالمدارس يجب أن تلعب دوراً تنويرياً لتصحيح مفاهيم المجتمع، لأن التعليم هو أحد روافد حماية المجتمع من الأفكار المغلوطة. دوافع عديدة الدكتور كمال مغيث، الباحث بمركز البحوث التربوي عضو مجلس إدارة المعاهد القومية، يرى أن هناك دوافع ثقافية وسياسية وأمنية وراء أعمال العنف والإرهاب التي انتشرت مؤخراً، فلابد أن نعترف بأن كل تصرفاتنا وسلوكياتنا تنطلق من خلفية ثقافية، فمن يميل للعنف أو التفاوض أو قبول الرأى الآخر يكون منطلقاً من خلفية ثقافية، كما أن من يميل لثقافة السمع والطاعة ينطلق أيضاً من خلفية ثقافية، فالفريق الذي لا يقبل الخلاف أو الرأى الآخر يكون صاحب ثقافة عنيفة تسعي لهدم الدولة والسيطرة عليها، وهذه الثقافة لها منابر تغذيها، وجماعات تحتضنها، كما أنها تنطلق من أصول عديدة تساهم فيها المناهج المدرسية التي تؤكد أن النسق التعليمي نفسه قائم علي السمع والطاقة وليس المعرفة، فالتلاميذ لا يملكون سوي التصديق علي ما يقوله المعلم، فالنسق التعليمي قائم علي مفردات ترسخ فكرة النموذج الوحيد للمعرفة والحقيقة المطلقة، وهذا ما يعتمد عليه الإرهاربيون، فإذا نظرنا إلي مناهج التعليم العام، فنجد أنها لا تحترم التنوع في المجتمع، فمعظم كتب اللغة العربية تنطلق من التراث الإسلامى، وتنكر الحداثة، فضلاً عن كونها قائمة علي فرض آيات القرآن الكريم وتجاهل الأقباط، أما التعليم الأزهرى فنجد أنه يحرض بشكل مباشر وصريح علي الإرهاب في أغلب مناهجه، فهناك علي سبيل المثال «كتاب الفقه المالكى» الذي يدرس للصف الثاني الثانوى، نجده يتحدث عن قتال البغاة عن الوسائل التي يقاتلونهم بها، فيقول إنه يجوز قتالهم بجميع الأسلحة، ماعدا الماء والنار مخافة وجود نساء أو أطفال، وهذا يعني أنهم يعتبرون النساء والأطفال من الغنائم والأموال ويمكن بيعهم كالرقيق، كما يطرح الكتاب موضوعاً آخر للنقاش، وهو على من يقع الجهاد، ويفسر أنه يقع على البالغين المكلفين، ويجيز تكليف المرأة والصبى إذا رأى الإمام ذلك، ومن هنا يتضح لنا أن الأزهر مازالت تسيطر عليه قوي رجعية تدافع باستماتة للإبقاء علي تلك المناهج حتي لا تتغير، باعتبار أن هذا هو الإسلام، كما تقف ضد التطوير مما يساهم في زيادة أعمال العنف، لما لها من أفكار تعتمد علي السمع والطاعة، فلابد من تعديل المناهج الدراسية سواء في التعليم العام أو الأزهرى، حتي يتم تنقيتها من الأفكار والمعتقدات المغلوطة، التي تحرض علي العنف وتترسخ في أذهان الطلاب منذ بداية نشأتهم. معركة مصالح كمال زاخر، المفكر القبطى، يرى أن المعركة هي معركة مصالح، لأن الفكر لا يعتمد على التخريب والدموية، فعندما يتحول البعد الثقافى إلى بعد عنيف فإنه يفقد ثقة الفكر فإذا نظرنا للتعليم العام نجد أنه يعاني من السطحية، لأن العلوم الإنسانية التي تدرس مثل التربية القومية والدينية، لا ترقى إلي المستوي الأكاديمى، فالتاريخ ما زال يدرس تاريخ الحكام مع التركيز علي الحاكم الموجود حالياً بكل إنجازاته، وبالتالى مازلنا نقدس الحكام والملوك، ولا نصل لفكرة المنطق وكيفية الحفاظ على الهوية المصرية، فالمناهج تعتمد علي التاريخ الانتقائى، ولا تهتم بالتنوع والتعدد، أما التعليم الأزهرى فنجد أنه تعليم «أحادي» فرغم تعدد كلياته، فإنه مازال مقصوراً علي الطلاب المسلمين فقط، ولم يطور من نفسه كما حدث في البلدان المتقدمة فهو يعتمد على منظومة معينة يتم تطبيقها علي الأطفال بداية من سن 4 سنوات، وصولاً لسن التخرج، ليصبح الطالب أحادى الفكر ويتكرس لديه فكرة أنه هو الوحيد صاحب الحقيقة، والرأى الصحيح، وعلى الرغم مما تم من دراسات قدمها التربويون الذين أكدوا وجود اختلال في المناهج الأزهرية فإنها لم تتطور حتى الآن، ومن هنا لابد أن نمتلك شجاعة المواجهة والاعتراف بالمشكلة، وأن تتحول جامعة الأزهر لجامعة مدنية تتاح لجميع المصريين، وأن تقوم الدولة بنسف جميع المناهج التي تحرض علي العنف، فنحن نحتاج فى تلك المرحلة إلي التنوير الفكرى، ووضع حلول موضوعية. الكاتب والمفكر يوسف القعيد، يقول: لا شك أن كل ما يحدث يبدأ في العقل الإنساني أولاً، بمعني أن الفكر يبدأ تكوينه في العقل ثم يقوم الإنسان بعد ذلك بارتكاب أفعاله وتصرفاته، ومع الأسف لم تهتم الأنظمة السابقة والحالية أيضاً بالعقل المصرى، والنهوض به، أو مواجهة ما به من خرافات تشغل تفكيره، بل تركوا الأمر كما هو ولم يحاولوا تنقية فكر المواطنين بها من معتقدات مغلوطة حتي وصلنا إلي ما نحن فيه الآن، لذا أصبح من الضرورى أن يتم التركيز علي العقل المصري ومواجهة ما به من أفكار ومعتقدات خاطئة وإقناع الناس بالصواب، وتوعيتهم حتي لا يقعوا في مزيد من الأخطاء، فالمعركة التي نعيشها الآن هي معركة فكر في البداية ويجب معالجتها بطريقة صحيحة حتي تنتهي تلك الأزمة.