على مقربة من هرم خوفو، ومع كل شعاع شمس ينعكس على واجهته الزجاجية الضخمة، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كجوهرة معمارية ومتحفية فريدة، تمزج بين عراقة الحضارة وحداثة العصر. إنه ليس مجرد متحف، بل هو شهادة على عبقرية الإنسان المصري القديم والحديث، ومشروع القرن الذي طال انتظاره ليكون بوابة جديدة للفخر الوطني والانفتاح الحضاري. اقرأ أيضا: "المتحف المصري الكبير": استقبال الزائرين مستمر رغم تأجيل الافتتاح الرسمي وقال الدكتور مصطفى وزيري، عالم الآثار والمصريات في تصريح خاص ل"بوابة أخبار اليوم"، إن "المتحف المصري الكبير" ليس مجرد مخزن للآثار، بل هو منصة عالمية لرواية قصة الحضارة المصرية بكل زخمها وجلالها، إنه رسالة إلى العالم بأن مصر لا تحفظ تاريخها فحسب، بل تكتبه من جديد بلغة العصر. صرح يتجاوز حدود الزمان والمكان من قلب الجيزة، على مرمى حجر من أعظم عجائب الدنيا، تنبثق قصة جديدة تضاف إلى كتاب المجد المصري، هي قصة المتحف المصري الكبير، الذي يعد أكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة، الحضارة المصرية القديمة. وبقدر ما يمثل هذا المشروع تتويجًا لجهود دولة بأكملها، فإنه أيضًا علامة فارقة في العلاقة بين الإنسان وتاريخه. رؤية حضارية شاملة المتحف المصري الكبير ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لعقود من التخطيط والعمل الجاد، ونتاج شراكة بين الدولة المصرية ومؤسسات دولية من اليابان إلى الاتحاد الأوروبي. وقد تم تصميمه وفق رؤية علمية وثقافية تسعى إلى تقديم تجربة استثنائية للزائر، تمتزج فيها العاطفة بالجمال، والمعرفة بالتقنية، والعمق التاريخي بالحيوية المعاصرة. تصميم معماري يتحدث لغة الحضارة يقع المتحف على مساحة تتجاوز 500 ألف متر مربع، ويطل مباشرة على هضبة الأهرامات. صممته شركة هندسية عالمية بأسلوب يُحاكي الأبعاد الهندسية الفرعونية، مع إدخال أحدث المعايير العالمية في الإنشاء والعرض المتحفي. الواجهة الزجاجية الهرمية ترمز إلى الرؤية المستقبلية، بينما يستلهم المدخل وتصميم الساحات روحية المعابد المصرية القديمة، في امتداد بصري وروحي يجعل الزائر يشعر وكأنه يعبر عتبة الزمن. المسلة المُعلقة.. البداية البصرية المدهشة من اللحظة الأولى، يدخل الزائر في صميم التجربة؛ تبدأ الرحلة من ساحة المسلة المعلقة للملك رمسيس الثاني، والتي ترتكز على قاعدة زجاجية تتيح رؤية خرطوشه المحفور من أسفل. هذه اللحظة ليست مجرد عرض بصري، بل نقطة تفاعل عميقة مع التاريخ، حيث تصبح أنت — كزائر — طرفًا في سردية الحضارة. الدرج العظيم.. تمهيد لعظمة لا تُوصف بعد المسلة، يُستقبل الزائر في "الدرج العظيم"، وهو فضاء معماري مهيب يحتوي على عشرات القطع الضخمة التي تُجسد محطات مفصلية من تاريخ مصر القديم. من بينها تماثيل للملوك والآلهة، وأعمدة نُحتت قبل آلاف السنين، وعناصر معمارية تم إنقاذها من مواقع أثرية مهددة. ويتيح تصميم الدرج رؤية تدريجية تنتهي بإطلالة مباشرة على الأهرامات الثلاثة، في مشهد سينمائي يعزز الترابط بين المتحف وموقعه الجغرافي التاريخي. سيناريو العرض.. سرد زمني يتحدث فيه الحجر يمتد العرض المتحفي عبر قاعات تم تصميمها وفق تسلسل زمني يبدأ من عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بعصر التأسيس، والدول القديمة والوسطى والحديثة، ثم العصور المتأخرة واليونانية الرومانية، وصولًا إلى العصر القبطي والإسلامي في بعض الزوايا التكميلية. ويعتمد سيناريو العرض على الدمج بين القطع الأصلية والتقنيات التفاعلية التي تتيح للزائر فهماً أعمق لتاريخ القطعة وسياقها الحضاري والاجتماعي. كنوز توت عنخ آمون.. في قلب المتحف من أبرز ما يقدمه المتحف المصري الكبير هو العرض الكامل لأول مرة لمجموعة الملك توت عنخ آمون، التي تجاوز عدد قطعها 5400 قطعة، كثير منها لم يُعرض من قبل. تم تخصيص قاعة خاصة لهذه المجموعة، بتهيئة إضاءة ومناخ مناسبين للحفاظ عليها، فضلًا عن استخدام تكنولوجيا الواقع الافتراضي في شرح قصة "الفرعون الذهبي" ومقبرته. مركز الترميم.. حيث يُولد الأثر من جديد في قلب المتحف يقع أكبر مركز ترميم في الشرق الأوسط، يضم معامل متخصصة في معالجة المعادن، الأحجار، الخشب، الأنسجة، والبرديات. ويقول د. مصطفى وزيري عن هذا المركز: "لقد أصبحنا نُعيد الحياة لآثارنا بأيادي مصرية خالصة، ونصدر الخبرة إلى الخارج بعد أن كنا نستوردها." وقد ساهم هذا المركز في إنقاذ آلاف القطع من التلف، بما فيها تمثال أمنحتب الثالث، ومجموعة توت عنخ آمون، وأدوات الجراحة التي تخص الأطباء في مصر القديمة. المتحف بوصفه قوة ناعمة المتحف المصري الكبير لا يخدم الزائر العادي فقط، بل يشكل منصة ثقافية للتبادل العلمي، من خلال قاعات مؤتمرات، ومعارض مؤقتة، ومكتبة متخصصة، ومركزًا للبحث الأثري. كما يعد أداة فعالة في تعزيز القوة الناعمة لمصر، باعتبارها بلدًا يتقن سرد تاريخه. كما أن المتحف لا ينعزل عن مجتمعه المحلي، بل تم إنشاء منطقة خدمات تضم مطاعم، مسارح، مراكز تدريب، وحدائق تربط الموقع بالمدينة المحيطة، ما يعزز من ارتباط السكان به. أثر اقتصادي وسياحي بالغ الأهمية من المتوقع أن يجذب المتحف المصري الكبير ملايين الزوار سنويًا، ما سيُنعش قطاع السياحة، ويخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، ويُعيد الحياة إلى الصناعات اليدوية والتذكارية التي تعكس الهوية المصرية. ويشير الخبراء إلى أن العائد الاقتصادي للمتحف يتجاوز دخله المباشر، ليشمل إشعاعًا عالميًا لصورة مصر، وتعزيزًا لموقعها في خريطة السياحة الثقافية العالمية. ** افتتاح تاريخي يُرتقب عالميًا كان من المُقرر افتتاح المتحف في يوليو 2025، إلا أن تأجيله تم لاعتبارات إقليمية تتعلق بالأحداث الجارية في المنطقة. إلا أن هذا التأجيل لا يقلل من أهمية الحدث، بل يمنحه فرصة إضافية للإعداد لاحتفالية تليق بحجم مصر وتراثها. بين الماضي والمستقبل المتحف المصري الكبير ليس نهاية مشروع، بل بداية عهد جديد في علاقة مصر بثقافتها. هو دعوة للتأمل في عبقرية الإنسان المصري، وإرثه الذي لا يُقدّر بثمن. وهو أيضًا مرآة للحلم المصري الذي ظل حياً حتى صار واقعًا ملموسًا. وكما قال الدكتور مصطفى وزيري: "عندما تقف داخل هذا المتحف، تشعر أنك داخل قلب مصر... ليس فقط في مكان، بل في زمن يمتد من آلاف السنين ليخاطب وجدانك الآن" .