الغربية: محمد عوف لم تكن جريمة قتل عادية، ولم يكن دافعها المال فحسب، بل كان خليطًا مسمومًا من الجهل، والطمع، والخرافة. في قرية صغيرة بمحافظة الغربية، اجتمع أربعة رجال حول حفرة عميقة ظنوا أنها ستقودهم إلى كنز أثري يبدّل مصائرهم، لكنها بدلًا من ذلك، ابتلعت شابًا في مقتبل العمر ودفنته حيًا تحت طبقة من الخرسانة والصمت. قصة مأساوية تجسّد كيف يمكن أن يتحول جنون التنقيب عن الآثار إلى فاجعة، تلتهم الحالمين وتُزلزل المجتمعات، ضحية جديدة تُضاف إلى سجل الجرائم المرتبطة بهوس «الكنز»، وسط أسئلة مُرّة: من المسئول؟ وهل بات الوهم أقوى من القانون والضمير؟ في قرية «سلامون» الهادئة، التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية، كانت الحياة تسير بوتيرة عادية، حتى كُتبت على أرضها واحدة من أكثر القصص المأساوية المرتبطة بحمى التنقيب عن الآثار، تلك الظاهرة التي باتت أشبه ب»الفوبيا المجتمعية»، تدفع البعض للمخاطرة بكل شيء – حتى بحياتهم – بحثًا عن كنز غامض مدفون في باطن الأرض. في ليلة مشئومة، غادر الشاب محمد فضل، البالغ من العمر 27 عامًا، منزله بصمت، لم يخبر أحدًا، فقط حمل أدوات الحفر وبعض الأمل، الاتفاق كان واضحًا بينه وأربعة من شركائه: التنقيب سرًا في منزل بقرية مجاورة بحثًا عن آثار، يعتقدون أنها ستغيّر مجرى حياتهم، لكن «محمد» لم يكن يعلم أن تلك الليلة ستكون الأخيرة في حياته. تحت جنح الليل، بدأ الفريق في الحفر داخل غرفة مهجورة بالمنزل، تعمّقوا أكثر فأكثر، يتناوبون على الحفر بهوس العطشان وسط سراب الصحراء، تجاوز عمق الحفرة 13 مترًا في باطن الأرض، وحين نزل «محمد» لاستكمال العمل، انهارت التربة فوقه، وابتلعته الأرض في لحظة. حاول شركاؤه الأربعة إنقاذه، ولكن الوقت كان قد فات، وبدلًا من إبلاغ الشرطة أو طلب النجدة، قرروا ارتكاب جريمة أبشع وهي ردم الحفرة بالكامل، وصب طبقة خرسانية فوقها لإخفاء الجثة، وكأن شيئًا لم يحدث. ضمير لا يسكت مر الوقت ولم يعد محمد إلى المنزل وسار أهله يبحثون عنه في كل مكان ، ومازاد من قلقهم إغلاق هاتفه المحمول ، لم يتركوا مكانًا يفترض أن يكون فيه لكن دون جدوى، وشركاؤه يشتركون معهم في البحث هنا وهناك كنوع من التضليل، مرت الأيام ثقيلة على أسرة «محمد»، اختفاؤه المفاجئ أثار الذعر، وبدأت رحلة البحث، وبعد تقديم بلاغ رسمي، بدأت الشرطة في تتبع خيوط القصة، وبتفريغ كاميرات المراقبة وتتبع تحركاته، توصلت الأجهزة الأمنية إلى أنه توجه إلى قرية سلامون برفقة صديق له. مع تضييق دائرة الاشتباه، وبتكثيف التحريات، اعترف أحد الشركاء بالجريمة، مدفوعًا ربما بضغط الضمير أو الخوف من اكتشاف الأمر. بالتنسيق بين أجهزة الأمن ومجلس مدينة بسيون، بدأت عملية الحفر داخل المنزل محل الجريمة، استُعين بمقاول متخصص، وأُخلي المنزل بالكامل، وفرضت الأجهزة كردونًا أمنيًا لضمان سلامة الأهالي. استغرقت أعمال الحفر ثلاثة أيام كاملة، وسط توتر بالغ، وأخيرًا، ظهرت ملامح الجثة، كان محمد هناك، في ذات المكان الذي دفن فيه حيًا، حالة من الذهول والفزع تنتاب الجميع أثناء استخراج الجثة ونقلها إلى المشرحة، وقررت النيابة العامة ندب الطب الشرعي لتشريحها وبيان سبب الوفاة. لكن المأساة لم تنتهِ عند هذا الحد بعد أيام قليلة، أقدم شقيق محمد الأصغر على الانتحار شنقًا داخل منزل الأسرة، لم يتحمل الشقيق الثالث الفاجعة، فأقدم على قطع شريان يده في محاولة للانتحار، ونُقل إلى المستشفى في حالة خطيرة. أُسرة كاملة تفككت، وقرية بأكملها دخلت في حالة من الذهول، بسبب وهم كنز لم يكن له وجود. بعد تكثيف التحريات تبين تورط كل من م.ر، الصديق الذي اصطحب محمد، و ح.س، شيخ من قرية «صالحجر» والذي زودهم بخريطة وهمية، وع.ش (45 عامًا) وأ.ش (30 عامًا)، الشقيقان أصحاب المنزل الذي شهد الواقعة، إذ سقط محمد داخل الحفرة أثناء التنقيب، فقرر شركاؤه الأربعة دفنه وردم الحفرة، ثم صب طبقة خرسانية فوقها لإخفاء الجريمة، وتم القبض عليهم جميعًا، وقررت النيابة حبسهم 4 أيام على ذمة التحقيقات، كما تم التحفظ على المنزل، وتكليف لجنة من الإسكان لمعاينة تأثير أعمال الحفر على المنازل المجاورة. كنوز وهمية لفهم ما وراء هذا الجنون، تحدثنا إلى عدد من خبراء الآثار الذين أجمعوا أن التنقيب العشوائي سببه الجهل، والدجل، والطمع، وأن نتائجه دائمًا كارثية. الدكتور حسام السقا خبير الآثار بمنطقة وسط الدلتا، يقول «فكرة وجود كنز تحت كل منزل خرافة متوارثة، لا توجد آثار عشوائية كما يتخيل الناس، والمواقع الأثرية كلها موثقة بدقة، وما يقوم به المنقبون مجرد عبث لا علم فيه، ولا منطق، والأخطر أنه يهدد الأرواح والمباني.» ويتابع السقا: «حتى لو وُجد أثر، فإن المنقب العشوائي يُدمّره دون أن يدري، ويُفقد الدولة والمجتمع قيمته العلمية والتاريخية.» أما حمادة سعد، الخبير الأثري، فيرى أن الظاهرة باتت أشبه ب»وباء ثقافي» قائلاً: «نحن أمام هوس جماعي ناتج عن الدراما، والدجالين، والجهل، وهؤلاء يبيعون الوهم، ويقنعون البسطاء بأن هناك خريطة وكنز، والنتيجة في الغالب: انهيار منازل، ووفاة شباب، وتفكك عائلات، كما حدث مع محمد.» ودعا «سعد» إلى تكثيف حملات التوعية، قائلاً: «إذا علم الناس أن الآثار ليست سلعة بل هوية، وأن كل قطعة تمثل ماضينا جميعًا، ستتغير نظرتهم.. فبدل أن ندفن أنفسنا بحثًا عن الذهب، نزرع وعياً يحمي الأرواح والتراث. اقرأ أيضا: بسبب معاكسة أخته.. شاب ينهي حياة طالب جامعي ويصيب صديقه بكفر الدوار