تلعب الأجهزة الأمنية دورًا حيويًا فى كل دول العالم، للحفاظ على أمنها من أى اختراقات خارجية ،والتصدى لأى محاولات لزعزعة أمورها الداخلية، سواء كانت هذه المحاولات فى شكل عمليات إرهابية أو مساع انقلابية، تريد تحقيق أجندات خفية. الكثير من هذه الأجهزة التى يطلق عليها " أمن الدولة" تعرف أهدافها بدقة وتحققها بسلاسة، ودون الجور على حقوق المواطنين. لكن هناك فئة منها تحاول استغلال نفوذها فى الضغط على المواطنين. فتختلط الأمور الخاصة مع العامة، حتى يصعب التفرقة بين الخيط الأبيض من الأسود فيها. وما حدث خلال الأيام الماضية من استهداف لكثير من مقرات أمن الدولة يؤكد سوء نية المسئولين السابقين عن هذا الجهاز فى مصر. ولعل الوقوف عن تطوره التاريخى يمكن أن يكشف جانبا مهما من الحقائق التى قد تكون غائبة على عدد كبير من المواطنين، لاسيما أن جهاز أمن الدولة ليس حديثا وإن اختلفت مسمياته. تأسس هذا الجهاز فى عام 1913 ،عندما كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزى. وكان جهازا للأمن السياسى وسمى"قسم المخصوص" بهدف تتبع المقاومة المصرية وقادتها، وإجهاض مخططاتها. فى ذلك الوقت استعان الإنجليز فى تشكيله، بعدد من ضباط البوليس المصري المعروفين بولائهم لهم . وتولى إدارته آنذاك حكمدار القاهرة اللواء سليم زكى الذى كان مقربا من قوات الاحتلال. واشتهر وقتها باسم البوليس السياسى، حيث كانت مهمته قاصرة على هذا البعد بكل تشابكاته الداخلية. بعد توقيع معاهدة 1936 تشكلت إدارتان للبوليس السياسي. واحدة للقاهرة والأخرى للإسكندرية. بالإضافة إلى 'قسم مخصوص' يتبع السراي الملكى مباشرة، ويرأسه قائد البوليس الملكي، ولم تكن لوزارة الداخلية ولاية على هذا القسم، حيث كان قائده يتلقى أوامره مباشرة من الملك، وقام هذا الجهاز بدور مشين فى ملاحقة المقاومة المصرية ضد الإنجليز وحماية الملك فاروق والكثير من رموز الفساد فى مصر آنذاك. بعد قيام ثورة يوليو عام 1952 ظن البعض أن أول شىء ستقوم به الثورة المجيدة هى القضاء على هذا الجهاز، وأن تتبع أسلوبا أمنيا جديدا للتعامل مع المصريين. وكانت المفاجأة غير متوقعة، أن ضباط ثورة يوليو غيروا فقط فى الرموز والقيادات الأمنية التى كانت موجودة فى ذلك الوقت وتم إقصائهم ومحاكمة عدد كبير منهم ، لكن عمل الجهاز بقى كما هو بالعقيدة الأمنية نفسها، بذريعة حماية الثورة من أعدائها. وتم فقط تغيير المسمى إلى 'المباحث العامة'" مع توسيع صلاحياتها ومهامها. كانت معاناة وويلات أعداد غفيرة من بطش هذا الجهاز ظاهرة للعيان طوال حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذى أعطى صلاحيات واسعة للجهاز، اكتوى بنيرانها كل من تجرأ أو فكر فى نقد خطوات الثوار الجدد، من مثقفين وناشطين سياسيين ومعارضين ليبراليين كانوا أو يساريين أو شيوعيين أو حتى إخوان مسلمين. عندما تولى الرئيس أنور السادات مقاليد السلطة فى مصر بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، تغير اسم الجهاز أكثر من مرة ، من مباحث أمن الدولة إلى 'قطاع مباحث أمن الدولة'، وأخيراً سمى 'جهاز أمن الدولة'. دون أن يطرأ شىء على السياسات والأساليب الأمنية للجهاز. وطوال هذه الفترة ظلت وظيفة ومهام رجل أمن الدولة، من دون تغيير يذكر، سواء فى العصر الملكى أو فى عصر ما بعد الثورة إبان حكم عبد الناصر والسادات. واستمرت آليات عمله كما هى لم تتغير، بل وعلى العكس أضيفت المزيد من الصلاحيات والسلطات له، حتى تغول الجهاز واخترق كل مؤسسات الدولة وظلت مهمته الأولى والرئيسية الحفاظ على أمن واستقرار النظام الحاكم. من هذه الزاوية، مثل جهاز أمن الدولة قاعدة انطلاق لقياداته وكوادره إلى المناصب العليا فى الدولة، كمكأفاة لهم على حفظ أمن النظام. وخرج من رحمه من تقلدوا أرفع المناصب السياسية. فقد تولى وزارة الداخلية من أبناء جهاز أمن الدولة اللواء عبد العظيم فهمى، وممدوح سالم -الذى عين فيما بعد رئيسا للوزراء- وسيد فهمي، وحسن أبوباشا، وأحمد رشدي، وحبيب العادلي فضلا عن عدد كبير من المحافظين ورؤساء الهيئات والمصالح الحكومية. الهدف الأساسى من إنشاء جهاز أمن الدولة هو حماية الأمن القومى المصرى والتصدى للمخططات الإرهابية وقوى التطرف التى تريد النيل من مصر، لكن الصلاحيات الواسعة التى أعطيت للجهاز والمميزات غير المسبوقة المادية والمعنوية التى تمتع بها ضباط مباحث أمن الدولة عن زملائهم من الضباط، جعلت منه ديناصور للقمع والقهر وانتهاك الحريات حتى أصبح رمزا من رموز الفساد التى جاءت على رأس أولويات وأهداف ثورة 25 يناير. من هنا حدث ما يشبه الانتقام.