الرقص ليس دليل الفرح دائما كما نعرف.. فالأفارقة مثلا يرقصون تحت أجمل الإيقاعات فى لحظات الغضب القصوى.. ولكل واحد منكم أن يستعيد مشاهد المسيرات الطويلة التى جابت شوارع سويتو بجنوب إفريقيا أيام النضال ضد الميز العنصري، فقد كانت الجموع البشرية تخرج بالآلاف وترقص من مطلع الفجر حتى آخر المساء تعبيرا عن رفض عنصربة البيض والمطالبة بإطلاق الزعيم مانديلا.. ولا شك أن هذا يعدّ أسمى تعابير الرفض. وتحضرنى مقولة للكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذى يرى أن الإبداع أساسه القيد، أى أن الشىء يكون جميلا إذا كان محكوما بقيد.. فالشعر ليس إلا كلاما غير أنه مقيد بقافية ووزن وإيقاع موسيقى، لهذا يكون ممتعا ومطربا للأسماع، والرقص ليس إلا حركات لكنه مقيد بنسق معين فى تعابير الجسد لهذا يكون جميلا، والغناء ليس إلا ضربا من الصراخ لكنه مقيّد بضوابط فى ذبذبات الصوت فيكون جميلا وجذابا.. أليس القيد أساس الإبداع؟، فى عالم اليوم لم يعد القيد أساس الإبداع، كما قال العقاد وأيده آخرون، إنما أصبحت الفوضى العارمة والحرية المطلقة هما أساس هذا الإبداع، وكل محاولة لضبط الأشياء يقابَلُ صاحبها بحرب لا هوادة فيها.. ويُتهم بالتخلف والرجعية والتقليد وعدم الإدراك وهشاشة الفكر والخوف من الحداثة، وهلم جرا.. وليس أدل على ذلك من مقولة الموسيقار العالمى الراحل منير بشير الذى سئل عن الفرق بين المستمع لموسيقى أهل الشرق وموسيقى أهل الغرب فقال: «هم يسمعون بأرجلهم أما نحن فبآذاننا»، أى أنهم يطرَبون بالرّقص أما نحن فيهتز وجداننا، وندخل فى عالم تلك اللحظة الروحية العميقة، على الرغم من أننا لا نختلف كثيرا عن هؤلاء فى ثقافة «هزّ البطن».. إن الشعوب اليوم صارت مستلبة حتى النخاع من جراء الفتوحات التكنولوجية الكبرى، إذ أن دخول الإيقاعات الاصطناعية والإلكترونية المبتكرة حياة الناس جعل الموسيقى اليدوية الملامسة لأحاسيس البشر تتراجع وتموت.. وأذكر هنا واقعة للفنان الجزائرى الراحل عيسى الجرمونى صاحب الحنجرة الذهبية وهو يدعى لإقامة حفل فى الأوليمبيا بباريس قبل حوالى سبعين عاما، وكان أول عربى يحيى بهذه القاعة الأسطورية حفلا تاريخيا. فعندما وصل على متن الباخرة إلى مارسيليا قادما من الجزائر جاءوا لاستقباله ومعهم شاحنة لحمل آلات فرقته الموسيقية، فضحك منهم وقال: «ليس معى غير هذين الدّفين وهذين النايين.. وهذه الحنجرة».. فتعجب المنظمون وخشوا من فشل الحفل، لكن يوم الحفل رأوا العجب، من صوت مدهش، وإيقاعات مختلفة عمّا اعتادوه. وغنت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم بعده بسنوات لتترك أثرا ما زال يذكره أهل الأوليمبيا ، ويستعيدون واقعة ذلك الشاب الذى لم يجد تذكرة لدخول الحفل، فأشهر مسدّسه فى وجه مدير القاعة إن لم يسمح له بحضور الحفل.. ولم يجد المدير بدّا من تلبية حاجة الشاب، الذى حضر الحفل وغنّى مع الستّ.. ورضى بالسجن فيما بعد. الوضع صار مختلفا وغريبا، والعالم لم يعد يفهم أيّ شكل أنسب لأحاسيس بنى آدم اليوم بعد أن غزت التكنولوجيا حياته، وأصبح الإنسان الآلى يجلس إلى جانب أفراد العائلة كأى واحد منها ويطالب بحقوقه فى الحياة الكريمة ، أليس هذا دليلا على أن زمن الأذن تعشق قبل العين أحيانا قد ولّى، وصار فى خبر كان وأخواتها وكل عائلتها؟ ومن الأشياء التى تؤكد التوجه الجديد نحو السماع بالرقص هو الفيديو كليب الذى لا يخلو من حركات جسم تحمل كثيرا من الإثارة وتمثلها فى العالم شاكيرا وجنيفر لوبيز وماريا كارى وبريتنى بيرس وبيانسى.. ومطربات عربيات كثيرات، فضلا عن الجنس الخشن الذى يستعين بالجنس اللطيف لتلطيف المشاعر. وهذه الموجة تمثل ثورة على المشاعر النائمة التى يكون فيها التعبير محتشما لكنه رقيق، فإخراجها، أى المشاعر، إلى الشارع بهذه الحدة يؤكد أن درجة الاحتقان بلغت مداها وأن مستوى الحرية تجاوز الخطوط المتعارف عليها.. ولا أتصوّر أسطورة الأغنية الفرنسية «إديت بياف» تقبل اليوم بما تفعله المدللة «لوري»، ولا أتصوّر أيضا أن يقبل «جاك بريل» الوقوف على خشبة واحدة مع «طونطون دافيد» مطرب الراب الفرنسى.. مثلما لا أتصوّر أن يقبل محمد عبد الوهاب بالوقوف مع هشام عباس في«نارى نارين»، ولا وردة الجزائرية تقبل المقايضة على «العيون السود» مع مطربى الراى والروك والراب والريجى والرومبا.. ولا حتّى أن يقف الإسبانى خوليو إيجلسياس مع ابنه أونريكو.. المطربون اليوم.. صاروا يقدمون أغنياتهم تحت الطلب وحسب الذّوق من أسفل إلى فوق ، فالأصوات معدّلة تكنولوجيا، أى لم نعد نشاهد ذلك الجوق الذى يملأ خشبة المسرح بثلاثين كمانا وعشرات الآلات التى يتوسطها سيدها وأميرها «العود» وصوت المطرب يطلع نقيا كالنبع الصافى من سيد درويش إلى وديع الصافي، اليوم صار المفلسون فى حياتهم العملية والراسبون فى دراستهم، والفاشلون فى بناء مستقبلهم، يكتفون بآلة سحرية عجيبة تختزن جوقا بأكمله، وتصدر كل الأصوات حتى زغاريد النسوة.. آلة تسمى «السانتى».التى أحالت خريجى معاهد الموسيقى إلى البطالة.. يا للبطولة ومن الثقافة ما قتل. إن كثيرا من أهل الطرب يخفون عيوبهم وراء هذه التكنولوجيا العالية داخل استوديوهات مغلقة وكأنها مخابر ل «تحلية الأصوات»، فيمددون فى أصواتهم وكأنهم يجْرُون وراءها ليعرفوا أيّ مسافة بلغت. ويرخّموها إن شاءوا ويمنحوها تلك البحّة التى لا تعرف سرها إلا هيام يونس، وإذا لم تصدقوا قولى فما عليكم إلا أن تتابعوا أهل الطرب والمغنى من هؤلاء فى حفلات خارج الاستوديوهات.. ستندمون مثلى لأننى صرت أكتفى بشريط تكنولوجى أُوهم نفسى أن صاحبه نقى الصوت صافى الحنجرة والسريرة، وأعدّهم مثل كثير من السذّج مثلى من الأسماء.. الكبيرة، أقول هذا الكلام لأننى أخاف على فقدان طينة الفنانين الكبار الذين يقضون سنة فى تحضير أغنية واحدة تعمر طويلا ولا تموت فى ساعة، كما يحدث هذه الأيام.. وأقول هذا لأننى هوجمت فى بعض الصحف الجزائرية حين نعتت أغنية الرّاى ب«السرطان الذى يسعى لابتلاع الذوق»، وقلت بأن المسألة لا تعدو أن تكون ضحكا على ذقن الجمهور المتهافت وراء الحداثة الفنية.