تكتب في ذكري ميلاده (2 - 2) عبد الوهاب يغني أمام الشيخ سيد درويش طقطوقة "زوروني كل سنة مرة".. فيقول الشيخ: "الولد ده ها يشقلب الدنيا" كان انضمام عبدالوهاب إلي فرقة نجيب الريحاني فرصة لا تعوض فنياً ومادياً وكان أجره الشهري خمسة عشر جنيهاً. أحس عبدالوهاب باليتم بعد وفاة سيد درويش فاعتكف في منزله حزناً وأسفاً علي هذا الملحن العبقري الذي كان يستمد منه القوة والأمل. بعد نجاح عبدالوهاب في تلحين أوبريت "قنصل الوز" اشتراكاً مع أمين صدقي وداوود حسني والتي عرضته فرقة الريحاني طلبت منيرة المهدية منه أن يكمل لها تلحين أوبرا "كليوباترا" التي لحن سيد درويش فصلها الأول. نصيبه في السينما ثمانية أفلام أولها "الوردة البيضاء" الذي عرض في ديسمبر 1933 ثم "دموع الحب" و"يحيا الحب" و"يوم سعيد" و"ممنوع الحب" و"رصاصة في القلب" و"لست ملاكا" ثم ظهر في "غزل البنات" ليغني "عاشق الروح". في الخمسينيات انتقل إلي الأغاني الخفيفة التي يري بعض النقاد أنها امتداد لأغاني عبدالوهاب السينمائية لم يستمر عبدالوهاب طويلاً في نادي الموسيقي الشرقي، فقد قامت ثورة 1919، التي أشعلت وجدان مصر، وفجرت الطاقات المصرية الشابة، فظهر طه حسين الأزهري، الذي أكمل دراسته في السوربون، وقلب الدنيا رأساً علي عقب باتجاهه الليبرالي، ثم بكتابه الذي تقدم للمحاكمة بسببه، وهو الأدب الجاهلي، ومختار، المثال، الذي أكمل دراسته في فرنسا، وعاد إلي مصر، ليقدم تجاربه المشهورة في فن النحت، وجورج أبيض، المسرحي الذي عاد من بعثته، لدراسة الإخراج والتمثيل في فرنسا، ليقدم التراجيديا الفرنسية والإنجليزية المترجمة، فظهرت، لأول مرة، علي المسرح المصري، شخصيات مثل: "أوديب"، ترجمة فرح أنطوان، و"عطيل"، ترجمة خليل مطران، و"لويس الحادي عشر"، ترجمة إلياس فياض، وظهر المخرج عزيز عيد، طليعة الواقعية في المسرح العربي، ونجيب الريحاني، هذا الفنان العظيم، الذي مزج المأساة بالملهاة، وعبر عن هموم الإنسان البسيط، وأضحكه وأبكاه علي نفسه، وكانت روايات ومسرحيات الريحاني، انعكاسات للأحداث والظروف الاجتماعية والسياسية، لوطنه، ثم علي الكسار، الطباخ الأسمر الظريف، الذي اقتحم مجال التمثيل والمسرح، وقدم شخصيته المشهورة: "بربري مصر الوحيد"، التي اصبحت من أشهر وأطرف الشخصيات الكوميدية، في مصر، والعالم العربي، ثم سيد درويش، ذلك الفنان العظيم الذي انتشرت ألحانه واستعراضاته في مصر كلها، وحققت نجاحاً، لم يشهده المسرح الغنائي من قبل. عبد الوهاب ولقاؤهبسيد درويش عاش الفتي محمد عبدالوهاب في هذا الجو الفني، المفعم بالثورة الاجتماعية والفنية، التي حاول أصحابها أن ينظروا بعين لتراثنا الثقافي العريق، وبالعين الأخري للحضارة الأوروبية، ولم يكن عبدالوهاب بعيداً عن هذه الثورة، بل كان من أشد أنصارها، بسبب نشأته المتواضعة، واتصاله المبكر، وتأثره، بالفنانين المجددين، وبخاصة في المسرح، التحق بالعمل، أولاً، في فرقة علي الكسار، يغني مع المجموعة ألحاناً واستعراضات لسيد درويش المسرحية، ثم ترك عبدالوهاب فرقة الكسار، ليلتحق بالعمل في فرقة الريحاني، وهناك، تنتظر عبدالوهاب مفاجأة العمر! كان انضمام عبدالوهاب إلي فرقة نجيب الريحاني، فرصة لا تعوض، للفنان الناشيء، فنياً ومادياً، فقد كان أجره الشهري، خمسة عشر جنيهاً، وفي فرقة الريحاني، التي كانت من أشهر الفرق المسرحية وقتها، تعرف عبدالوهاب علي أهم المخرجين وكتاب المسرح والممثلين والملحنين، في فترة من أهم فترات المسرح العربي المعاصر، وهي فترة نهاية الحرب العالمية الأولي، وقيام ثورة 1919. ويكتب عبدالوهاب ذكرياته مع الريحاني عن تلك الفترة، فيقول: "أذكر أول درس تلقيته علي يد ذلك المربي القدير، كنت صغيراً، لا أتجاوز العاشرة من عمري، عندما التحقت بفرقة الريحاني، وكان علي، في الليلة الأولي لوقوفي علي المسرح، أن ألقي جملة، يبدأ بعدها نجيب الريحاني تمثيل دوره، وجاءت اللحظة الرهيبة، ووقفت أمام الجمهور، وإذا بالجملة تطير من ذاكرتي، واسودت الدنيا في عيني، وانعقد لساني، وزاغ بصري، وتخاذلت رجلاي، ونظرت إلي نجيب، نظرة التلميذ إلي أستاذه، فحاول أن يشجعني، ولقني الجملة المفقودة، ولكن هيبة الموقف أفقدتني السيطرة علي نفسي، ووقف الريحاني ينتظر جملته، ليبدأ، حتي كاد زمام الموقف يفلت من يديه، وإذا بالغضب يستبد به، وفجأة، تقدم مني، وصفعني علي وجهي صفعة قوية، أخرجتني من المسرح، ولم يكترث الريحاني بالجمهور الذي كان يري هذا المشهد مأخوذاً، ووقفت في كواليس المسرح، أبكي بكاءً حاراً من الإهانة، وأبكي المجد الذي كنت أعلق نفسي به، ثم تبخر في لحظات، وانتهي الفصل الأول، وعاد نجيب إلي بين الكواليس، فرآني أبكي، وإذا به يتقدم مني ببطء، وفي عينيه نظرة حنو وإشفاق، ثم يربت علي كتفي برفق، ويقول: لا تؤاخذني يا بني أنا علي المسرح، أنسي نفسي وأنسي عواطفي وأنسي كل شيء، إلآ الفن، ما تزعلش يا محمد، وظل يسترضيني، حتي كففت عن البكاء، هذا الحادث، أشعرني بالقلب الكبير الذي يحمله الريحاني بين جنبيه، وقد أكد لي، وعلمني، أن النجاح الكبير الذي بلغه الريحاني، لم يبلغه بمحض المصادفة، بل لأن روحه كانت تحلق دائماً في أجواء الفن الرفيع. في ليلة من الليالي، دخل الكواليس في مسرح الريحاني، رجل في مقتبل العمر، عريض المنكبين، مجعد الشعر، يخطو باندفاع وقوة، في عينيه بريق عجيب، هو مزيج من الطيبة والعبقرية، وهمس أفراد فرقة الريحاني: الشيخ سيد درويش، الشيخ سيد درويش! قالها عبدالوهاب لنفسه، نعم هو بعينه هذه الفرصة التي كنت أتمناها، منذ زمن طويل. وتقدم محمد عبدالوهاب من الفنان الكبير، بخطوات متعثرة، وهنا، أسعفه الريحاني الذي جاء مرحباً بالشيخ سيد، قائلاً: أقدم لك مطرب فرقتنا، محمد عبدالوهاب، إننا نتوقع له مستقبلاً باهراً، ونظر إليه سيد درويش بحنان، وقال له: سمعنا يا سي محمد، وغني عبدالوهاب طقطوقة "زوروني كل سنة مرة"، وهي من ألحان سيد درويش، بأسلوب جديد، لم يعهده الشيخ سيد، فيمن أدوا هذا اللحن من المطربين الآخرين، كان صوت عبدالوهاب معبراً، واضح النبرات، ومباشراً، بعيداً عن الزخارف السطحية، والتفاصيل المملة، ودخل صوت عبدالوهاب قلب سيد درويش، ثم قال: "الولد ده حا يشقلب الدنيا!". وبدأ محمد عبدالوهاب يقتفي خطي سيد درويش، حتي أصبح شغله الشاغل، يستمع إلي ألحانه في كل مكان تقدم فيه، ويتتبع أخباره الفنية، فإذا قدم عملاً جديداً، كان عبدالوهاب أول المستمعين إليه. وفاة سيد درويش أحس عبدالوهاب باليتم بعد وفاة سيد درويش، فاعتكف في منزله، حزناً وأسفاً علي هذا الملحن العبقري، الذي كان يستمد منه القوة والأمل، في مستقبل جديد للموسيقي العربية، ذلك الرجل الذي أثار وجدانه، وألهب عواطفه الموسيقية، وتركه يواجه الحياة وحده، بلا صديق، يحلم بثورة موسيقية جديدة، تستوعب قدراته، وتفجر مواهبه، وبعد فترة، استطاع عبدالوهاب أن يخرج من عزلته، للعمل، فوجد عملاً بمدرسة ابتدائية، يقوم فيها بتدريس الأناشيد، لتلاميذها في الصباح، ويدرس الموسيقي في نادي الموسيقي الشرقي، بعد الظهر، فحفظ أهم الأناشيد المتداولة وقتها، مثل: "بلادي"، و"أنا المصري"، و"اسلمي يا مصر"، ودخل مدرس الأناشيد الجديد، لأول مرة، الفصل، واضعاً علي عينيه نظارته، وعلي رأسه طربوشه المائل، وهو يمشي بخطوات مرتبكة، استقبله التلاميذ العفاريت، وهم يقلدون أصوات الحيوانات، ترحيباً به، وكان من بين تلاميذه المرحبين: مصطفي أمين، وعلي أمين، وإحسان عبدالقدوس، وأحس عبدالوهاب بالفشل، مرة أخري، حيث كان يتخيل أنه سيصنع من تلاميذه، عباقرة في الغناء والموسيقي، ولكن التلاميذ كانوا يرددون الأناشيد كالببغاوات، وكان أكثر الأولاد شقاوة، وأفشلهم في حفظ الأناشيد، إحسان عبدالقدوس. اللقاء الثاني بشوقي بك في شهر يوليو سنة 1924، أقام نادي الموسيقي الشرقي حفلاً في فندق سان استفانو، في الإسكندرية، واختارت إدارة المعهد تلميذها الفذ، محمد عبدالوهاب، ليقدم فقرة غنائية ضمن برنامج الحفل، الذي حضره لفيف كبير من نجوم المجتمع المصطافين في الإسكندرية، ومن بينهم: أمير الشعراء، أحمد شوقي، وجاء دور الطالب محمد عبدالوهاب، فغني: "جددي يا نفس حظك"، مقام بياتي، من ألحان محمد عثمان، وأبدع في الأداء، فصفق له الجمهور طويلاً، وفي مقدمتهم: أحمد شوقي، الذي تذكر أنه قد تسبب في منع صاحب الصوت من الغناء، منذ سنوات عدة، لكن المغني الآن، وصل إلي درجة من الإتقان، تؤهله لأن يكون مطرباً كبيراً، وبعد أن انتهي عبدالوهاب من الغناء، جاءه من يقول له: شوقي بك يريد مقابلتك، من؟ شوقي؟ لا لن أذهب لمقابلة الرجل الذي حرمني من الغناء، إنه معجب بصوتك جداً ويريد تهنئتك، وذهب الطالب محمد عبدالوهاب لمقابلة شوقي بك، وهو يرتعد من الخوف، وصافحه الشاعر الكبير، وقال له: "رائع يا محمد أنت لك مستقبل هائل في الغناء العربي"، ومنذ تلك الليلة، من صيف 1924، نشأت صداقة عميقة، بين المغني الناشيء والشاعر الكبير، ولم يعد عبدالوهاب يفترق عن أمير الشعراء، حتي وفاته سنة 1932، عودة للمسرح بعد النجاح الذي أحرزه عبدالوهاب، في تلحينه أوبريت "قنصل الوز"، اشتراكاً مع أمين صدقي، وداوود حسني، والتي عرضتها فرقة الريحاني، طلبت منيرة المهدية من عبدالوهاب، أن يكمل لها تلحين أوبرا "كليوباترا"، التي لحن سيد درويش فصلها الأول، ولم بمهله القدر ليتمها، كما طلبت منه أن يغني أمامها، ويقوم بدور أنطونيو، وأحس عبدالوهاب بالخوف، هل من المعقول أن يدخل هذه المنافسة الخطرة، مع سيد درويش وسلطانة الطرب، في وقت واحد؟ ولكنه قبل العرض، وعلي مضض، وهو يدرك أنه يقوم بمغامرة خطيرة، لا يعرف نتائجها، قرر شيئاً، ما هو؟ فلم يكن الملحن الناشئ بسيطاً، ولا سهلاً، لقد كان يتمتع بذكاء وقاد، أنضجته التجارب التي خاضها، وبخبرته الموسيقية، لاحظ أن صوت السلطانة التي بلغت المجد والشهرة، ينقصه شيء مهم، وهو التحكم فيه، فثقافة منيرة المهدية محدودة، ولهذا، تصعد وتهبط في الغناء فجأة، فتظهر عيوب صوتها، رغم جماله وجاذبيته، ولقد فهم كبار الملحنين الذين تتعامل معهم منيرة المهدية، هذا العيب، ولهذا، كانوا يراعون، عند التلحين لها، أن يبدأ اللحن من أقل نغمة في صوتها، ثم يصعدون به نغمة نغمة، إلي أن يصلوا للطبقة المتوسطة في صوتها، وهنا، يدغدغون أذن المستمع، بالتركيز علي النغمات المحببة في صوتها، جواب الصوت، وهنا، تظهر بحة الصوت التي اشتهرت بها، والتي أيقن عبدالوهاب، بالطبع، أنه لن يستطيع مجاراتها، فماذا يفعل؟ لقد قلب عبدالوهاب النسب الحسابية التي التزم بها ملحنو المطربة المشهورة، ولحن حواريات لها، بالذات، من طبقة لا تتناسب مع صوتها، ولا تظهر محاسنه، ولحن لنفسه من نغمات، راعي فيها أن تظهر جمال صوته، "التينور العميق"، وعذوبته، بينما ترك صوت السلطانة يقفز ويهبط في نغمات مفاجئة، لا تستطيع التحكم فيها، فخرج صوتها محشرجاً ونشازاً، وخرج صوت عبدالوهاب جميلاً جذاباً، وبهذا، دبر الملحن الناشيء لسلطانة الطرب، مقلباً ساخناً! ثورة في عالم التلحين كان عبدالوهاب خلال هذه المرحلة الأولي من حياته، مطرباً ساحر الصوت فقط، ولكنه حين وصل لنهايتها، استطاع أن ينتزع مكانة أيضاً، كملحن مبدع، بدأ عبدالوهاب التلحين سنة 1923، فقدم في هذه السنة، ألحاناً لم يكتب لها النجاح، وفي العام التالي، 1924، الذي تعرف فيه علي أحمد شوقي، قدم ستة ألحان، منها أربعة، كتب كلماتها الشاعر الكبير، وهي: "دار البشاير"، "قلبي غدربي"، "قلب بوادي الحمي"، "منك يا هاجر دائي"، ثم قدم سنة 1926، أغنيتان، وفي عام 1927، قدم عشرين لحناً، فبلغ مجموعة ألحانه، منذ بدأ التلحين: واحداً وثلاثين لحناً، كانت كلها في قوالب الغناء العربي المعروفة، وكانت مادتها النغمية، من المقامات والإيقاعات العربية الصرف، وقد تأثر في ذلك الوقت بمعاصريه، أمثال الشيخ سلامة حجازي، كما ظهر ذلك في قصيدة: "تعالي نفن نفسينا غراماً"، تأليف أحمد رامي. ولكن عبدالوهاب بدأ يتميز بطريقته الجديدة في الأداء، فأصبح الغناء عنده قراءة موسيقية للنص، أو تمثيلاً موسيقياً للكلمات، وتعبيراً عن معناها، وهذا ما تعلمه من سيد درويش، ولهذا، كانت الجملة الموسيقية موجزة، ليس فيها ثرثرة ولا إطناب ولا حليات ولا مبالغات، وكان هذا التطور، استجابة لروح العصر، التي أصبحت أكثر استعداداً لفكرة المزج بين الفنون العربية والفنون الأوروبية، وفي صحبة شوقي، زار عبدالوهاب دار الأوبرا، ومتحف اللوفر، وخلال الشهرين اللذين قضاهما معه، كان يذهب في صحبته، كل أسبوع، لسماع كونسير جديد، وكانت تلك هي المرحلة الأولي التي فتحت أمام عبدالوهاب آفاق الثقافة الأوروبية، وأثمرت بعد ذلك، ألحاناً من أجمل ما قدم عبدالوهاب للغناء العربي، في يوم من الأيام، فاجأ شوقي محمد عبدالوهاب بقوله: "محمد نفسي تموت!"، "ليه يا باشا؟ هل تكرهني إلي هذا الحد؟"، "بل أحبك إلي هذا الحد"، "إذن لماذا هذه الأمنية الغريبة؟"، "لأني سأرثيك بقصيدة تخلدك!"، "يعني أموت عشان قصيدة يا باشا!"، وضحك شوقي، وربت علي كتف عبدالوهاب، واسترضاه بقصيدة "يا جارة الوادي"، وبهذ القصيدة التي لحنها وغناها عبدالوهاب سنة 1928، بدأت شهرته كملحن راسخ، بالإضافة إلي شهرته كمطرب متألق. ارتكز عبدالوهاب في تلحينه لقصيدة شوقي "يا جارة الوادي"، علي قوالب الغناء التقليدي، ولكنه لم يحافظ علي أساليب التلحين والأداء الشائعة، بل خرج عليها، محققا لنفسه أسلوباً جديداً خاصاً، تميز بالاقتصاد في الزخارف والحليات، التي ينساق إليها المطربون، فيخرجون عن اللحن الأصلي، إلي التطريب الذي يعتمد، قبل كل شيء، علي استعراض إمكانيات الصوت، بينما يريد عبدالوهاب أن يحتفظ للحن بشخصيته، وقدرته علي التعبير، ولهذا، ابتعد عن الزخرفة، وترك المعني يقود اللحن، ويشكله تشكيلاً صلباً، لا يمكن الخروج عليه بسهولة، فكل شيء محسوب بدقة: النغمات، والإيقاعات، والسكتات، وكل هذا يوظف في التعبير عن نص القصيدة، التي أدرك عبدالوهاب أنها قالب يختلف، في تلحينه وأدائه، عن القوالب الأخري، فالوقار في تلحين القصيدة مطلوب أكثر، والرصانة في الأداء والنطق الصحيح، الذي يعبر عن جمال الكلمات، ويوضح معانيها. وفي هذه السنة، قدم عبدالوهاب اثني عشر لحناً، في أشكال الغناء التقليدي المختلفة، من موال وطقطوقة ومونولوج وقصيدة، ومنها مونولوج: "أهون عليك"، ليونس القاضي، ومونولوج: "كلنا نحب القمر"، لأحمد عبدالمجيد، وطقطوقة: "حسدوني وباين في عينيهم"، لأحمد عبدالمجيد، وغيرها. عبقريته في "الليل لما خلي" وجاء عام 1931، وأصبح عبدالوهاب شخصاً آخر، غير الذي كان، ففي مونولوج "في الليل لما خلي"، من كلمات أحمد شوقي، يري عبدالوهاب، أنه بدايته الحقيقية التي وجد فيها نفسه؛ حيث خطا في هذا اللحن الرائع، أولي خطواته الجريئة، للتخلص من أساليب الغناء المتوارث، وجنح إلي الاستفادة من الغناء الأوبرالي، وظهرت فيه علاقته الحميمة بشعر شوقي، وخياله المجنح، وثقافته العريضة، يبدأ المونولوج بمقدمة موسيقية، لا تدخل فيها أية آلة من آلات الإيقاع، جمل مسترسلة، غير مقيدة بضروب الإيقاع التقليدي، الذي كان يلزم الملحن بعدد معين من الضربات، تمسكه الطبلة أو الرق، وبعد هذه المقدمة، التي تلعب فيها آلة الفلوت دوراً أساسياً، يأتي الغناء، وهو من جنس المقدمة، فهو جمل لحنية حرة، تترجم معاني الكلمات، تعبر عن مناجاة الليل، بأسلوب الغناء الإلقائي، "الريسيتاتيف"، وهو نوع من الغناء الصافي، كان من المميزات الخاصة للأوبرا الفرنسية، في القرن السابع عشر دخوله إلي عالم السنيما كان نصيبه ثمانية أفلام أولها: "الوردة البيضاء"، الذي عرض في ديسمبر 1933، ثم "دموع الحب"، وقد عرض سنة 1935، ، ثم "يحيا الحب"، سنة 1938، و"يوم سعيد"، سنة 1940، و"ممنوع الحب"، سنة 1942، و"رصاصة في القلب"، سنة 1944، ثم "لست ملاكا"، سنة 1946، ثم ظهر في "غزل البنات"، ليغني "عاشق الروح"، وقد كانت كل أغاني الفيلم من تلحينه، قدم عبدالوهاب خلال هذه الأفلام الثمانية، سبعين أغنية، كان لها أثر حاسم في الغناء العربي؛ حيث غيرت شكل الأغنية، من جميع النواحي، وغيرت ذوق الجمهور، حلت الأغنية السينيمائية محل الأشكال الغنائية العربية، حيث تعد الأغنية السينيمائية، جزءاً من الفيلم، ترتبط بحوادثه، وتخضع لمقتضياته، ولذا، يجب أن تكون الأغنية قصيرة، لا تتعدي دقيقتين، أو ثلاث، وهي خليط من العناصر المختلفة، ولذا، يبدو الاقتباس فيها واضحاً، وقد حاول عبدالوهاب أن يرفع من قيمة الأغنية السينيمائية، وفي قصيدة "جفنه علم الغزل"، لبشارة الخوري، التي غناها عبدالوهاب في فيلم "الوردة البيضاء"، ظهر لأول مرة في تاريخ الموسيقي إبقاع "الرومبا" الراقص. فقد أدخل عبدالوهاب إيقاع الرومبا إلي الغناء العربي سنة 1933، في الفترة التي اجتاح فيها هذا الإيقاع، الكوبي الأصل، العالم، في أوائل الثلاثينيات، من القرن الماضي، والرومبا من ألوان موسيقي الجاز، اكتملت عناصره الموسيقية، بتزاوج موسيقي الاسبان والبرتغال، مع موسيقي الزنوج الأفارقة، الذين كانوا يختطفون، ويرحلون علي ظهر السفن، إلي المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين، للعمل في المزارع، وقد حقق لحن "جفنه علم الغزل"، نجاحاً كبيراً، حتي للشاعر نفسه، ولذا، فقد استهوت عبدالوهاب الإيقاعات الراقصة، كفواصل، فقدمها في ثاني أفلامه، "دموع الحب"، الذي غني فيه قصيدة: "سهرت منه الليالي"، علي إيقاع التانجو، الأرجنتيني الأصل، وقد كان أيضاً نتيجة لاختلاط موسيقي المستعمرين الاسبان في الأرجنتين، وموسيقي الهنود الحمر، أصحاب البلد الأصليين، وفي هذا الفيلم، أضاف عبدالوهاب آلة موسيقية غريبة، كان لها أثر كبير، فيما بعد، علي الموسيقي والغناء في مصر والعالم العربي، وهي آلة "الأكورديون"، وقد اكتسبت هذه الآلة شعبية في مصر، خاصة بعد التعديلات التي أدخلت علي لوحة المفاتيح، لتتماشي مع المقامات العربية. الرجوع إلي الأغنية الطويلة ساعد ظهور الراديو عبدالوهاب، علي الرجوع إلي الأغنية الطويلة، ولمجده الغنائي في التطريب، فعاود تلحين قصائد، أراد بها أن يثبت لجمهوره، أنه مازال قادراً علي تقديم أعمال كبيرة؛ فقدم "الجندول"، و"الكرنك"، و"حياتي إنت"، و"دمشق"، و"كليوباترا"، و"الحبيب المجهول"، و"الفن"، و"همسة حائرة"، و"فلسطين"، و"الصبر والإيمان"، وغيرها، ففي هذه الأغاني، قدم عبدالوهاب شكلاً جديداً للأغنية، فقد كان يبدأ بمقدمة موسيقية طويلة، يتلوها الغناء الذي لا يتقيد فيه بالمقام الأصلي، فيبدأ يصول ويجول في المقامات القريبة والبعيدة، ثم يحط علي المقام الأصلي، في نهاية اللحن، وبدلاً من تلحين الحرف والكلمات، لحن البيت كله، وقطّع الجمل الشعرية، ليتماشي العروض مع الإيقاع الموسيقي، كما ظهر هذا واضحاً في قصيدة: "الجندول". نهاية المطاف خرج عبدالوهاب من الأربعينات بمكاسب كبيرة، وانضم إليه الكثير من الجمهور، وفي الخمسينات، رجع عبدالوهاب من جديد، إلي الأغاني الخفيفة، وكانت النتائج هذه المرة، غير سارة، فقد نزل فجأة من القمة التي وصل إليها في ا"لكرنك" و"الجندول" و"الحبيب المجهول"، وغيرها، ليقدم ألحاناً مأخوذة من أغاني النوادي الليلية، ويندهش المستمع، حين يقارن مثلاً بين ما قدمه عبدالوهاب في أغنية "فلسطين"، وما قدمه في أعنية "علي إيه بتلومني"، أو "أنا والعذاب وهواك"، فبقصيدة "فلسطين"، أنهي عبدالوهاب مرحلته الذهبية، وهي قصيدة رائعة، للشاعر علي محمود طه. أما في الخمسينات، فقد انتقل إلي الأغاني الخفيفة، التي يري بعض النقاد أنها امتداد لأغاني عبدالوهاب السينيمائية، ولكن هناك فرق بين المرحلتين؛ ففي المرحلة الأولي، كان صوت عبدالوهاب قوياً ناضجاً، غنياً بالإمكانيات، أما في الأخري، فكان صوته ضعيفاً محدوداً، يخفي عيوبه بالاقتباس والتوزيع الأوركسترالي، والإيقاعات الراقصة، وقد بالغ عبدالوهاب في الاقتباس من الأغاني والموسيقي الفرنسية واليونانية والإسبانية، واستعار جملاًُ كاملة من بعض المغنيين الأوروبيين، الذين كانوا مشهورين في الخمسينات، ولكي يعطي هذه الألحان شكلاً جذاباً مبهراً، عهد بها إلي الموسيقي اليوناني الأصل، أندريا رايدر، الذي قام بتوزيع معظم ألحانه، كما قام بقيادة الأوركسترا، وفي أغنية "عاشق الروح"، حشد عبدالوهاب أوركسترا كاملة، تتكون من مجموعة ضخمة من الآلات الوترية، وهي: المندولين، والبانجو، والجيتار، بالإضافة إلي آلة الكمان، وآلات النفخ النحاسية، كالترومبيت والترومبو والكرنو، أما هو، فقد ظهر وهو يحتضن آلة المندولين التي حلت محل العود، تعبيراً عن هذا التطور، لقد وصل عبدالوهاب، في هذا اللحن، إلي قمة التغريب الذي حاول أن يخففه بظلال من الموال. ومن الذين غنوا لعبد الوهاب من مطربين ومطربات، ظهروا قبل أن يغنوا له، لكن ألحان عبدالوهاب، وضعتهم في دائرة الضوء. أعماله مع أم كلثوم أما ألحانه لأم كلثوم، فقد كان يضع فيها كل ما اختزنه في ذاكرته، من الجمل الموسيقية والإيقاعات، ففيها الألحان التقليدية، وفيها الإيقاعات الشعبية، وغناء العوالم، والإيقاعات الغربية الراقصة، والمقدمات والفواصل الموسيقية، التي اجتهد في أن تكون طويلة، كما اهتم بالقفلات الحادة المحكمة، التي ينتهي بها كل مقطع، ويبلغ فيها الصوت ذروة تمكنه وسلطنته ومداه، فجاءت مثلاً قصيدة "هذه ليلتي"، حافلة بالإيقاعات المتحركة، واكتسحت الموسيقي موجة راقصة، تناولها بعض النقاد والموسيقيين والفنانين بالنقد، واختلف النقاد في الحكم علي تصرفات عبدالوهاب الموسيقية بصفة عامة، وانقسموا بين معارض ومؤيد، ولكنه يرد علي كل ذلك بهذه الكلمات: "أنا نفسي إني أتطور وأكون معايش العصر، لا أن أكون متأخر، ويبان علي إني راجل متخلف، لكن أحب عندما تفتح الراديو أن تعرف أن هذه الموسيقي مصرية وتقول إنك في مصر بس مش بيالا للي أمان!".