ها هو شهر رمضان يسابق خطواته للرحيل.. حاملا ومحملا بأنين المذنبين، ودموع الخاشعين، ودعاء الراجين، وابتهالات المخلصين والوطنيين، ولعنات على المتاجرين بدماء الصائمين القانطين فى ميادين كان يجب أن تكون ساحات للاعتكاف، وصلاة القيام والتهجد والابتهال إلى الله بكشف الغمة، لكنها تحولت إلى «حلبات» لفنون القتل وترويع الآمنين، وملاحقة الباحثين عن حرية رأى وعقيدة. وكالعادة يمضى شهر الرحمات والعفو، والمصريون فى خناق وشجار وتراشق بالحجارة والرصاص والمولوتوف، وتسابق بين الشيوخ فى ماراثون إهدارالدم، وقتل السيدات والأطفال، وإيقاظ روح الجاهلية والثأر البغيض دون أن نستعلى على ضعفنا وكسلنا وتراخينا، ونصبر على جراحنا وآلامنا، ونتخلى عن إحباطنا ويأسنا، ونتحول إلى الأمل واليقين والإيجابية، والثبات، والثقة بأن المستقبل لهذا الدين، والهزيمة للكافرين والمعاندين . وإذا كان قد ذهب من هذا الشهر أكثره ، فقد بقيت أواخره وثمرته، وبقيت الفرصة سانحة «لكلمة سواء» بين كل أطراف وأطياف الأمة، والاستجابة للدعوة الصادقة التى وجهها رئيس البلاد المؤقت، لإجراء مصالحة وطنية شاملة، نصل فيها إلى نقاط اتفاق لا يعلو بعضنا على بعض، ننهى فيها عصر المزايدات والشعارات، والمصالح والأجندات . صحيح أننا لا ننكر أنه هناك العديد من العوائق والمصاعب، وأن المجتمع المصرى قد صار يعانى من نفسه بشكل مريب، وأنه يعيش اليوم حالة شديدة الانحطاط اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، إلا أن السير فى طريق الحرية والاستقلال والإخلاص لمصر بشكل غير مشروط، سوف يقودنا بشكل طبيعى ويسير إلى النقطة التى سيبدأ عندها تحرير وطننا وتحقيق نهضته ممن أرادوا به الكيد والفوضى ، وممن سعوا إلى استحواذ جماعتهم وتمكينها من احتلال مقدرات وثروات وحريات شعب عانى ظلم وفساد قرون عدة . كما يجب أن نتيقن أنه لا يمكن لأى مجتمع أن يغرس نفسه فى «وحل» الكراهية والحقد وأنهار الدم بهذا الشكل العميق طواعية ، وإن محاولة إيهام الرأى العام فى الخارج والداخل بأن رافضى عزل الرئيس المنتخب مجرد عدة آلاف من جماعته الإخوانية والتيارات الدينية المساندةلها، هى «أكذوبة «تدحضها الأعداد التى تخرج إلى الميادين وتغلق الشوارع وتعطل المصالح وتعربد بالمنشآت، وأنه آن الأوان للاستماع لمطالبهم ، وتلبية المشروع منها شريطة ألا تكون بينها «عودة المعزول» ، والتعجيل بمصالحة وطنية شاملة تعكس مصلحة الوطن، وإنهاء مأساة شعب واحد قسمته الخلافات السياسية والأطماع الفكرية والعقائدية ! وعلى الإعلام أن يقف وقفة رجل واحد لإنجاز المصالحة ، حتى وإن كان يعانى حملة تشويه وزيف متعمدين، من الفسدة ومنعدمى الوطنية، ساندتهم فى ذلك بعض الأبواق المسعورة والمأجورة من خارج الوسط وداخله، مستغلة حالة «الانفلات واللاوعى واللامسئولية» التى تضرب الشأن المصرى فى كل أنحاء جسده. بل إن البعض ذهب إلى مقولة جوبلز، وزير إعلام هتلر النازى: «أعطنى إعلاما بلا ضمير، أعطيك شعبا بلا وعى»، ونسى أو تناسى هؤلاء أن هذا هو إعلام الدول الفاشية، وليست مصر الحرة صاحبة أنقى الثورات. ومن أسف أن من بيننا من سلم السكين المسموم للمزايدين والموتورين لغرسها فى قلب المهنة، وطعن الشرفاء من العاملين بها فى ظهورهم، عندما غلب هؤلاء مصالحهم وأجندات من يعملون لديهم وتسديد فواتير من جاءوا بهم، على المهنية والمصداقية، ومواثيق الشرف المهنى والأخلاقى. إن إعلام مصر سيظل أكبر من الكاذبين والمنافقين واللصوص والجهلاء والدخلاء على المهنة، وسيظل يواجه أفظع الأنظمة استبدادا، ولنا فى سقوط مبارك وعصابته، ومرسى وجماعته العبرة والمثل. وبرغم احتياجنا لسرعة الحوار وإتمام المصالحة الوطنية ، فإننا بحاجة أكثر إلى التسامح مع الآخر، واستعادة صفة «الطيبة» التى تميز بها المصريون دون غيرهم على مر التاريخ لإيمانهم وتسليمهم بقوله: «فاعفوا واصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم»، كما لابد من تغليب روح «العفو» على مشاعر الحقد والكراهية والثأر والانتقام والبحث عن النقاط السوداء بالمجهر، وتلافى النقاط البيضاء ولو كانت أكبر من قرص الشمس!! ووردت عن الصالحين روايات عديدة فى الصفح والعفو، فقد قال أبوبكر الصديق: «بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادى: «من كان له عند الله شىء ؟..فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس»، وقال معاوية : «لو كانت بينى وبين الناس شعرة ما قطعت، إن جذبوها تبعتهم، وإن جذبتها تبعونى لكى لا تنقطع» . إننا مقبلون على أيام العفو والمغفرة نرفع أكف الضراعة معاً لله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين فى كل مكان ، وأن يرفع الضر عن المتضررين والبأس عن البائسين والاضطهاد عن المضطهدين. اللهم ارحم الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل والشيوخ الركع والأطفال اليتامى من لهم إلا أنت ..من ناصرهم إلا أنت ..من رحيمهم إلا أنت ..من وكيلهم إلا أنت؟ اللهم هاهم أهل مصر وسوريا وميانمار قد خرجوا طالبين نصرتك وعونك ومددك وفرجك وعفوك اللهم لا تخيب لهم رجاء، ولا تقفل أبوابك دونهم، وكن لهم ولا تكن عليهم برحمتك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين .