يحتاج زعماء التيار الإسلامى إلى وقفة مع النفس لتحقيق مهمة قومية لا تقل فى أهميتها عن إنجاز المطالب السياسية المباشرة التى جاءت بها ثورة 25 يناير. وتتركز هذه المهمة فى إحداث تجديد فى الفكر الإسلامى يلائم هذه الثورة بكل ما تحدثه فى الدولة والمجتمع من تغييرات جذرية. وتأتى مسألة التجديد الدينى كضرورة ليس فقط بحكم هذه الأهمية التى يمثلها الإسلام فى الحياة المصرية، وإنما لأن الثورة الجديدة جاءت بالإسلاميين إلى صدر الحكم، فأصبحوا فى صدر المسئولية عن صياغة مضمون التحول واتجاهاته الذى تمر به البلاد، فضلا عما يتوافر لديهم من قدرات مادية بشرية تتيح لهم فرصا عديدة لتحمل أعباء وتداعيات هذه المسئولية. المهمة ليست سهلة أو يسيرة، وفى نفس الوقت لا يمكن تجاهلها تحت أى حجة من الحجج لأنها هى التى تحكم على حاضر ومستقبل ليس فقط التيار الإسلامى وحده، وإنما المجتمع المصرى بأسره، فلا أمل للإسلاميين للبقاء فى السلطة أو تصدر المشهد السياسى والثقافى والاقتصادى إلا بطرح تصور تجديدى للفكر الإسلامى يتعدى فى تجديديته كل ما تم عمله فى العهود السابقة نظرا، لأن الإسلاميين السياسيين وجدوا أنفسهم لأول مرة بعد ما يقرب من 83 عاما فى قمة السلطة، أى مسئولين مباشرة عن تفعيل أفكارهم ورؤاهم عما يجب أن تكون عليه مصر الدولة والمجتمع فى السنوات المقبلة. كان التجديد هو ملاذ المفكرين والسياسيين الإسلاميين الذين قادوا حركات الإصلاح الدينى فى القرن التاسع عشر فى مصر وأبرزهم جمال الدين الأفغانى وتلميذه محمد عبده، وكذلك بالنسبة لتلاميذ هذين الزعيمين فى القرن العشرين من أمثال رشيد رضا وقاسم أمين وأحمد لطفى السيد ومصطفى عبدالرازق ومحمد حسين هيكل، وصولا إلى خالد محمد خالد وغيرهم.. وثبت بالتجربة أن هناك تلازما فى العلاقة بين الاستبداد السياسى والجمود الفكرى والعكس صحيح، فحينما يكون الاستبداد يسود الجمود والتخلف فى اجتهادات البشر لرؤية الحياة وكيفية إدارة شئون معاشهم، وفى نفس الوقت فإن عصور الجمود الفكرى لم تفرز سوى الحكام المستبدين. ومن هنا ارتبطت لديهم حركة التجديد الدينى التى قادها الأفغانى وعبده باهتمامهم أيضا بالحريات السياسية وإقامة النظم الدستورية والنيابية وسيادة دولة القانون، فمثلما شن كلاهما حربا على التقليد الأعمى للشيوخ القدامى وطالب بالاجتهاد، كانا من أشد المطالبين بالحريات الساسية ومقاومة الاستبداد، بجانب المقاومة ضد وجود الاحتلال الأجنبى، وأجمع كلاهما على أن سبب شقاء الشرق الإسلامى آنذاك يكمن فى شيوع الاستبداد السياسى من ناحية والجمود العقلى من ناحية أخرى. وحيث كان الإسلام يمثل المنظومة الفكرية الجامعة لكل القوى الاجتماعية والثقافية والسياسية فقد بذلا جهدا كبيرا فى إزالة الجمود الذى حاق بالفكر الإسلامى على مدى فترة الحكم العثمانى. وفى نفس الوقت لعبا دورا بارزا فى قيام الثورة العرابية والتأسيس للحياة النيابية فى مصر. عدت إلى أ ول أعمالى العلمية منذ ما يقرب من 35 عاما فوجدت أن جماعة الإخوان المسلمين التى نشأت عام 1928 قد تأثرت بالكثير من الأفكار الإصلاحية التى دعا إليها الأفغانى وعبده وتحديدا رشيد رضا الذى يعد من أقرب تلاميذ الإمام. فالأفغانى فى نظر الجماعة (وفقا لأدبياتها القديمة) هو صاحب الصيحة الكبرى لبعث الإسلام، وعبده هو المعلم والمفكر للحركة الإصلاحية الإسلامية، ورشيد رضا هو المؤرخ والكاتب لها، أما حسن البنا مؤسس الجماعة فهو الشخص الذى قام بتحويل الدعوة الفكرية إلى حركة وإلى عمل. كان والد حسن البنا تلميذا للإمام محمد عبده وقت وجوده فى إدارة الأزهر، وحسن البنا نفسه كان على صلة بمصطفى المراغى أحد تلاميذ إمام الأزهريين، كما أن صلته بالمنار وبالمكتبة السلفية التى ترأسها محيى الدين الخطيب وهما من المصادر التى اهتمت بفكر عبده بعد وفاته، كانت صلة قوية ، وقد فتحت المنار صفحاتها لأفكار البنا واكتتبته فيها، ومن جهة أخرى فإن الإخوان تبنوا بعض الأفكار الأساسية التى نادى بها عبده، مثل دعوتهم إلى تبسيط الإسلام أى عرضه بطريقة تستوعبها الطبقات العريضة من المسلمين، وإلى المناداة بالتخلى عن الفوارق فى المذاهب الإسلامية، والبحث عن أسس واحدة للتفكير الإسلامى تحفظ على المسلمين عقيدتهم وعملهم بها، ومثل اقتناعهم بأن تغيير الأوضاع السيئة للمسلمين، إنما يتأتى بتغيير أفكارهم عن الإسلام ومن داخلهم، بمعنى آخر فإن صلاح المسلمين يستند إلى اقتناعهم بأنفسهم بأهمية الإصلاح واضطلاعهم بمسئولية ذلك، هذا بالإضافة إلى دعوة الإخوان لوحدة المسلمين والمجتمع الإسلامى. لكن اهتمامات الإخوان فى ذلك الوقت تركزت على ما يمكن اعتباره جهدا حركيا سياسيا وليس فكريا لأنهم كانوا معنيين بالنتائج وإعداد المسلم الذى ينتمى إلى اتجاهاتهم (الفرد والأسرة والأخوة على المستوى الوطنى والعالمى)، وبحكم الخوف على الإسلام من تحدى الحضارة الغربية العلمانية، ولهذا لم تهتم الجماعة بالتجديد الفكرى مثلما فعل عبده واكتفت بالتفسيرات القديمة للعقيدة وركزت على الكتابات التقليدية من الصوفية. ومن جهة أخرى أهملت الجماعة ما دعا إليه عبده فى الاستناد إلى العقل، كما أنها حاولت البحث عن سلطة لها استنادا إلى الدين، و بذلك تلقف الإخوان دعوة المنار (مؤسسها رشيد رضا)، إلى تكوين جمعية إسلامية لنشر الإسلام والدعوة للحكم بالشريعة وحولوها إلى دعوة سياسية، بينما كانت المنار لا ترغب فى الدخول فى الحركة السياسية.. وكان رشيد رضا حريصا على تأكيد هذه السمة لدعوته، إلا أن الإخوان فضلوا دخول الحركة السياسية (منذ عام 1938)، ويمكن القول إن حركتهم السياسية هى الحركة السياسية الإسلامية القوية منذ ظهور العروة الوثقى (الجمعية السياسية التى أسسها الأفغانى فى باريس ودخلها عبده لمواصلة حركة الإصلاح بعد فشل الثورة العرابية). لم تنجح حركة التجديد التى فجرها محمد عبده فى أن تكون لها مدرسة قوية بين صفوف المصريين على مختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، لأنها تفرقت بين فصائل شتى رأينا منها كما سلف الذكر حركة الإخوان المسلمين التى نجحت فى أن تنقل التجديد من مجال الفكر إلى مجال السياسة. ودون الدخول فى جدل التقويم لمسار جماعة الإخوان وما إذا كان من الأفضل لها التركيز على الدعوة والتجديد الفكرى أم العمل السياسى، فإن منهج حسن البنا حسم القضية منذ عام 1938 بتوجيه الجماعة إلى العمل السياسى حتى يكون للتجديد الفكرى معنى وقيمة كما اعتقد هو والجيل القديم بالجماعة.. ومع نجاح ثورة 25 يناير ونجاح الجماعة فى تصدر المشهد السياسى بالبلاد، فإنها قفزت سريعا على كل القضايا الفكرية التى تعد نقاط جدل فى الفكر السياسى الإسلامى، وتبنت خطابا ليبراليا زايدت فيه على عتاة الليبرالية أنفسهم، وبذلك رأت أنها أراحت نفسها من القيام بعملية تجديد عميقة فى الفكر الإسلامى حرصا منها على ألا تفقد إنجازها السياسى الذى حققته. هذا الإنجاز السياسى لا يصمد طويلا فى حالة إصرار الجماعة على ألا تقوم بعملية تجديد فكرى مشهود يحسب لها فقهيا وسياسيا، فالانتصار حقا للحرية ودفع الاستبداد يتطلب فى نفس الوقت الانتصار للتجديد الفكرى ولنا فى بعض جوانب المشهد الراهن بعد الثورة ما يؤكد ذلك.