تفاقمت أزمات المنطقة العربية واستعصى الكثير من قضاياها على الحل، منذ أن تداعت عليها القوى الدولية من كل حدب صوب، ساعية بكل الطرق والوسائل لتفتيت أوصالها، مستخدمة في ذلك كل الأدوات التي عهدتها، تارة بدعم الإرهاب وأخرى ب«وهم التسوية السياسية» التي اخترعتها تحت مسميات وآليات كاللجان الدولية، المبعوث الأممي، وهي آليات أصبحت في الكثير من الأزمات جزءاً من الأزمة لا الحل. كان لتطورات الوضع العربي بدءاً من سقوط بغداد 2003، وما تلاه من تداعيات أوصلتنا إلي ما يسمي بالربيع العربي، الذي أدخل المنطقة في دوامة سقطت فيها ليبيا وسوريا، بينما قاومت مصر بإرادة شعبية يسرها القدر، أملا في أن تبقى المنطقة متماسكة إلي حد ما، بدلا من الدخول في سيناريو لو تم لكان كارثة لا يعلم مداها إلا الله. على أن انشغال مصر بالكثير من مشاكلها الداخلية، قد ترك بصماته بالسلب على الكثير من هذه القضايا، التي فشل النظام الدولي في تسويتها، بل عمد إلي تنفيذ أجندة خاصة به لخدمة مصالحه..لكن الشواهد كلها أصبحت تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن عودة مصر باتت أمرا ضروريا لحل تلك القضايا، وأن استدعاء دورها في تلك القضايا على رأسها سوريا وليبيا، بل أيضا العراق، أصبح أمرا ضروريا بل وملحا في الآونة الحالية. وتؤشر التحركات المصرية الأخيرة إلي بوادر لذلك، ربما يعمقها أن الأطراف الإقليمية، بل أيضا الدولية، التي تلعب دورا رئيسيا في هذه القضايا، أرسلت إشارات عديدة لمصر في هذا الإطار يأتي على رأسها العراق الذي تفاوض مع مصر لتوفير احتياجاتها من البترول بعد ما تردد من أن السعودية ستوقف إمداداتها البترولية لمصر. وهو الاتفاق الذي كشفت مصادر خليجية ل «الأهرام العربي» أنه جاء بوساطة روسية- إيرانية. وكان السفير العراقي في القاهرة حبيب الصدر، أعلن أن الحكومتين، المصرية والعراقية، وقعتا اتفاقية لإمداد مصر بمليون برميل نفط شهريا، وستدخل حيز التنفيذ خلال أيام قليلة. وأضاف الصدر أن الشحنات وهي من نفط البصرة الخفيف، قابلة للزيادة فيما بعد وبشروط دفع ميسرة. ويكشف مصدر سياسي رفيع المستوى ل «الأهرام العربي» أن الأطراف العراقية ترحب بأى مساع مصرية لتسوية الأوضاع، والتدخل الذي من شأنه أن يعمل على استقرار العراق، وتلمح إلي إمكانية أن يلعب الأزهر دورا مهما في هذا الصدد من الطوائف العراقية المختلفة، مؤكدا أن اتصالات ولقاءات على مستويات سياسية، سوف تتم بين البلدين خلال الأشهر القليلة المقبلة خصوصاً على المستوى الدبلوماسي. ليبيا أيضا باتت في حاجة إلي تحرك مصري ملح، بعد أنباء مفادها أن المبادرة العربية التي قدمتها تونس لم تتضح معالمها في كيفية التعامل مع الأزمة بشكل صحيح، ولا توجد تفاصيل أساسية تم طرحها أو تناولها. كما تم تداول أنباء عن قمة ثلاثية بين مصر وليبيا والجزائر، بعد لقاء للرئيس عبد الفتاح السيسي، مع فايز السراج رئيس المجلس الرئاسى الليبى، في القاهرة أخيرا، أكد خلاله الرئيس المصري موقف بلاده الثابت من دعم وحدة واستقرار ليبيا واحترام إرادة شعبها الذى تربطه بالشعب المصرى، وأنها علاقات وثيقة ممتدة عبر التاريخ، والتأكيد على المساعي المصرية لدعم الوفاق بين مختلف مكونات الشعب الليبى، وإيجاد حل ليبى خالص يرسخ دعائم المؤسسات الوطنية الليبية، وبدون أى تدخل خارجى. وأن مصر لن تألو جهداً من ودون توفير البيئة الملائمة للحوار بين الأشقاء الليبيين، ومساعدتهم على تحديد ومعالجة القضايا الجوهرية، حتى تتمكن المؤسسات الليبية الوطنية خصوصاً المنتخبة منها من الاضطلاع بمسئولياتها وفقاً للاتفاق السياسى. مصدر دبلوماسي عربي تحدث ل «الأهرام العربي» ليكشف عن إرهاصات مهمة تستدعي الدور المصري وبقوة في حل باقي أزمات المنطقة قال: إن الحراك المصري تجاه ليبيا كواحدة من أهم هذه الأزمات هو الأكثر جدية من غيره، لأن الخطوات التي اتخذت في مصر، مبنية على أسس وأركان واضحة وفق الثوابت الشرعية ومساندة البرلمان والجيش. معتبرا أن الحل للأزمة الليبية سيكون من مصر. وحذر من الدعم الغربي خصوصاً من إيطاليا التي أرسلت بوارج محملة بالأسلحة والجنود إلى المياه الإقليمية الليبية، بعد أيام من إعادة فتح السفارة الإيطالية في طرابلس. مؤكدا أن العقبة أمام أي حل سياسي في ليبيا، هي القوى التى تمثل إرادة الغرب. وفي اليمن انتقد مصدر خليجي مقرب ل «الأهرام العربي» اللجنة الرباعية المؤلفة من الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، والسعودية والإمارات، وقال إن الصورة تبدو مماثلة من التحركات الغربية تجاه التسوية في ليبيا التى تركز على مصالحها في المقام الأول والأخير وانتقد أيضا جهود الأممالمتحدة. وقال إن «اللجنة الرباعية التي سمت نفسها بهذا المسمى» تمثل ما أسماه « الإرادة الأمريكية على اليمن، مشيرا إلي أن تعامل مبعوث الأممالمتحدة معها على غير هذه الرؤية، يأتي في إطار انحراف الأممالمتحدة عن مواثيقها الأممية، وتنفيذ رغبات وأجندات الدول الغربية. وأضاف المصدر الذي عاد إلى صنعاء منذ يومين، بعد أن بقي في مسقط لما يقرب من شهرين، أن دور الأممالمتحدة في اليمن ليس إلا تغطية لمصالح خارجية. وعن سوريا وهي الملف الأهم والملح على مستوى استدعاء الدور المصري .. فالحديث يبدو خطيراً وفقا للمصدر ذاته، فإن غياب الدور العربي في الاتفاق التركي الروسي والملف السوري بأكمله مرتبط بالخلل الكبير في ميزان القوى بعد احتلال العراق، فمنذ 2003 إلى اليوم ونحن نشهد تراجعا كبيرا لحضور الإقليم العربي وتأثير الدول العربية. لا يمكن الآن الحديث عن طرف عربي له حضور في المحادثات، ولا يمكن توقع أي ثقل لأي طرف عربي في المحادثات المقبلة في أستانا، لأن الأمر مرتبط بالحضور على الأرض. وأوضحت المصادر أن تركيا لها حضور في سوريا، ولإيران حضور قوي وكذلك روسيا، وهذه الأطراف تستطيع أن تجلس على طاولة المفاوضات، ولديها أوراق قوة تستطيع المناورة بها، لكن الطرف العربي لا يملك للأسف الشديد أوراقا. وأشار المصدر إلى أن الغياب مرتبط أيضا بتراجع الدور المصري بشكل كبير، مؤكدا أن الخلل تزايد نتيجة ما شهدته مصر من مشاكل الربيع العربي ليس فقط في القضية السورية، بل في مجمل الوجود العربي السياسي في المنطقة. وأن عودتها -أي مصر- كفيلة بإصلاح هذا الخلل، مشيرا أن هناك إشارات إيرانية لإمكانية التنسيق مع مصر خصوصاً بعدما تردد أن إيران توسطت لدى العراق، لإرسال شحنات بترول عراقية بدلا من التى كانت تأتيها من المملكة العربية السعودية. وقال: إن علينا أن نكون واقعيين فيما يتعلق بالدور الإيراني في سوريا، حيث إنه لا يمكن الحديث عن حل في سوريا بدون إيران، فقد أصبحت أمرا واقعا، لأننا نتحدث عن أكثر من خمس سنوات من النفوذ الذي بني للإيرانيين داخل سوريا، وباتت إيران ضالعة في مفاصل الحياة السورية بما فيها بناء ميليشيات من السوريين أنفسهم. وأضاف: نحن نتحدث عن وجود واقعي وميليشيات عابرة تأتمر بأمر إيران ونفوذها القوي والكبير جدا في العراق، ولذلك لا حل في سوريا بدون حضور إيراني وأيضا عربي..وعلينا أن نتذكر في هذا السياق أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نفسه وصف اتفاق إطلاق النار في سوريا بأنه هش، لأنه يدرك أبعاد الحالة في سوريا ونفوذ إيران داخلها وما تريده منها، وهي التي دفعت حوالي 175 مليار دولار في سوريا -وهو مبلغ خيالي- لا يمكن أن تسمح بإقصائها بسهولة، وتستطيع إجهاض أي اتفاق سياسي في سوريا». وتستعد إيران للمشاركة في مؤتمر الأستانة حول سوريا لأنها تحتاجه لأجل الاستراحة من جهة، ولإقبالِها من جهة أخرى على انتخابات رئاسية في مايو المقبل، بالإضافة لبدء نوع من النقاش الإيراني الداخلي حول ملفات الفساد والإنفاق وتراجع الحالة الاقتصادية، خصوصاً أن الاتفاق النووي لم يأت بالمكاسب التي كانت تريدها إيران. وتشير الأنباء المتداولة إلي أن إيران ستدخل المحادثات في زاوية صعبة لما لها من خبرة في التفاوض، فالملف النووي وفر لها خبرة طويلة، بل وينتظر أن يكون نفس الفريق الذي فاوض في الملف المذكور، هو الذي سيشارك في مفاوضات أستانة الشهر الجاري مع دخول مفاوضين من الحرس الجمهوري ضمن الفريق والوفد الإيراني. أخيرا لقد بات الحديث ملحا عن تصحيح مسار تلك القضايا التى انحرف مسارها عن التسوية، بعد تراجع الدور العربي لأسباب عديدة أولها وربما أهمها أن النظام الإقليمي العربي مقبل على قمة عربية، ربما تبقى عليها الآمال معلقة في الخروج برؤية واضحة للتعاطي مع تلك الأزمات وهي القمة العربية الدورية المقبلة بالأردن .وثانيا أن استمرار التراجع العربي أدرك الجميع نتائجه، بل وأكد معطيات تاريخية لا يمكن إنكارها والتي تؤكد أن غياب الدور المصري عن أزمات المنطقه نتيجته لا محالة بالسلب على مستقبل المنطقة بأكملها .. بل وأيضا على مصالح الدول الغربية التى عجزت هي الأخرى عن الحل.