نويت أن أسافر في الصباح الباكر لعرض شقة شاطئ النخيل للبيع لتدبير مبلغ أساعد به أولادي علي الهجرة. أعترف أن الشقة لا تربطني بها عشرة.. فالمكان الوحيد الذي تربطني به ذكريات طيبة هو بيت أبي الذي تربيت فيه وصاحبت حوائطه وغرفاته والنخلة الطويلة التي كانت تجعلنا دائما ننظر الي السماء وتشربت فيه قيم الأسرة أما هذه الشقة الأسمنتية المعلقة بين السماء والأرض في عمارة الضباط فعلاقتي بها قائمة علي المصلحة, ولإحساسي بأنها أمان وقت الشدة.. ووجدتني غير مطمئن لهذه الخطوة, وعدم اطمئناني مبعثه أنني أفتح بنفسي باب العش لانطلاق طيوري في السماء الواسعة ولا أعرف متي تعود إلي العش مرة أخري أغمضت عيني رأيت أنني أسبح في البحر سعيدا بما حولي.. أسرتي وأولادي أمامي يلعبون وسط المصطافين.. ورجال ونساء وأطفال يسبحون في نهم وشوق للسعادة, والبحر هادئ يهدهد الجميع والشمس ترسل أشعتها الرقيقة عبر نسمة علي صفحة الماء تشجع علي البهجة والاستمتاع بحيوية الكون.. طرحت جسمي في وصلة سباحة علي الظهر مسترخيا بلا حركة إلا للضرورة, وأغمضت عيني مصغيا إلي أصوات المرح من حولي.. الأصوات راحت تخفت.. وتخفت حتي ابتعدت.. ثم تلاشت.. فتحت عيني لم أجد أحدا إلا البحر يحاصرني ولحسن حظي أنني كنت قريبا من الشاطئ.. تحسست طريقي إليه بصعوبة كانت قوة خفية تثقل قدماي وتشدني للخلف, وبعد عدة خطوات قطعتها وسط مياه ثقيلة كأنني أمشي في الرمل. كان الشاطئ محاصرا بشبورة من غضب الطبيعة والدخان الكثيف.. نظرت حولي وتساءلت.. هل تأتي الشبورة في النهار.. كانت أصوات زعر الناس تأتيني من بعيد ثم ناديت: يا أولاد.. يا أولاد, ورحت أصيح علي أولادي بالاسم فلم يرد أحد, مددت نظري بأقصي ما أستطيع, كانت الرؤية تنعدم كلما رفعت نظري أكثر من متر واحد علي وجه البلاج.. هناك علي البعد أشباح ناس يجرون في اتجاهات مرتبكة.. أطراف سيقان تغوص في الرمل.. تنتزع نفسها من الأرض بصعوبة.. سيدات يحملن حول أجسامهن جبالا من الدهن.. ورجال يتعثرون فوق كروشهم, يحاول الجميع أن ينهض ويهرب بأخر ما فيه من عزم ونفس.. أطفال يسقطون في الحفر التي كانوا يلهون بحفرها فتجرهم الأيادي جرا.. بينما تواصل الشبورة هجومها الزاحف بكرات متتابعة من الظلام حتي ضربت حصارا أعلي البلاج فانعدمت الرؤية تماما بعد أن سدت كل ثغرات الضوء وانقطع صوت الناس تماما, وغابت عن بصري أيضا الشماسي والكراسي التي كانت أخر من بقي مزروعا في مكانه. لكن نسمة خفيفة علي وجه البحر أصدرت صوتا حانيا شعرت جهته بالاطمئنان, ونظرت جهة عمارة الضباط بود وشوق دون أي نية للغيظ أو الغضب.