إن سافرت بخيالك إلي نجمة بعيدة لترقب مشهد الكرة الأرضية وهي تدور, ستفاجأ بعدة آلاف من لحظات الشروق والغروب, ففي لحظة غروب الشمس من بلد ما تكون هي نفسها لحظة شروقها في بلد آخر. ومن كتب عن تلك الحقيقة الفريدة هو الكاتب الفرنسي الأشهر أنطوان سانت إكزوبيري الذي ولد في العام الأول من القرن العشرين, وعمل طيارا يقود طائرات حمل البريد من قلب إفريقيا إلي قلب أوروبا, ثم من قلب أمريكا اللاتينية إلي باريس, وهو من عاش أكثر من تجربة نادرة في حياته. لعل من أهمها علي الإطلاق لحظة أن سقطت به طائرته في صحراء مصر الغربية, ولم يجد أمامه سوي انتظار الموت, فراح يستجمع رحلة العمر كلها إلي أن غاب عن الوعي بعد ثمانية أيام من الوجود في التيه المترامي الأطراف, ولكن خياله ظل يعمل طوال الوقت وكأنه المترفق بمن يذهب إلي النهاية, فيكتشف في أعماقه ذلك الأمير الصغير الذي يوجد علي نجمة بعيدة يرقب من خلالها أكثر من شروق وغروب. أليس عمل الطيار هو الصعود إلي الأعالي لإختزال المسافات بسرعة الطائرة التي يقودها؟ هكذا أيضا تمكن خيال أنطوان سانت إكزوبيري من الترفق به فصعد به إلي النجمة البعيدة ليرقب كل أيام العمر, وليري بعيون الخيال أكثر من شروق, وأكثر من غروب في آن واحد, ثم يعود الوعي إليه بفضل بدوي مصري راح يقطر في فمه قطرات من الماء بهدوء شديد, فبدأت الحياة تشرق من جديد في الجسد المتيبس من العطش, وكأن هذا الحادث هو جوهر ما دفعه إلي كتابة رواية الأمير الصغير الذي شاهد بعضا من تفاصيل حكايته عبر رحلة الغيبوبة التي داهمته, وأخذ يستكملها بعد عودة الوعي إليه. تري هل كانت حياته بعضا من الوقت تائها في صحراء مصر هي التي دفعته إلي كراهية الغباء الذي مثله في روايته بالخروف الذي يأكل كل نبتة خضراء, حين رأي في تلك الصحراء كيف تأكل الخراف أي نبتة خضراء حتي تلك التي تحمل مشروع وردة أو زهرة؟ نعم لقد شعر بذلك ولذلك أصر علي تنبيه أي إنسان إلي أهمية أن يحفظ زهور أعماقه بعيدا عن قطعان الخراف, وليحتفظ كل منا بتلك الوردة المطلة من حديقة خياله لتؤنس هذا الأمير الصغير الموجود أيضا في أعماق أي منا ليتأمل كل شيء في الكون, وهذا ما ينقذ الإنسان من جفاف الحياة, بل إن علينا أن ندرب الأبناء علي رعاية الحلم المتأمل الذي يولد مع أي منهم, فكل ابن بشكل أو بآخر هو مشروع كائن جديد يستوعب خبرات من سبقوا دون أن تلسع أعماقه مرارة هزائمهم أو ركودهم أو قصور قدراتهم علي التخطيط للمستقبل. وجاءت رواية الصغير بكل ما فيها من بساطة يمكن أن يستمتع بها الكبار, ويمكن أن تحفظ للأطفال حق الاعتزاز بكل خيال يشكل أحلامهم الشجاعة, وكان مصدر الإلهام فيها هي تلك الرحلة التي سار فيها إكزوبيري إلي الغيبوبة دون أمل في النجاة. وكأن رحلة هذا الطيار النبيل حين عاد إلي الحياة قد كشفت له حقائق النجاة من الخصومة مع جماليات الحياة, فحين نتقاتل من أجل مكاسب لن نستفيد منها إنما نبدد العمر, مثلنا مثل هذا الرجل الذي تخيله في روايته وراح يعد نجوم السماء, ويكتب تلك الأعداد, ثم يخطيء في الحساب, ويعيد من جديد لعبة التعداد تلك, وحين يسأله الأمير الصغير عن مهنته يقول له بصوت منشغل أنا رجل أعمال أقوم بجمع أعداد النجوم, وأيضا أعداد البراكين التي تمتليء بالمعادن النفيسة المنصهرة, فيسأله الأمير الصغير, وما الفائدة من تلك العملية؟ فيجيبه رجل الأعمال, لأعلن ملكيتي لتلك النجوم والبراكين التي ليس لها أصحاب, ومادام لا يوجد لها أصحاب, فمن الممكن أن تكون ملكا لي, ويتعجب الأمير الصغير من ذلك الكائن الغريب الأطوار الذي لا يختلف عن عالم الجغرافيا الذي يكتفي بانتظار المكتشفين للعوالم والبحار والمحيطات ليسجل اكتشافاتهم بالقلم الرصاص قبل أن يكتبها الحبر تأكيدا لوجود تلك العوالم, وعندما يسأله الأمير الصغير عن اكتفائه بالتسجيل دون خوض مغامرة الاكتشاف, فيدعي الجغرافي أن تلك ليست مهنته, فيسأله الأمير الصغير هل حسبت مواقع الورود وأعدادها في هذا الكون؟ فينظر له الجغرافي مستنكرا سؤاله هذا, وكأن الورود لا تستحق أن نحسبها أو نشعر بوجودها رغم أن جمالها هو الذي يوقظ في القلب تلك الحساسية التي نكتشف بها حيوية الدنيا وما فيها من عطر. وكلما داهمتني الوقائع التي تبدد أزهار الروح فأنا استحضر تلك الرواية التي أري فيها نوعا من التفسير لحيوية وجدارة الدفاع عن الخيال الإنساني في ضوء باهر وبسيط من البراءة.