كانت قاعة المسرح الصغير بالأوبرا مملوءة بالحضور.. لا تكاد تعثر علي مكان خال في أرجائها.. العديد ظل واقفا في خلفيات القاعة التي حشدت شخصيات عامة عديدة ومثقفين ورجال فكر وصحفيين. وشبابا وشابات من الجامعات, جاءوا جميعا لحضور حفل تأبين المفكر الإسلامي الكبير نصر حامد أبوزيد يوم السبت الماضي, والذي رحل عن عالمنا يوم الخامس من يوليو الماضي. كانت تجلس إلي يميني أم شابة محجبة جاءت بصحبة ابنها الصغير, وقد أمسكت ببرنامج الحفل وأخذت تقرأ بشغف أسماء الضيوف الذين سيلقون كلماتهم.. سألتها علي استحياء وقد تملكني الفضول.. فما الذي يجعل هذه الأم الشابة تترك بيتها وتتكبد مشقة الحضور وتصطحب معها ابنها الصغير لمجرد المشاركة في حفل تأبين.. قلت لها: هل قرأت بعضا من كتب نصر أبوزيد؟ هزت رأسها في إيجاب وقالت بثقة: بل قرأت معظمها.. تعجبني رؤاه.. هذا الرجل لم ينل مكانته في وطنه.. وعلي يساري جلست فتاة إفريقية شابة, ضمت شعرها الأسود الطويل في جدائل كثيرة علي الطريقة الإفريقية الشهيرة, كانت تجلس في رفقة صديق لها.. ظلا يصفقان طويلا للكلمات وقد التمعت عيونهما بحماسة عاطفية دافئة, قالا لي إنهما يدرسان هنا في القاهرة الفكر الإسلامي, وهما يؤيدان فكر نصر حامد أبوزيد, إذ انه يمثل علي حد كلماتهما التيار الإسلامي المستنير. في الصفوف الأمامية جلست شخصيات من سوريا ولبنان والكويت وهولندا, زملاء.. ومفكرون.. وتلاميذ نصر حامد أبوزيد. اختلطت الشعور الشقراء المنسدلة بالعباءات والطرح. تناثرت اللهجة العامية المصرية مع اللهجة العربية السورية واللبنانية والكويتية والإنجليزية. جالت عيناي في أرجاء المكان وتوقفت عند صديقات وأصدقاء وزميلات وزملاء لم ألقهم منذ سنوات طويلة, ها نحن نلتقي هنا في حفل تأبين نصر حامد أبوزيد الذي فارق الحياة بجسده, وظل فكره المستنير باقيا. حضور النخبة المصرية والعربية المثقفة إلي جوار العامة والشباب والفتيات المحجبات الذين ملأوا القاعة استوقفني بشدة, إذ أنه يحمل معه دلالة خاصة. لم تستطع ابتهال يونس رفيقة عمره المخلصة أن تحبس دموعها طويلا وانفجرت باكية تأثرا بالكلمات, وبهذه الحالة العاطفية الدافئة التي غمرت المكان. أحمد مرسي.. برهان غليون.. فيصل دراج.. آمنة نصير.. إبراهيم فتحي.. جابر عصفور.. عماد أبو غازي.. علي حرب.. حسن حنفي.. طالب المولي.. زين العابدين فؤاد.. يحيي الجمل.. مني ذو الفقار, فريدلم هاوس.. وغيرهم.. وغيرهم من المفكرين والكتاب والشعراء والنقاد جاءوا جميعا يوم حفل تأبين نصر حامد أبوزيد ليؤكدوا ضرورة تحرر العقل العربي من سجونه وقبول مبدأ الاختلاف وحق التفكير باستقلال وحرية الدفاع عن الرأي. استوقفتني كلمات الدكتور برهان غليون, أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون: نحن لا ندافع اليوم عن حق نصر في حرية التفكير, بل نريد أن ندافع عن حق جميع المثقفين والمواطنين والمسلمين أن يكونوا أحرارا, أن يفكروا بما تمليه عليهم ضمائرهم, لأنهم إن لم يفعلوا كذلك يصبحون إما من أهل الرياء أو إمعات... ونصر حامد أبوزيد صاحب العديد من الكتب والمؤلفات, نذكر بعضا منها: الاتجاه العقلي في التفسير فلسفة التأويل مفهوم النص دراسة في علوم القرآن إشكاليات القراءة وآليات التأويل نقد الخطاب الديني المرأة في خطاب الأزمة دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة الخطاب والتأويل.. التفكير في زمن التكفير.. وغيرها.. تدعو معها إلي التحرر لا من سلطة النصوص الدينية وحدها, بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا علي حد كلماته. أجواء اللقاء حملت معها حميمية دافئة وعاطفة متأججة, والأهم من هذا كله رغبة صادقة في إحياء منهج وفكر ورؤي نصر حامد أبوزيد.