بالمسرح الصغير بدار الأوبرا أقيمت احتفالية كبري تحت عنوان «يوم الدفاع عن الحرية الفكرية لتكريم المفكر الراحل د. نصر حامد أبوزيد شارك فيها عدد من أصدقائه وتلاميذه منهم د. ابتهال يونس ود. حسن حنفي ود. آمنة نصير وزين العابدين فؤاد ود. عماد أبوغازي وإبراهيم فتحي ود. جابر عصفور ود. برهان غليون من سوريا، وعلي حرب من لبنان، وفيصل درّاج من فلسطين، وطالب المولي من الكويت، ود. فريد لم هاوس من جامعة ليدن بهولندا، ود. عمرو رياض من جامعة ليدن أيضا وأدارها د. أحمد مرسي، وقد تخلل الاحتفالية عرض للمحاضرة الأخيرة للدكتور نصر أبوزيد تحت عنوان «الفن وخطاب التحريم» ساهمت في إعدادها مؤسسة المورد الثقافي. في البداية أكد د. أحمد مرسي أن الاحتفالية تجيء للدفاع عن الحرية الفكرية، وللتعبير عن موقف المثقفين الداعي إلي مواجهة الأفكار بالأفكار لا بمنطق الاستبعاد والقتل كما تفعل التيارات المتطرفة، وقد وقف «أبوزيد» في وجه تيار التدين المغشوش الذي يخشي أصحابه أي تأويلات مغايرة. وفي كلمة الأسرة أشارت د. ابتهال يونس زوجة المفكر الراحل ورفيقة دربه إلي أن اللقاء يأتي كثمرة للجهود التي بذلها الأصدقاء المقربون من د. نصر، وأن هذا اللقاء لن يكون الأخير فوفقا للمقولة الشهيرة «المفكرون لا يموتون» فإن المفكر يعيش مرتين الأولي من خلال كتبه التي يتركها، لكن الأهم هو أن يكون المفكر حاضرا علي الساحة الفكرية. وأضافت د. ابتهال يونس قائلة: كان نصر يفتخر دائما بأنه «باحث» لم يكن يحب أن يطلق عليه «مدرسة فكرية» فقد كان يقول: كيف ذلك وأنا ابن مدرسة موجودة فعلا منذ المعتزلة مرورا بالمعري ومحمد عبده وأمين الخولي، لذا من الأفضل أن نقول عنه إنه «صاحب منهج علمي» في البحث فقط، فهو امتداد لكل هؤلاء المستنيرين علي مر العصور، ويجب أن يكون هو كذلك في الأجيال التالية من خلال مناقشة أفكاره واستخلاص النتائج. خطاب مغاير وقال د. حسن حنفي: كان نصر أبوزيد تلميذا وصديقا وأخا استيقظ في مرحلة الليسانس بكلية الآداب بجامعة القاهرة من خلال منهج ورؤية واتجاه فلم يكن يوما ناقلا من أحد، وهو بذلك طبق المنهج الذي ينبغي أن تكون عليه الجامعة وهو التحليل والتأويل والتعليل. وأضاف د. حنفي لقد قال لي نصر يوما إنه قرأ الجرجاني ثلاثين مرة واستفاد من سيد قطب وشكري عياد وأمين الخولي، وقد كان يهدف في أبحاثه إلي الإشارة إلي أن الخطاب الديني هو خطاب ذو نسق في البلاغة تحدث به مبلّغ الرسالة من خلال هدفين رئيسيين هما تغيير المجتمع إلي الأفضل والثاني أن يكون الدين مدافعا عن حقوق الإنسان وداعيا إلي تغيير الواقع لا الاستسلام له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقد طبق نصر أبوزيد مهمة الجامعة - كما ينبغي - وهي طرح الأسئلة لكنه كان يغلبه التشاؤم وكنت أدعوه - دائما - للتفاؤل، ومع ذلك كله كان صاحب موقف وريادة . قيمة الحوار زميله في جامعة ليدن د. فريدلم هاوس أشار إلي لقائه الأول بنصر أبوزيد في خريف 1991 عندما جاء للقاهرة لتولي منصبه الإداري في المعهد الثقافي الهولندي، بعد أن قرأ حوارا في جريدة الأهرام يوم الجمعة 31 مايو 1991 تحت عنوان «نصر أبوزيد مفكرمصري جديد» يقول «فريد» لقد رأيت من خلال قراءتي للحوار في نصر مفكرا كبيرا رغم كونها - وقتها في ريعان الشباب - فقد كان قارئا للتراث بطريقة عقلية، وطارحا لأسئلة عميقة. وفي كلمتها أكدت د. آمنة نصير - الأستاذة بجامعة الأزهر - أن نصر تميز بإنسانية عالية وأنها لمست ذلك عن قرب حين زاملته لعدة أسابيع في العمل بالجامعة الهولندية والتي كانت متخوفة - منها - في البداية لكونها أستاذة «محجبة» إلا أن د. نصر أبوزيد هو الذي أزال هذا التوجس وكان بالنسبة لها نعم الأخ والصديق في الغربة. وأضافت د. آمنة نصير قائلة: إن أزمتنا في هذا المجتمع هي انعدام ثقافة الاختلاف وهذه هي أكبر محنة، رغم أن الدين الإسلامي توجد به ضوابط للاختلاف سبق بها كل الشرائع ومنها مقولات «رأيي صواب يحتمل الخطأ» و«رأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، فثقافة الاختلاف إرادة إلهية فلماذا نركز علي أخطاء الغير ونحكّم أنفسنا كأوصياء عليه حتي في أدق حياته، للأسف نحن نعيش الآن حالة من «التدين الظاهري» في ظل خواء الجوهر. ضد الأوصياء وتحدث المفكر د. برهان غليون مشيرا إلي القيم التي أرساها «أبوزيد» عبر مسيرته العلمية، ومن أهمها التأكيد علي حرية الفكر فقد كان «أبوزيد» من النوع الذي يرفض ما يمليه الأوصياء. وأضاف د. غليون قائلا: «وسواء اختلفنا معه في التحليل أو لم نختلف فهو رمز للمواطن الذي وقف مدافعا عن حقه في القول بما يمليه عليه ضميره، وعلينا أن نأخذ منه هذا الجانب، من خلال فهم أفضل، فليس لدي أي واحد منا مفتاح الحق، وعلينا ألا نضع العقل في مقابلة الدين بل أن نستخدم العقل في فهم قضايا الدين، وإلا فلن تكون هناك أي وسيلة للتفاهم. وأشار الناقد إبراهيم فتحي إلي منهج التأويل العقلاني عند «أبوزيد»، مؤكدا علي أن كلام الله جاء خطابا لبشر محكومين بالزمان والمكان، لذا كان منهجه بعيدا عن التأويل الظاهري السطحي، فهو منهج التغيير والتطور، وهو حوار بين ما جاء به الوحي والعالم المحيط، عبر التفتح والحرية التي نظر بها المسلمون الأوائل للخطاب القرآني، فالقرآن عند نصر أبوزيد دعوة موجهة للمسلمين لمد جسور الحوار والعقل، لذا فمنهجه في التأويل هو منهج خصب لا يحيد عن مبادئ الإسلام، بل يوظفها توظيفا عقلانيا. وقال المفكر اللبناني علي حرب: لقد كان نصر أبوزيد متعدد الوجوه والأبعاد، وما حاول أن يفعله هو اختراق للأسوار الممنوعة من قبل السلطات لكشف ما تم طمسه وحجبه أو التلاعب به من الأحداث والوقائع والنصوص والعوالم، والأهم من ذلك أنه حاول اختراق الممنوعات التي تتأتي من داخل العقل نفسه من خرافات وتعميمات. فالمجتمعات العربية أكثر المجتمعات ممانعة للمعرفة وقد نتج عن ذلك ما نراه من مصادرات فكرية وحروب أهلية. ونحن الآن أشد ما نكون بحاجة إلي المفكرين الذين تم إقصاؤهم - قبل ذلك - من المعري إلي نصر أبوزيد ومحمد أركون ممن يمثلون حقولا خصبة للتفكير. معني الحرية وفي كلمته أكد د. عماد أبوغازي - الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة أن شخصية نصر أبوزيد تحمل كثيرا من المعاني أولها معني الحرية - حرية الفكر والاعتقاد وحرية الرأي والتعبير والتي أظنها تعلو علي كل قيمة، ثم حرية البحث العلمي والتي عاني منها نصر أبوزيد. أما المعني الثاني فهو الاجتهاد ثم معني الباحث الذي يحترم أساتذته ويضيف إلي ما أنجزوه، وأخيرا معني الصمود ضد تجريف العقل العربي. وقد دعا د. أبوغازي إلي لقاء فكري العام القادم بالقاهرة لدراسة أفكار «نصر أبوزيد». الكاتب طالب المولي - من الكويت - فأكد أن نصر تميز بالشجاعة الفكرية ودعم مسيرة العقلانية التي نريدها لأوطاننا. وقدم المولي اعتذارا عما حدث من بعض المتطرفين الذين رفضوا دخول «أبوزيد» الكويت لحضور مؤتمر علمي منذ عدة شهور، لكن الندوة التي حاولوا إفسادها نجحت بعد أن ألقي «أبوزيد» كلمته عبر الهاتف، ضاربا المثل والقدوة في الدفاع عن الرأي في مواجهة ثقافة الخرافة والخضوع. وتحدث الشاعر زين العابدين فؤاد عن صديقه الراحل مؤكدا حكمة تغيير المواعيد فبدلا من أن يحتفل معه بعيد ميلاده في أبريل الماضي إذا بأصدقائه يتلقون فيه العزاء في عمر مكرم، وبدلا من أن يكون حاضرا الأسبوع القادم في طنطا للاحتفال به فإذا هي احتفالية لتأبينه. وأضاف زين العابدين قائلا: في هذه الليلة قصيدتان للشجاعة، الأولي هي ابتهال يونس رفيقة درب نصر أبوزيد والثانية د. آمنة نصير برؤيتها المستنيرة. ثم قرأ مقطعا من قصيدة مطلعها: «وما يشبهك يا نصر/ غير قلبك/ وحده اللي طارح جناين وناس» ثم قرأ مقطعا آخر من قصيدة «السكن تحت الجلد» ومنها «ساعات بشوف القصايد بتمشي/ وافتح عيوني لآخرها/ وأحلي القصايد تنام/ علي مخدة من ريش نعام» أما الناشر حسن ياغي - صديق وناشر كتب أبوزيد في بيروت - فلم يتمالك نفسه من البكاء عند إلقاء كلمته التي جاءت عبارة عن دموع وشجن. ود. عمرو رياض - تلميذ أبوزيد في جامعة ليدن الهولندية - فأشار إلي أن المفكر الراحل كان بالنسبة للطلبة المصريين هناك بمثابة الأب وكان يعتبرهم أسرته وكان دائما ما يأخذ ابنة د. عمرو جمانة ويغني لها «الليلة الكبيرة» وكان الطلبة هناك يطلقون عليه «شيخ القبيلة المصرية في ليدن». وتحدث جابر عصفور - رئيس المركز القومي للترجمة - عن مشهدين من التاريخ الأول مصادرة كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925 في ظل حكومة ديكتاتورية بقيادة زوير باشا صنيعة الملك فؤاد، وبعد أن أقيلت هذه الحكومة أعيد العمل بدستور 1923 فرجع علي عبدالرازق لوظيفته كقاض والتي رفد منها بعد مصادرة كتابه، وهذا يؤكد مبدأ الحريات في ظل دستور قوي. المشهد الثاني الذي ساقه د. عصفور فهو مصادرة د. نصر أبوزيد في الجامعة، وبعدها بشهور أصدر د. عبدالصبور شاهين كتابه «أبي آدم» والذي أثار ضجة أخري لكن لم يفصل من الجامعة ولم يحدث شيء وهنا نتذكر قول المتنبي: «وكم ذا بمصر من المضحكات/ لكنه ضحك كالبكا». أما الناقد الفلسطيني د. فيصل درّاج فأشار إلي أن أبوزيد تعامل مع الفكر - بجدية - ولم يعتمد أبدا علي الفكر الابتدائي، وإنما أراد أن يكون معروفا ب «المختلف النقدي» الذي يطرح - دائما - الجديد المتنوع.