والبنت رحلت فجأة كنفس خرج, وتأبي عليه الرجوع, ندي يدها الصغيرة لا يزال كشهقة في كفي, وصوتها يشقشق في أذني, مشيرة بسيابة يدها الحرة: عايزة من ده يابابا...... هل عاهدت نفسي ألا أقول لها: لا؟ ولو طلبت مني أن أسبح وسط اليم, وهي علي ظهري تغممني بيديها الصغيرتين, فكأنني حينئذ أنظر من نظارة معظمة. طالعني الميدان الخضم, وعلي البعد حددت نقطة عبوري من خلال السياج الحديدي, الذي وضعته شرطة المرافق, لتقسيم المكان إلي جزر منعزلة. تخريمة قصيرة وسأصبح في حضرة الفرن. كانت البنت تشبهني وقع الحافر علي الحافر, ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لضعفي أمامها, لكن أيضا لأنها كانت وحيدة. يعجبني جدا تبادل الأدوار مابيننا, أنام أحيانا مابين قدميها, وأحكي لها عن كل الأشياء, وكثيرا ماتربت علي كتفي... تمسد شعري.. تمسح عرق جبهتي, وحكيت لها عن القطة التي أكلت عيالها من الخوف, عن حروب الردة حكيت لها, والتتر والصليبيين وحطين, وعين جالوت والعاشر من رمضان, وحروب الوظيفة والموظفين والمثقفين, وماهو الفارق مابين الزمبة والأسفين والمهموز, وكنت أعرف أنها فقط تحس بالحالة في عموميتها, لكنها لا تدرك كنه التفاصيل. شهران تقريبا منذ أقلعت عن التدخين, وأخذ حبوب الضعط, صرت مضطرا لترشيد النفقات, يكفيني أني ابتعدت عن الأملاح بكامل إرادتي, وعن اللحم والدهن بغير إرادتي. نسيت وتماما لماذا أنا هنا الآن في الشارع وسط هذا القيظ والصخب؟!. جاءتني الإشارات بعد زمن لا أعرف بالضبط مداه... من بعيد كالفلاشات ترسم في الفراغ ملامح الأرغفة, نعم, لقد تذكرت الآن, خمسة أرغفة بلدي واجب كل يوم... الخبز هو البسط والغموس المقام. هم بعبور الفتحة التي في السياج, منعته اليد الميري, مشيرة إليه أن يعبر من الاتجاه الخلفي, الإجابة التي ينتظرها من عسكري المرور جاءته من أحد العابرين: قافلين الشوارع... الريس الأمريكاني الأسمر مشرف عندنا النهارده..... عندما وصل إلي سياج الاتجاه الخلفي, منعه صف جند الأمن المركزي, أشاروا له أن يعبر من الجهة المقابلة, فعاد أدراجه. في آخر المرات أشارت البنت بسبابتها ناحية بائع جوزة الهند, دفع آخر فلوس في جيبه, كان يحمل الثمرة لبعض الوقت, وتحملها هي للحظة, تم تدحرجها أمامها, وتلهث وراءهاوهي تصيح. لما وصل إلي منتصف قوس الدائرة, قعد, أخذ يراوح مابين عودة الكرة أو الرجوع للبيت الطلل, كان قراره نهائيا, فلم يتبق علي الغد سوي ساعات قليلة. هنا لا أحد يعرفه, هو الآن خارج نطاق الخدمة وطارقي الأبواب وسرب جراد الفواتير, هنا لاجدران تقيم مصيدته... فقط هو فراغ في فراغ, من خلفة الحديقة الدائرية المسيجة بالأسلاك الشائكة, ومن أمامه الإسفلت والطرق والكباري وفيضان البشر. كوع علي الرصيف, منتشيا بخروج دبابيس التعب من كل خلاياه, يعني هي وقفت علي العيش بلا بلاه الأكل هو كمان, الصوم جنة, جوعوا تصحوا. مد يده, التقطها الشمس المتهاوية في قبضته, مسح بها علي تجاويف صدره, أسر برسالة منسية للبنت في أذن الطائر, الذي يتأهب للدخول في معراجه, بعينيه الواهنتين لاحظ من موضعه هذا كيف أن الظلام يبدأ في زحفه, تمطي, فكان يستشعرها فراغات البلاطات تنطبع علي جسده وتساءل في هلع: هل حقا كانت له بنت صغيرة, ورحلت هكذا فجأة بلا مقدمات, أم أن الأمر لايعدو أن يكون تعبيرا دفينا عن رغباته المكنونة؟! تطلع للأفق المموه, ورأي البنت فاغرة فاها... مشدوهة داخل الأرجوحة, وضفيرتاها تشقان الكون, وماكينة حلاوة الشعر تلف... وتطن كنحلة كبيرة ورأي قبل أن يروح في غفوته كيف أن علمي البلدين بألوانهما الزاهية يرفرفان بثقة وأريحية وسط العتمة الضاربة, التي يخربشها بين الحين والآخر بعض انعكاسات الضوء المتناثر.