أرسلت لنا الطبيبة ( بثينة أحمد الأهدل ) رسالة طويلة ، عاتبة علّى وعلى الفريق الذي معي ، نسيانه للحديث عن شقائق الرجال ، ومدى مشاركتهم الرجال محنة 1965 و طلبت أن يكون العنوان المذكور آنفاً، وعلى الفور رجعنا إلى بعض المصادر المتاحة لنا عن تلك الفترة والموثقة – ولله الحمد – وكان من أهمها كتاب ( أيام من حياتي ) للحاجة زينب الغزالي – كيف بدأت القصة ؟؟ قالت لرجل من المباحث جاء إليها في منزلها: [كانت ملكة هولندا وزوجها في ضيافة ملك إنجلترا منذ مائتي عام تقريباً ولفت نظر ملك إنجلترا اهتمام ملكة هولندا بكلب كان يجرى في مكان الاستقبال ، هرولت إليه في لهفة وكأنها فقدت الوعي ، وحملته إلى صدرها وأخذت تقبله بشغف وحنان ، ثم أعطته لزوجها وهي تسر له ببعض الكلمات وتشير إلى عيني الكلب ووجهه فأخذ الملك الكلب وأخذ يقبله كذلك ... تعجبت ملكة انجلترا وزوجها مما رأيا وبخاصة بعد أن عادت ملكة هولندا وأخذت الكلب من زوجها وهما يجففان الدموع المنهمرة من أعينهما ، أخذته وضمته إلى صدرها كطفل عزيز عليهما . ولما دعيا إلى مائدة الطعام الملكية أخذت ملكة هولندا الكلب معها وأخذت تطعمه وتداعبه . وقالت ملكة إنجلترا : إن الكلب لابنتها الأميرة : أما الملك فقد سأل ضيوفه عن سر هذا التعليق بالكلب وقال كأنه يعتذر : " لولا أن الأميرة متعلقة بهذا الكلب لأهديته لكم " فقالت ملكة هولندا التي كانت تؤمن بتناسخ الأرواح ، إن لها ابناً مات وقد انتقلت روحه إلى هذا الكلب وأخذت تحاول إقناع ملكي إنجلترا بأن عيني الكلب هما عينا ابنها تماماً ... واقنع ملك إنجلترا ابنته بإهداء الكلب لملكة هولندا فأهدته لها فقد كانت تسمع القصة مع والديها " . ثم قلت له :" يا أستاذ راسخ (اللواء أحمد راسخ مدير المباحث) ، إن الذين يقولون بتناسخ الأرواح يدعون بعض الشبه بين الشخص المتوفى وبين الذي حلت فيه الروح بعد ذلك . ولكني التقيت بثلاثة من المباحث كلهم يدعى أنه أحمد راسخ، ومع ذلك فهم مختلفون في الطول والعرض واللون ولا يوجد تشابه بينهم... فهل قرر رئيس جمهوريتكم اعتناق مذهب جديد في تناسخ الأرواح وأمركم باعتناقه ؟! " فارتسمت على وجهه دهشة شديدة وحيرة بالغة . وقال : " نحن ناس طيبون يا حاجة ونريد أن نتفاهم معك ، أنا صحيح أحمد راسخ " . قلت :" وهذا الأمر ليس له من الأهمية نصيب " . وسألت : " ماذا تريد ؟" . قال : " إن الحكومة ترغب رغبة شديدة في التفاهم معك ، ونحن نعلم إن الإخوان المسلمين خدعوك وأقنعوك بمبادئهم ، والذي حدث لجماعة السيدات المسلمات وحل مركزها العام كان سببه الإخوان . هؤلاء ناس مشاغبون . ونحن نريد أن تتفاهمي معنا . وما نريده بسيط جداً هو أن نعرف الأفراد القائمين بنشاط من الإخوان المسلمين ، والله يا حاجة الريس سيحفظ لك هذه الخدمة ، وفي أيام قليلة ستلمسين نتيجة تعاونك معنا . وأنت سيدة طيبة طول عمرك ولا شأن لك بشغب الإخوان المسلمين وكفى ما سببوه لك مع الحكومة " . وأخذ يدّعى أن الأستاذ الإمام الهضيبي والإمام سيد قطب .. يعملان بكل جهدهما ليتفاهما مع الرئيس ، ولكن الرئيس يرفض التعاون معهما لأنه لا يأمن لهما . وأضاف : ولو كنت تعرفين ما يقوله الإخوان عنك لتفاهمت معنا وتركت هؤلاء الذين تسببوا لك في كل ما حدث من اضطهاد الحكومة لك وللسيدات المسلمات . وضحكت ... ثم قلت : " سأتكلم معك على أنك رجل من رجال المباحث لا يهمني اسمه ولا رسمه : أولاً : إنني أعتقد أن المسلمين الذين لا يعلمون من الإسلام إلا ظواهره يعرفون ويعتقدون أنكم بعيدون عن الإسلام ومحاربون له . أتريدون أن تتفقوا مع الحق وأنتم على الباطل ؟ ! تستوردون عقائدكم من الشرق والغرب معاً ترفعون شعارات الإلحاد الشيوعي ، وتارة تتمسحون بآلهة الرأسمالية وأنتم ضائعون بين الشعارين (أنظر المقال الماضي) .. ومن هذا الضياع تستمدون تشريعاتكم وأحكامكم أظنني صريحة معك وكلامي واضح لا يحتاج إلى تأويل . الإسلام شئ آخر غير ما تريدون " . قال :" والله يا حاجة أنا أصلي الجمعة " قلت : " وبقية الفرائض ؟" . قال : " تعودت أن أصلي الجمعة لأن والدي كان يفعل ذلك وكان يأخذني معه إلى المسجد يوم الجمعة ... " قلت له : " ألم تسأل والدك لماذا يصلي الجمعة فقط ؟ " . قال :" قلوبنا مسلمة يا حاجة ما دمنا نقول : لا إله إلا الله . كفاية ذلك " . قلت : " إن كلمة ( لا إله إلا الله ) بغير التزامكم بها ستكون حجة عليكم عند الله ، لا حجة لكم " . قال : " الناس على دين ملوكهم " . قلت : إن شاء الله تحشرون على دين ملوككم . قال : " عشمي أن نتفاهم " . قلت : " إن رسالات الأنبياء على مدى التاريخ لم تلتق أبداً بالباطل وأهله إلا لتدعوهم ليسلموا وجوهم لله سبحانه : ( إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ] الممتحنة : 4-5 [ فانصرف وهو يقول في لهجة غاضبة :" طبعاً .. أنا لن أجئ لك ثانية وإذا أردت الاتصال بي فها هو رقم تليفوني ". قلت له : " متشكرة ، لا أريد " ]. ثم شرحت الحاجة زينب الغزالي كيف كانت البداية: [في عام 1962 التقيت بشقيقات الإمام الفقيه والمجاهد الكبير الشهيد سيد قطب بالاتفاق مع الأخ عبد الفتاح عبده اسماعيل وبإذن من الأستاذ حسن الهضيبي ، المرشد العام للإخوان المسلمين ، للاتصال بالأستاذ سيد قطب في السجن لأخذ رأيه في بعض بحوثنا والاسترشاد بتوجيهاته . طلبت من حميد قطب أن تبلغ الأخ سيد قطب تحياتنا ورغبة الجماعة المجتمعة لدراسة منهج إسلامي في الاسترشاد بآرائه .. وأعطيتها قائمة بالمراجع التي ندرسها وكان فيها تفسير ابن كثير ، والمحلي لابن حزم ، والأم للشافعي وكتب في التوحيد لابن عبد الوهاب ، وفي ظلال القرآن لسيد قطب ، وبعد فترة رجعت إلى حميدة وأوصت بدراسة مقدمة سورة الأنعام .. الطبعة الثانية وأعطتني ملزمة من كتاب قالت : إن سيد يعده للطبع واسمه معالم في الطريق .. وكان سيد قطب قد ألفه في السجن وقالت لي شقيقته : إذا فرغتم من قراءة هذه الصفحات سآتيكم بغيرها . وعلمت أن المرشد اطلع على ملازم هذا الكتاب وصرح للشهيد سيد قطب بطبعه .. وحين سألته .. قال لي : على بركة الله .. إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد ، ربنا يحفظه ، لقد قرأته وأعدت قراءته ، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن ، إن شاء الله ، وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها فقد كانت عنده لأخذ الإذن بطبعها ، وقد حبست نفسي في حجرة بيت المرشد حتى فرغت من قراءة " معالم في الطريق " . وأخذنا نعيد الدراسة والبحث من جديد في صورة نشرات قصيرة توزع على الشباب ليدرسوها ، ثم تدرس بتوسع في حلقات ، وكانت الأفكار متفقة والغايات غير مختلفة ، فانسجمت خطة الدراسة مع الوصايا والصفحات التي كانت تأتينا من الشهيد سيد قطب رحمه الله ، وهو داخل السجن ، وكانت ليالي طيبة وأياماً خالدة ولحظات قدس مع الله ، يجتمع عشرة أو خمسة من الشباب ويقرأون عشرة آيات تراجع أحكامها وأوامر السلوك فيها وكل غاياتها ومقاصدها في حياة العبد المسلم . وبعد تفهمها واستيعابها يتقرر الانتقال إلى عشر آيات أخرى اقتداء بأصحاب النبي . ومرت أيام حلوة طيبة ، ونعمة من الله تحتوينا ، ونحن ندرس وندرس ونربي أنفسنا ونهيئ للدعوة رجالها بشباب اقتنع بضرورة الإعداد لقيام دعوة الحق العادل .. وقرر وجوب حتمية إعداد أجيال في شخوص هذا الشباب الذي نرجوه أساتذة في التوجيه والإعداد للأجيال المقبلة. قررنا فيما قررنا بتعليمات من سيد قطب وبإذن الهضيبي أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد والغرس لعقيدة التوحيد في النفوس ، والقناعة بأنه لا إسلام إلا بعودة الشريعة الإسلامية ، وبالحكم بكتاب الله وسنة رسوله لتصبح شريعة القرآن مهيمنة على كل حياة المسلمين ، قررنا أن يستغرق برنامجنا التربوي ثلاثة عشر عاماً ، عمر الدعوة في مكة ، على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم الإخوان الملتزمون بشريعة الله وأحكامه ، فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية ... على أن إقامة الحدود مؤجلة مع اعتقادها والذود عنها حتى تقوم الدولة .. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوافر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاماً كاملاً .. كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافة الراشدة ، ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة التي تريد حكم الله والتمكين لدينه في الأرض ، حتى يعود جميع المسلمين للإسلام ، فيقوم الدين القيم ، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة . ودرسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله بحثاً عن أمثلة لما كان قائماً من قبل بخلافة الراشدين والتي نريدها نحن الآن ، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم ، أن ليس هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك ، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة ، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله ! .. وكان فيما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة ، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات ، نقوم بمسح شامل في الدولة فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين بأن الإسلام دين ودولة ، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75% من أفراد الأمة رجالاً ونساءً ، نادينا بقيام الدولة الإسلامية ، وطالبنا الدولة بقيام حكم إسلامي ، فإذا وجدنا الحصاد 25% جددنا التربية والدراسة ثلاثة عشر عاماً أخرى وهلم جرا ، حتى نجد أن الأمة قد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام . وما علينا أن تنتهي أجيال وتأتي أجيال ، المهم أن الإعداد مستمر ، المهم أن نظل نعمل حتى تنتهي آجالنا ثم نسلم الراية مرفوعة ب " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " إلى الأبناء الكرام الذين يأتون من بعدنا .] ثم شرحت أبعاد المؤامرة التي حيكت ضد الإسلام فقالت: [وقد تأكدت لدينا الأخبار بأن المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات لعبد الناصر بأخذ الأمر بمنتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية ، وإلا فسينتهي كل ما حققه عبد الناصر في المنطقة من تحويل عن الفكر الإسلامي وبث اليأس في النفوس من إمكان أي إصلاح أو بعث عن طريق الإسلام ... وخلاصة المخاوف : أن هذه الحركة الإسلامية ستقضي على كل فكر مغاير للإسلام . هذا ما وصلنا إجمالاً عما تحويه تقارير المخابرات الأمريكية والروسية لعبد الناصر ، ومن ناحية أخرى فإن عبد الناصر اعتبر أن البعث الإسلامي بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم . وفي أوائل أغسطس 1965وصلتني أخبار عن إعداد قائمة من المطلوب اعتقالهم من رعيل رسالة التربية الجديدة والفكر الذي أقام من الشباب جواهر نورانية تتحرك بالإسلام . كما كان يتحرك به رجال من الصدر الأول في فجر الرسالة إلى دار ابن أبي الأرقم ، ويتصدر القائمة الأستاذ الشهيد سيد قطب ، زينت الغزالي الجبيلي ، عبد الفتاح عبده اسماعيل ، محمد يوسف هواش . وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات والمئات ، وارتفع الرقم إلى الآلاف ، وقد أقسم لي شمس بدران بعد اعتقالي برأس عبد الناصر أنهم اعتقلوا مائة ألف من الأخوان في عشرين يوما ، ملأوا بهم السجن الحربي وسجن القلعة وسجن أبي زعبل وسجن الفيوم والاسكندرية وطنطا وسجونا أخرى . في يوم الخميس 19 أغسطس ، علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد من شبرا قد قبضوا عليها ، وهي من المعاصرات للدعوة من يومها الأول ، وسارت في الطريق مع الإمام الشهيد حسن البنا خطوة خطوة ، وكان لها جهد كبير مبارك في مساعدة الأسر التي فقدت العائل بالسجن والمعتقلات الناصرية ... وكانت على اتصال دائم بنا .. كان خبر اعتقالها مفزعاً ومؤثراً بالنسبة لي ، ولكني قلت لابن أختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : " إنه شيء جميل .. ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله ، وفي سبيل دولة القرآن ، وهي في الخامسة والثمانين ، فمرحى مرحى يا جنود الله " ! ]. ثم استطردت الحاجة زينب الغزالي في وصف كيفية اعتقالها: [وفي فجر الجمعة 20 أغسطس اقتحم رجال الطاغوت منزلي ، ولما طلبت منهم إذناً بالتفتيش ، قالوا : إذن ! أي إذن يا مجانين ؟ نحن في عهد عبد الناصر ، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب ..! وأخذوا يقهقهون في صورة هستيرية وهم يقولون : الإخوان المسلمون مجانين ، قال إيه ، يريدون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر ! ودخلوا البيت وأتلفوا ما فيه بالتمزيق تارة وبالتكسير تارة أخرى حتى لم يتركوا شيئاً سليماً . وكنت أنظر إليهم باحتقار وهم يمزقون فراش المنزل . وأخيراً قبضوا على ابن أخي الطالب في كلية المعلمين محمد محمد العزالي (و هو الآن خبير في الرياضيات) ، وكان يقيم معي كابني وقالوا لي : لا تغادري البيت . قلت : أفهم من ذلك أن إقامتي محددة . قالوا : إلى حين صدور أوامر أخرى ، واعلمي أن البيت تحت الحراسة فإذا تحركت فسيقبض عليك . وبينما كنا نتناول الغذاء اقتحم المنزل زبانية الطاغوت وأتوا على البقية الباقية واستولوا على ما في الخزانة . واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبي ، ولم تفلح محاولاتي في إنقاذ بعض المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام ، كما لم تفلح محاولاتي في الاحتفاظ بمجموعات ثلاث من مجلة السيدات المسلمات التي أوقفت بأمر عسكري سنة 1958 ، فقد صادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة. فقد كانت الخزانة لزوجي إلا إن بها أشياء تخصني أيضاً . فلما طلبوا المفتاح قلت لهم : إنه مع زوجي وهو مسافر في مصيفه ، فإذا بهم يهتفون برجل منهم يأمرونه بفتح الخزانة ، وتقدم هذا الرجل وفتح الخزانة بآلات ومفاتيح كانت معه ، كأي لص متمرس !! ولما طلبت منهم إيصالا بما أخذوه قالوا في سخرية : " أنت مجنونة . إنت فاكرة نفسك شاطرة ، إخرسي بلاش دوشة " وقبضوا على وأدخلوني عربة وجدت فيها ابن أخي الذي قبضوا عليه في الفجر ، وشابا من شباب الدعوة ، سألت ابن أخي : إيه يا محمد ؟ فلم يجبني ففهمت أن التعليمات إليه أن لا يتكلم ، وكانوا قد أتوا به ليرشدهم إلى المنزل لأن هؤلاء كانوا غير زوار الفجر ... وأخذت العربة تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي ، عرفت ذلك من اللوحة الموجودة على بوابته ، واقتحمت السيارة البوابة المرعبة ، وبعدما ابتعلت البوابة السيارة ومن فيها . أنزلت منها واتجه بي وغد غليظ إلى حجرة استجوبني فيها وغد آخر , وأدخلت منها إلى حجرة أخرى . ووقفت أمام رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ ، فسأل الذي يمسك ذراعي عني فأجابني بسباب غلف فيه اسمي ، ومع ذلك التفت هو إلى في غلظة وسألني من أنت ! قلت : " زينب الغزالي الجبيلي " . فانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور , وصرخ الذي يمسك بذراعي قائلاً : " دا رئيس النيابة يا بنت ال .. ردي على سعادته " , وكان الآخر قد صمت . قلت : لقد اعتقلوني أنا وكتبي وكل ما في الخزانة ، فأرجو حصر هذه الأشياء وتسجيلها فمن حقي أن تعاد إلى . أجاب رئيس النيابة المزعوم الذي وضح فيما بعد أنه شمس بدران (وزير حربية مصر بعد ذلك) ، أجاب في فجور وجاهلية متغطرسة :"يا بنت ال .. نحن سنقتلك بعد ساعة ، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت ستعدمين بعد قليل ، كتب إيه وحاجات إيه اللي بتسألي عليها يا بنت ال ... ، نحن سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي " لم أستطع أن أجيب ، لأن الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة ، والسباب والشتائم منحطة إلى الحد الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن يسمعها فضلا عن أن يجيب عنها . وقال هذا المتغطرس للذي يمسك ذراعي : خذها . قال : إلي أين ؟ أجاب : هم عارفون . وجذبني الفاجر في وحشية وهو يقول : يا بنت ال... وعند الباب نادي صاحب الجثة الغليظة المظلمة على الشيطان الممسك بذراعي فالتفت إليه ، فكأني أري ظلمة من دخان غليظ أسود تغرقه ، قلت في سري : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تضرعت إلى الله قائلة : اللهم أنزل على سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق ، واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك . وقال الممسك بذراعي للشيطان : نعم يا معالي الباشا . قال له : تروح رقم 24 وبعد ذلك تأتوني ]. ثم تتابع الحديث فتقول: [خرج بي الشيطان وهو ممسك بذراعي ، وسار معنا اثنان من الشياطين سود الوجوه ممسكان بالكرابيج ، ساروا بي في أنحاء متعددة من السحن الحربي .. ورأيت الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، وبعضهم سلطت عليه الكلاب الضالة لتمزق جسده بعد السياط ، وبعضهم يقف ووجهه إلى الحائط في انتظار دوره من التعذيب والتنكيل . كنت أعرف عدداً كبيراً من هؤلاء الشباب المؤمنين الاتقياء الأنقياء ، أبنائي وأحبائي في الله ، أصحاب مجالس التفسير والحديث والحياة الندية الذكية في داري ، في دارهم في دار ابن أبي الأرقم ، في هدأة السحر ، في أنوار الفجر . عرفت منهم الكثير ، رأيت العجب ، هذه الأنماط البشرية الفريدة في إنسانيتها ، المترفعة بإسلامها ، الموصولة بالسماء المرموقة بعين القدرة المنزهة المتمتعة بحضرة الله سبحانه وتعالى ، شباب الإسلام ، شيوخ الإسلام ، هذا مصلوب على خشبة ، هذا منكفئ على وجهه للحائط ، والسياط تنزل عليه تأكل من ظهره ، هذا ينزف من جبينه الذي لم ينحن إلا لله والنور يغمر وجهه المنساب من رأسه المرتفع المعتز بالله ، وذاك ظهره للحائط ، كل الوجوه يجرى فيها نور التوحيد .. ولكن نزيف الدم من الوجوه والظهور شيء مخيف . وصرخ شاب مصلوب على خشبة : أماه ! ثبتك الله ! قلت : والنور قد غطي المكان فلمع لون الدم فيه : أبنائي ، إنها بيعة ، صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة . ورفع الشيطان يده وهو يهوي بها على صدغي وأذني ، فأخذت عيني تدور وأذني كذلك كأن ماساً كهربيا قد مسها ، وانكشف النور عن أجسام ممزقة وأشلاء متناثرة تملأ المكان ، فقلت : في سبيل الله ، وسمعت صوتاً كأنه يأتي من الجنة : اللهم ثبت الأقدام ، اللهم احفظهم من الفجرة . لولاك ربي ما اهتدينا ، ولا تصدقنا ولا صلينا .. فثبت الأقدام إن لاقينا . وارتفعت أصوات السياط وتزاحمت ، ولكن صوت الإيمان أقوى وأوضح وكانت برهة ، وخرج صوت آخر كأنه مقبل من السماء يقول : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له )) وقلت ثانية : " صبرا يا أبنائي إنها بيعة ، صبرا إن موعدكم الجنة " وأخذت يد الفاجر ظهري بضربة موجعة أليمة ساخنة ، فقلت : " الله أكبر ولله الحمد ، اللهم صبراً ورضاً ، اللهم شكراً وحمداً على ما أنعمت به علينا من الإسلام والإيمان والجهاد في سبيلك " . وفتح باب لحجرة مظلمة فدخلتها ثم أغلقوا بابها] . ثم تصف ما في الحجرة 24 فتقول: [ابتلعتني الحجرة فقلت : باسم الله السلام عليكم . وأغلق الباب وأضيئت الكهرباء قوية ! إنها للتعذيب ! الحجرة مليئة بالكلاب ! لا أدري كم !! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع ، وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل والأقفال وتعلقت الكلاب بكل جسمي ، رأسي ويدي ، صدري وظهري ، كل موضع في جسمي ، أحسست أن أنياب الكلاب تغوص فيه. فتحت عيني من شدة الفزع وبسرعة أغمضتها لهول ما أرى ووضعت يدي تحت إبطي وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة ب " يا الله ، يا الله " وأخذت أنتقل من اسم إلى اسم ، فالكلاب تتسلق جسدي كله ، أحس أنيابها في فروة رأسي ، في كتفي ، في ظهري ، أحسها في صدري ، في كل جسدي ، أخذت أنادي ربي هاتفة : " اللهم اشغلني بك عمن سواك ، اشغلني بك أنت يا إلهي يا أحد يا فرد يا صمد ، خذني من عالم الصورة ، اشغلني عن هذه الأغيار كلها ، اشغلني بك ، أوقفني في حضرتك ، اصبغني بسكينتك ، ألبسني أردية محبتك ، ارزقني الشهادة فيك والحب فيك والرضا بك والمودة لك وثبت الأقدام يا الله ، أقدام الموحدين " . كل هذا كنت أقوله بسري ، فالكلاب ناشبة أنيابها في جسدي . مرات ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة . كنت أتصور أن ثيابي البيضاء مغموسة في الدماء ، كذلك كنت أحس وأتصور أن الكلاب قد فعلت . لكن يا لدهشتي الثياب كأن لم يكن بها شئ ، كأن ناباً واحداً لم ينشب في جسدي . سبحانك يا رب ، إنه معي ، يا الله هل استحق فضلك وكرمك ، يا الله يا إلهي لك الحمد . كل هذا أقوله أيضاً في سري ، فالشيطان ممسك بذراعي يسألني : كيف لم تمزقك الكلاب ؟ والسوط في يده وخلفي شيطان ثان بيده سوط أيضاً، كان الشفق الأحمر يكسو السماء ينبئ بأن الشمس قد غربت ، وأننا أوشكنا على العشاء إذن فقد تركت مع الكلاب أكثر من ثلاث ساعات . لك الحمد يا إلهي على كل حال . اخترقوا بي طريقاً توهمته طويلاً ، فتح باب ، ابتلعتني الساحة المخيفة خلفه . ثم ابتلعني ممر طويل مخيف على جانبيه أبواب مغلقة . أحد الأبواب منفرج بعض الشيء يطل منه وجه منير ، خرج منه بعض النور فبدد بعض ظلام الممر عرفت فيما بعد أنه باب الزنزانة رقم 2 التي تسبق زنزانتي رقم 3 ويسكنها الضابط الكبير محمد رشاد مهنا الذي كان يوماً وصياً على عرش مصر (بعد تنازل الملك فاروق عن عرش مصر) الذي توهم الفجرة أن الأخوان سينصبونه رئيساً للجمهورية فاعتقلوه . وفتح باب الزنزانة رقم 3 ... فابتلعتني] . ثم تردف قائلة: [أمضيت على هذه الحال ستة أيام على التوالي من مساء الجمعة 20 أغسطس إلى الخميس 26 أغسطس لا يفتح باب الزنزانة فلا أكل ولا شرب و لا دورة مياه و لا صلة بالخارج، غير تلصص هذا شيطان الذي يضع عيناه على فتحة باب الزنزانة الصغيرة بين الحين والحين . و لك أن تتصور أيها القارئ العزيز كيف تستطيع أن تعيش هكذا ، وإذا استطعت أن تعيش بلا طعام ولا ماء فكيف يستغني الإنسان عن قضاء حاجته الضرورية ؟ كيف يعيش الإنسان بغير أن يذهب إلى دورة المياه ولو مرة واحدة في اليوم ؟ ولا تنس أننا كنا في شهر أغسطس ! فهل تجيز اليهودية أو الوثنية ذلك ! فما بالك بالذين يدعون أنهم مسلمون .. وهل يفعل ذلك أي كائن ينتمي للجنس البشري ؟! يالله ! لكم جنى الطغاة المستبدون على كرامة الإنسان ، وتحللوا من كل دين وخلق ، ولكن اليقين بالله واعتقاد الحق ، وأن يرى الإنسان ويعايش أمره كل ذلك قد يصنع شيئاَ كبيراً فوق طاقة البشر . فلا تدهش أيها القارئ : لأنني استطعت أن أعيش هذه الأيام بغير ماء ، أو طعام ، أو قضاء ضرورة ، أو صلة بإنسان . اللهم إلا هذه الطرقات من الشيطان الأسود الذي ربما فتح الباب يسأل في غلطة ووحشية : يا بنت ال .. انت لسه عايشة ؟! . نعم أيها القارئ لقد عشت هذه الأيام بأمرين . . الأول : هو فضل الله علينا بالإيمان به . إنه الإسلام الذي يمنح صاحبه قوة يغالب بها الصعاب والمشقات أيا كانت هذه الصعاب . إنه فضل الله . فالإيمان يعطي قوة وطاقة احتمال هائلة ، تعلو قوة الطواغيت الفجرة الذين ظنوا أنهم فعلاً يحكمون . والحق أن المؤمن يعيش متصلاً بالله سبحانه . مستغنياً عن الصورة والأغيار . والأمر الثاني : هو تلك الرؤيا المباركة التي كانت بمثابة تخفيف وزاد ودفعة حياة من الله تعالى ، عشت بها مشغولة به عن الأغيار المحيطة بي ، وجعلتني أحتمل في رضا وسكينة جحيم هؤلاء الطواغيت ... وفي صبيحة اليوم السابع فتح باب الزنزانة ودخل الشيطان الأسود وبيده ربع رغيف ملوث بقذارة من فضلات الإنسان وقطعة من الجبن الأصفر كذلك . ورمي بهما إلى الأرض وقال يا بنت ال ... ده أكلك ما دمت عايشة . لم أمس الخبز ولا الجبن وأخذت الماء وأغمضت عيني لشدة قذارة إنائه وسددت أنفي ، ورفعت الماء إلى فمي وأنا أقول : " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " . " اللهم أجعله غذاء ورياً ، وجهاداً وعلماً ، ومعرفة وصبراً ورضا "] ثم تستكمل سرد المأساة فتقول: [وبعد دقائق فتحت الزنزانة وأخذوني إلى حوش مرعب مظلم مخيف وتركوني ساعتين تقريباً . وجهي للحائط بعد أن أمروني بعدم التحرك . وقالوا لي وهم يغلقون على باب الحوش : أجلك انتهي النهاردة ! يا بنت ال ... أخذت أفكر فعلا فيما يقولون وأطلب من الله السكينة والأمن وأن ألقاه على الإسلام ، وأخذت أتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة وأنا أحس وكأني اقرؤها للمرة الأولى . شغلت بالتلاوة حتى أيقظني من استغراقي صفعة من يد غليظة قاسية وأضيئت الكهرباء ، وأخذ هذا الوحش يضربني بقسوة بالسوط على جسدي حيثما وقع ، ثم أعطاني ثلاث ورقات بيضاء وقال : والظلمة تتساقط من وجهه كأنما في عينيه شيطان : اكتبي هذه الأوراق ! ودخل ثلاثة رجال يأمرونه أن يعيد ضربي ويعلقون : " حتى لا تنسى أن تكتبي ما نريد يا بنت ال ... " ثم أمروه بعد فترة بإيقاف الضرب وأمسك بي أحدهم في غلظة ورمي بي إلى الحائط . عرفت فيما بعد أنه حمزة البسيوني . وتلقفني آخر ، ويدعى سعد خليل فأخذ يهزني هزاً عنيفاً حتى أسقطني على الأرض وأمر العسكري أن يركلني بقدمه . ثم جاءواً بمقعد أجلسوني عليه وأعطوني الأوراق وأنا لا أستطيع أن أمسكها لشدة ما بي ، وقاومت وأمسكتها والألم يعتصرني ، وصاح بي أحد هؤلاء الأقزام : اكتبي أسماء كل من تعرفين في السعودية . في السودان . في لبنان . في الأردن . في أي مكان في العالم . اكتبي كل معارفك على وجه الأرض ، إذا لم تكتبي فسنضربك بالرصاص في هذا المكان الذي تقفين فيه ]. ثم تصف دوامة التعذيب و المساومة فتقول: [فذات مساء فتحت الزنزانة وفاجأني الشيطان صفوت بالسوط يضرب به كل شيء ويضرب به الحائط . ثم أخذني بوحشية من ذراعي وأخرجني من الزنزانة إلى حوش السجن ، فإلي مكتب يواجه السجن رقم (2) وأجلسني على مقعد تجاه مكتب وتركني وخرج ، وما لبث أن جاء شيطان آخر سألني عما إذا كنت زينب الغزالي ولما أجبت بالإيجاب خرج كما دخل وبعد فترة دخل ثلاثة جنود كأنهم خارجون لتوهم من جهنم . طول أجسامهم مرعب وعرض أجسامهم كذلك , وجوهم تعكس غلظة قلوبهم . وبعدهم بقليل دخل رجل فسألهم عما إذا كانوا قد عرفوني ورأوني ، وأجابوا بنفس واحد بالإيجاب ، وقالوا بأن موعد موتي قد حل . ثم خرجوا ليعودوا بالأخ فاروق المنشاوي فيجلدوه بعد أن قيدوه وصلبوه على عود من الخشب . وبين الجلدة والجلدة كانوا يسألونه عن عدد المرات التي زاني فيها . ويطلبون منه أن يسبني فيرفض فيزيدونه جلداً ، وأنا أتمزق مما أرى وأسمع حتى طرحوه أرضاً واعتقدت أنه يحتضر . ولكن إرادة الله شاءت له أن يعيش ويحاكم ليحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة . يدعو في السجن للإسلام وللحق الذي آمن به حتى امتدت إليه يد آثمة بعد ذلك بشهور وبتعليمات من عبد الناصر لتقتله في سجن ليمان طره فيفوز بالشهادة ]. ثم تصف الحاجة زينب الغزالي من دخل زنزانتها من الوجوه الغالية فتقول: [في عصر اليوم التالي سمعت أصواتاً أعرفها وأحبها ، قمت بصعوبة إلى الباب ونظرت من الفتحة الضيقة ، فرأيت الشيطان حمزة البسيوني وتابع له يسمى صفوان يسدان على الفتحة ، إلا أني سمعت أصواتاً أعرفها ، وما لبث الشيطان وتابعه أن تحركا فرأيت بعض الوجوه الغالية : عليه حسن الهضيبي ، وغادة عمار . وجلست حتى لا يراني أحد من الطغاة وأنا أنظر من فتحة الباب ، غير أن الألم أخذ بي فغطي كل مشاعري وأحاسيسي ، وأخذت أدعو الله سبحانه وتعالى وأسأله أن يدفع عن بناتي واخواني شرور الطغاة . كنت مستغرقة في آلامي أفكر : عليه حامل في شهورها الأخيرة ؟ كيف اعتقلها الطغاة ؟ وغادة ؟ ماذا فعلوا برضيعتها الصغيرة ؟ كيف تركتها ؟ إنها لقسوة وفجور ووحشية !! يا للبشر من حكامهم عندما يرتدون أردية الجاهلية ، فتغطي كل مشاعرهم وتضيع ضمائرهم فيصبحون جلادين لرعاياهم ! ويلك يا عبد الناصر ! أيها الطاغوت كم خدعت قومك !! وينفتح الباب ويرمي الشيطان الأسود ببطانية ووسادة ، وكان قد مر على ثمانية عشر يوماً وأنا أفترش الأسفلت ، ويعود بعد لحظات ببطانيتين ووسادتين يرمي بهما على الأرض وأنا في دهشة مما يحدث . ولم تلبث دهشتي أن زالت حين فتح الباب ثالثة ليدخل صفوت وحمزة البسيوني مصطحبين عليه الهضيبي وغادة عمار يدخلانهما ويخرجان ويغلق باب الزنزانة . وتقبل على علية تأخذني بين ذراعيها تقبلني وأنا منصرفة عن نفسي وعن الدنيا وتتساءل في ألم : أنت الحاجة ؟ والتفت إلى غادة فأرى عينيها ممتلئتين بالدموع تغرقان وجهها . وأسأل عليه في ألم .. تعرفيني ؟ فتجيب : لا لا لا . يا حاجة لقد تغيرت كثيرا ، نقص وزنك إلى حد مخيف ، وأصبح وجهك كأنه وجه شقيقك سعد الدين . قلت : هذا أمر طبيعي ، أنت لا تعرفين الهول الذي أعيش فيه . وفوق ذلك فأنا لا أتناول الطعام إلا ملعقة من السلاطة في اليوم والليلة يرمي بها أحد الجنود وهو مرعوب يخشى أن يضبط متلبسا بجريمته . وتحاول أن ترتب المكان بما أصبح فيه من بطاطين ووسادات . . وتجلس وتسألني عن مصحف ، مسكينة عليه لقد حسبت أننا نتعامل مع " آدميين " أو نسيت علية أننا هنا مع أعداء المصحف ؟ أأنتظر منهم أن يسمحوا لي به ؟ وتعرض على غادة مصحفاً صغيراً كان معها وكذلك تفعل علية . ونجلس ولما مددت رجلي المكسورة التماسا للراحة ظهرت آثار التعذيب وضرب السياط ، وتسألني علية عما ترى فأتلو عليها الآية الكريمة (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )] (انتهى بتصرف) . لقد تعمدت أن أنقل بالنص كلمات المعذبة الصابرة ، المجتهدة والصادعة بالحق ، و التي ضُربت بآلاف الأسواط ، ومع ذلك لم يثنها ذلك أبداً وظلت وفيةً لدينها لم تترخص قط في محارم الله حتى غابت عن دنيانا عن عمر يناهز 93 عاماً رحمها الله تعالى – و ذلك في عام 2005 م بالإضافة إلى أن حرائر مصر ، بعضهن نالهم من التغريب نصيب لا يوصف وقد اعتقل في تلك الأيام النحسات أكثر من 200 أختاً ، لم يرحموا الأخت (أمينة علي) زوجة محمود الجوهري ، والتي تزوجت عام 1953 وعاشت محنة 1954 ، ثم محنة 1965 ، وكانت مريضة بالسكر وتنتابها حالات الأغماء أثناء التحقيق والطبيب يطالب بالإفراج عنها لأنها – على حد قوله – تنتظر الموت ولكن شاء الله أن تعيش حتى عام 1980 ، كما لم يرحموا أم أحمد ، وهي سيدة من منطقة (شبرا) عمرها 85 سنة ومن المعاصرات لنشأة الدعوة في بواكيرها الأولى ، ولم يرحموا ( عروسة ) في ملابس زفافها زوجة الطيار المحترم (ضياء الطوبجي) مع شقيقته ( منى الطوبجي ) ، ولم .... ولم ... ولم ..... أمثلة تترى للنيل من شقائق الرجال في صورة همجية لم تدر عنها جمعيات حقوق الإنسان ولا المحاكم الدولية ، وبالتالي فأنا أدعو هذه الجمعيات وهذه المحاكم بالنظر إلى هذه القضايا – لأنها لا تسقط بالتقادم . من جهة أخرى كيف يتأتى نصر على عدو .. ووزير الداخلية ووزير الحربية ومدير عام المباحث ومدير عام المخابرات ومدير عام الشرطة العسكرية وأعوانهم ومن قبل ذلك القائد العام للقوات المسلحة والنائب الأول لرئيس الجمهورية ثم رئيس الجمهورية ، الكل متفرع لملاحقة نفر من الناس . . وحصارهم وسجنهم والتخلص منهم ، هب أن هؤلاء فيهم ما قال مالك في الخمر – حاشا لله – هل يكون التعامل معهم في دولة مدنية حديثة مثل هذا التعامل . . ثم يأتي سدنة ذلك العهد ليبرروا ويقدموا ويؤخروا . . رضاً منهم بما كان ؟ وتبريراً لسيدهم بما كان !!! ثم يطالبننا ألا نذكر هذه الحكايات.. فهي ماض في نظرهم لا يفيد و لننظر إلى المستقبل، و هم للأسف نسو القرآن الكريم و هو يحدثنا عن قصص الغابرين في الماضي و بالتفصيل لنأخذ العبرة اليوم و غداً (و لله المثل الأعلى). يا قوم : ليس هذا هو الطريق . . تذكروا أن هناك (يوم الدين) . . . يوم الحساب لقد آن الآوان أن يقوم (زكريا محي الدين) – وهو حي يرزق – وكان مسئولاً عما جرى . . يقوم بتقديم الاعتذار للشعب المصري – ويتبرأ من هذه الأفعال . . قبل أن تحين الآجال ويكون الحساب ويخسر آخرته كما خسر من قبل – تاريخه – حيث صار تاريخاً للبغي والظلم والعدوان ، وكان مثالاً لمعاني الشر والفساد ، وقدوة لكل قاتل ظالم شرير ، ولنتجاوز خسارة ذلك الحاقد الظالم ، وننظر في دلالة أعم وأشمل للخسارة التي تتجاوز الزمان والمكان ، لتنطبق على كل زمان ومكان ، فكل من سفك دم أخيه في النسب أو في الإسلام أو في الإنسانية ظلماً فهو خاسر ، وكأنه قتل الناس جميعاً ، و صدق من قال { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } . وحسبنا الله ونعم الوكيل [email protected]