برامج التوك الشو علي الفضائيات الخاصة التي يملكها رجال أعمال مصريون تبدو وكأنها (مرآة الصراع) في المجتمع المصري حاليا.. وفي الأيام الأخيرة تلك - خاصة منذ سفر الرئيس للعلاج ثم عودته وما تلاها - فإن نظرة تأمل في زوايا تلك المرآة قد تمكننا من رؤية تفاصيل أكثر للصراع الدائر في مصر اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.. في حلقة من حلقات أحد تلك البرامج علي قناة المحور استضاف المذيعان مالك القناة د. حسن راتب وهو رجل أعمال لا يمل من تكرار التصريح بأنه منتمٍِ لهذا النظام ومستفيد منه وإحدي أذرعه التي تدير مصر كشركة.. وفي نفس الحلقة تحدث هاتفيا رجل أعمال آخر هو المهندس أحمد بهجت.. وهو الآخر يملك فضائية دريم.. وبالطبع كان حديثهما الاثنين معبرا أوضح تعبير عن علاقة رجال الأعمال الكبار بنظام الرئيس مبارك.. وهو حديث ينضح (بحالة امتنان) متهالكة لنظام أعطي رجال الأعمال كل شيء.. علي حساب المواطن المصري الذي يئن بسبب تلك الزيجة غير الشرعية بين الحكم والمال.. الحرية الزائفة علي مدي السنوات القليلة السابقة شكلت الفضائيات الخاصة ظاهرة في مصر.. بدت لأول وهلة مبهرة، كان هناك سقف لم نشعر في البداية أنه (مدروس)، قدمت لنا تحته بضع عمليات (نقد) للأوضاع العامة في المجتمع المصري، أعجبنا الأمر في بدايته وتصورنا أنه حالة (حرية تعبير) متاحة، ومقدمو تلك البرامج (مثلوا) علينا أنهم خائفون من الأمن وكأنهم (مناضلون)!، وظللنا نتعاطف معهم لفترة طويلة (وإن كان بتردد وشك مستحق) حول تخوفهم المزعوم كل ليلة من (إغلاق البرنامج غداً)! لم تغلق تلك البرامج بالطبع فهي تؤدي دورا مرسوما! لكن لم يكن هناك امتحان حقيقي يظهر كم هي لعبة مخادعة أصلا وحريتها زائفة وخيوطها مشدودة علي وتر (تنسيق بوليسي) بين الأمن وتلك الفضائيات، لا بأس من (شوية نقد) لوزير هنا أو هناك.. لمسئول هنا أو هناك.. لا بأس حتي من نقد رئيس الوزراء وحكومته علي طريقة (إدانته لأنه أخفق في تنفيذ سياسة الرئيس) الأب الكبير الإنسان رب العائلة الزعيم القائد السيد الرئيس! لا بأس حتي من كلمتين يقولهم أحد الضيوف عن ضرورة التغيير.. باعتبار التغيير مطلوباً حتي عتبة الرئيس الذي لا يخطئ أبدا، وإنما يخطئ موظفوه! ولا بأس من شوية كلام عن توريث الجمهورية! فهو كلام يمكن استخدامه لتكريسه أصلا أو لتمريره أو لإطلاق بالونات اختبار.. كل شيء مدروس! قدمت لنا وجبة (حرية التنفيس) وأطلق عليها تزويرا لقب (حرية التعبير)! وعلي المدي الطويل تصبح حرية التنفيس تلك (صماما منظما للغضب) فيهدأ الناس وتطول فترة تحملهم.. واستمرت تلك اللعبة إلي أن جاء امتحانان حقيقيان.. من وجهة نظري سقطت فيهما كل تلك القنوات بحرياتها الزائفة.. الامتحانان الامتحان الأول: عندما فرض البرادعي نفسه في الصورة.. ووجد مالكو تلك القنوات أنفسهم في مأزق.. فهم ممتنون بتهالك مخجل لنظام استجاب لجشعهم وباع لهم مصر أرضا وشعبا وثروة.. والبرادعي يهم الناس (بمشروعه وليس بشخصه) ويهدد النظام الذي يحميهم في قلبه ووجوده.. وفي ذات الوقت لابد من استمرار تصديق الناس لهم وتصديق أنهم بالفعل يخدمونهم ويرصدون مصالحهم.. وتغييب مشروع البرادعي وتجاهله سيقلل من مصداقيتهم عند الناس فتفشل تدريجيا تلك اللعبة المدروسة وبالتالي يفقدون التحكم في صمام تنظيم الغضب، فكان أن تعاملت تلك الفضائيات جميعها مع الدكتور محمد البرادعي بأسلوب مباحثي أقل ما يقال عنه إنه (مقرف)! وحدث ما يشبه (التواطؤ) بين تلك البرامج المشهورة وأمن النظام البوليسي وصحافته (الرداحة) والمعارضة المتهالكة الفاشلة.. جميعهم توتروا بسبب هذا (الطارئ) الذي لم يحسب حسابه في لعبتهم المدروسة! الآن.. ما يحدث هو أنه إما يتم تجاهل تطور حركة البرادعي أو تعلن باقتضاب يقلل من أهميتها أو تستخدم طريقة (الردح) المباشر.. كما يحدث في أسوأ برنامج توك شو من قِبل أسوأ مذيعين عرفتهما مصر في برنامج (48 ساعة) علي قناة المحور! وبالطبع الباقون مثلهما بدرجات متفاوتة! الامتحان الثاني كان محنة الرئيس الصحية! وكأن رجال الأعمال هؤلاء اكتشفوا فجأة أن الرئيس مثله مثل بقية البشر الذين يولدون ويموتون! ظهر (الخوف) علي شاشات فضائياتهم! فمصيرهم مرهون بنظام لو تهاوي.. تهاووا معه! كان أدق تعبير عنه كلمة أحد رجال الأعمال أثناء غياب الرئيس للعلاج حين قال بصوت إذا تأملته تجده مرتعشا:«كلنا منتظرون»! وبعد عودة الرئيس بدأت (وصلات النفاق) التي تشبه (وصلات الندابات)! لا حديث عن مصر بدون مبارك! حسنا.. ماذا لو ألقيت إليكم بتلك (القنبلة المفاجئة): سيأتي يوم وتصبح مصر بدون مبارك! مفاجأة أليس كذلك؟! هذان الحدثان أظهرا في مرآة تلك الفضائيات الخاصة أطراف الصراع في مصر: نظاماً بوليسياً فرط في مصر أرضا وبشرا.. يساند - ويسانده بالطبع- رجال أعمال استفادوا من هذا التفريط فراكموا ثروات، معظمها غير شرعي وغير أخلاقي ومن دم المصريين.. ثم معارضة رضيت بفتات ثمنا لقضايا وطن ومجتمع.. تواطأت مع النظام ورجال الأعمال وشاركت في عملية (التنفيس) علي فضائياتهم.. لضمان استمرار التحكم في صمام تنظيم الغضب.. إن وجد.. ثم شعباً فاتت فرصة انفجاره عندما كبت.. فالكبت يولد الانفجار لكنه كبت ولم ينفجر عندما لم يجد قيادة فسحق.. والمسحوقون لا فعل لهم.. ثم فئة واعية من نخبة كانت تفهم ما يجري ولا ترضي به لمصر، لكنها لم تكن تملك أي أداة.. إلي أن تعلقت بالبرادعي.. فبدأت تحاول الوصول إلي عموم الناس.. لكن بالطبع وفي ظل هذا الصراع وتفاوت المصالح لن تتاح فضائيات رجال الأعمال لهم.. وعموم الناس في مصر ليسوا علي صلة بالفيس بوك.. فما العمل؟! فضائية تنوير لا مناص من إطلاق فضائية شعبية تكون بعيدة عن أنف كليهما.. النظام ورجال الأعمال.. لتنشر بين عموم الناس دعوة (التغيير الحقيقي).. ولأن القناة الفضائية تحتاج إلي تمويل.. فلابد أن تنظر الجمعية الوطنية في أمر (حملة اكتتاب شعبي) لتأسيس تلك الفضائية.. لنسمها مؤقتا (فضائية تنوير).. فالاكتتاب الشعبي سيعني أنها ليست مملوكة لأحد وإنما مملوكة للناس.. بالطبع تفاصيل مثل هذا المشروع الشعبي يمكن مناقشتها.. لكنه في رأيي ضروري، فمصر تحتاج إلي غضب شعبها كي تتغير، وغضب الشعب لابد من تجميعه بوسيلة اتصال مناسبة للحظة الحالية.. وتلك الوسيلة كي تكون واسعة الانتشار لابد أن تكون فضائية وليس مواقع علي الإنترنت.. فالتليفزيون قدرته رائعة في جذب الجميع.. الفلاح والعامل والمرأة والشباب والمثقف والجندي.. بل وحتي الشرطي! فالجميع يعاني.. والجميع يبحث عن خلاص من فخ زواج المال والحكم.. الذي دمر مصر وحول حياة المصريين إلي جحيم.. أبريل جمال حمدان في مثل هذا الشهر عام 93 رحل عالم مصري أدين له بتفتيح عيني علي بلدي وحقيقته.. رحل جمال حمدان عالم الجغرافيا الذي كتب الجغرافيا بلغة أدبية رفيعة في موسوعته الشهيرة عن شخصية مصر.. وصف مصر بأنها تلك (الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول)! هكذا كانت طوال التاريخ.. ومازالت، قال في كتابه العظيم هذا إن (مصر لابد أن تخرج من جعبة حاكمها).. والآن ونحن نحلم بالخروج من هذه المحنة الغاشمة الجهول.. أتذكر قولة هذا العالم العظيم بأن مصر تحتاج إلي (فورة شعبية) قبل الثورة الشعبية، هذه الفورة تحتاج إلي أداة تواصل.. يمكن للجمعية الوطنية تأملها، نحتاج إلي تجميع الناس.. عموم الناس.. علي هدف واحد.. ليس قلب نظام الحكم وإنما عدله! تحويله من ديكتاتورية غاشمة جهول امتدت عبر التاريخ إلي نظام ديمقراطي حديث يحترم الفرد، ويساوي بين الناس عبر سيادة قانون عادل، وليس سيادة قانون الأثرياء! وإلا كما قال عالمنا العظيم جمال حمدان: أمام مصر طريقان لا ثالث لهما.. إما الثورة التاريخية أو.. الانحدار التاريخي!