حين يستقل احدنا القطار فإن الأمل يحدوه أن يصل إلي محطة الوصول سالما بل وكلما قطع القطار المسافات متجها إلي غايته امتلأت نفوس الركاب أملا واستبشارا بقرب الوصول, ويحدث ذلك أيضا في أي مركبة أخري: أوتوبيس أو مترو أو سيارة خاصة.... الخ. لكن أطفال أسيوط الذين استقلوا حافلة معهدهم لم يصلوا إلي المحطة المستهدفة بل انتقوا إلي العالم الآخر وسط دماء وأشلاء ودموع وآهات, تخلي الأمل والاستبشار عنهم وعن أسرهم بل وعن أهل مصر أجمعين وجثم علي الصدور هم وغم, وامتلأت المآقي بدموع ساخنة تعكس الحريق الذي شب في الصدور والقلوب. والأمر واضح تماما لا يحتاج إلي اجتهاد طويل لنضع أيدينا علي الخطأ والخطايا, فمعظم مزلقانات سكك حديد مصر متروكة بلا إنذار أوتوماتيكي وموضوعة في يد عمال ملاحظة تضرب الأمية عقولهم والعشوائية تصرفاتهم, ومعظم سائقي الحافلات والسيارات يحصلون علي رخص القيادة بالفهلوة والواسطة والمحسوبية وينعكس ذلك علي طريقة قيادتهم للسيارات: فهذا يتخطي غيره بطريقة غير سليمة وذاك يريد أن يختصر المسافة فيسير في عكس الاتجاه وثالث يريد أن يتخطي المزلقان المفتوح قبل مرور القطار السريع فتقع الكارثة. كم مرة حدثت هذه الأمور في طول البلاد وعرضها؟! إن المواطنين يدفعون الثمن الباهظ لتصرفات خاطئة لا تعفي أبدا القيادات التي أدمنت التسيب وعدم المبالاة وعدم اخذ الأمور بجدية, هل فكر وزير النقل قبل أن يوافق علي تولي الوزارة في مشكلات مرفق السكة الحديد ؟ هل طالب رئيس مجلس الوزراء بخطة منطقية لمواجهة المشكلات ؟ هل اطمأن رئيس الجمهورية إلي أن رئيس الحكومة أخذ ذلك في اعتباره؟ وهل كل الوزراء وضعوا خططهم وفيها جزء يسمي العاجل والمهم ؟ وهل خاطبوا الرأي العام بواجبه تجاه هذه الأمور العاجلة والمهمة ؟. إن هذا ليس اختراعا جديدا, أن روح الثورة تعني التخلص من النظام السابق بأخطائه وإحلال نظام جديد قد يكون متدرجا لكن فيه بالضرورة هذا الجزء العاجل والمهم الذي يحفظ علي الناس أرواحهم وأملاكهم. وبهذه المناسبة أليس من الشريعة أن نحافظ علي الضرورات الخمسة:( النفس والمال والعقل والعرض والدين) أم أن الشريعة اختزلت في كلمة مبادئ أو أحكام داخل مادة دستورية. ان قطار أسيوط صورة مصغرة لقطار الوطن الذي نستقله جميعا, ونريد بلا شك أن يصل قطار الوطن إلي المحطة المستهدفة ولا يحيد عن مساره لأنه ان حاد عن هذا المسار فإن الضحايا وقتها لن يكونوا بالعشرات بل سيكونون أضعافا مضاعفة, وساعتها لمن يجدي نفعا سرادق للعزاء ولا تعويضات لأسر الضحايا سواء أزادت تلك التعويضات أم قلت. ان الدرس المهم الذي يجب أن نأخذه جميعا هو ضبط الحياة بقوانينها المعروفة: خطة في مواجهة العشوائية ومتابعة في مواجهة التسيب ونزاهة في مواجهة الفساد وتحمل للمسئولية في مواجهة التهرب منها, وقبل كل ذلك استدعاء لجوهر الدين في مواجهة المظهرية الخادعة الكاذبة, إن كل وزير وكل مسئول مطلوب منه بعد استشارة أهل الخبرة الثقات أن يضع خطة متكاملة بأهدافها ووسائلها وتمويلها وزمن تنفيذها أخذا في الاعتبار العاجل والمهم. وإن كل مشرف علي قطاع من قطاعات الدولة عليه أن يتابع وبدقة تنفيذ هذه الخطط ويتخذ من الإجراءات التصحيحية ما هو ضروري وعلي كل جهاز رقابي في البلاد أن يحاصر الفساد الذي ورثناه نظاما عن نظام وحاكما مستبدا عن سابقه, وأن يكون شجاعا في مواجهة هذا الفساد لأن الضعف في المواجهة ينقل هذا المسئول من مربع الإنجاز إلي مربع خيانة الأمانة والتستر علي الفساد. علي كل مواطن في شتي مواقع العمل سائقا أو ملاحظا لمزلقان أو عاملا بمصنع أو مهنيا أو أستاذا جامعيا... علي هؤلاء جميعا وغيرهم أن يتحملوا مسئولية الإتقان ان الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وان علي جموع المواطنين المصريين الذين يقدسون المعتقدات الدينية أن يتمسكوا بجوهر الأديان في العدل والأمانة والاحسان وأن لا ينخدعوا أبدا بمظاهر وان كانت من الدين فأنها كماليات وليست من الأساسيات وان فقه الأولويات علمنا أن سلم الأولويات يشتمل في درجاته العليا علي خدمة الناس والسعي في مصالحهم ويقدم ذلك علي أداء كثير من السنن. لقد مثل حادث قطار أسيوط جرس إنذار لنا أجمعين, وانني أناشد المصريين جميعهم أحزابا وقوي سياسية أن تعي الدرس وأن تنطلق بقطار الوطن وكفانا تاخرا عن السير قدما بوطننا إلي الأمام... أليس من الغريب أن تتناحر أحزاب مصرية حول عدد قلبل من مواد الدستور معتبرة اياها مسألة حياة أو موت وكل حزب بما لديهم فرحون فيحدث استقطاب حاد يحيد معه قطار الوطن عن المسار. ألم يسمع العقلاء من بني وطني كلام الرسول الأعظم صلي الله عليه وسلم القصد القصد تبلغوا والقصد هنا معناه التوسط في الأمور وكذلك جعلناكم أمة وسطا. ألم يسمع الإعلاميون في الوسائط المسموعة والمقروءة والمرئية عن تأثير الكلمة وأثارها من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت. فكم تبلغ نسبة الخير في كلام أهل الإعلام. ألم تقرع آذان المصريين هتافات المتظاهرين وفيها كثير من الحق وفيها أيضا باطل ظاهر؟ إن هتافات الحق جلجلت في سماء الثورة عيش حرية كرامة إنسانية أو عيش حرية عدالة اجتماعية لكن بعضا من غير الواعين غيروها وقالوا عيش حرية هنولع في الداخلية أهذا قطار الثورة الذي نريده أن يصل إلي محطته الكبري وهي الوطن المستقر المتقدم... أم أن هناك دعوات لا تريد تقدما بل تريد حلقة مفرغة لا نخرج منها أبدا. إن أجراس الإنذار تتعالي ولا بد من همم عالية تستجيب لهذه الأجراس, فيا أصحاب الهمم العالية هلموا فإن مصر تناديكم. المزيد من مقالات د.حلمى الجزار