طغى على المقال السابق المنشور فى هذه الصفحة يوم 10 يونيو 2019 تحت عنوان: بارعون فى الهدم ... فاشلون فى البناء, مزاج سلبى يركز على النقد دون تقديم حلول، ويعمد الى التفكيك دون بناء، فوجدت نفسى واحداً من الذين يتقنون الهدم ولا يجيدون البناء، لذلك سيكون هذا المقال مركزاً فقط على ما كان ينبغى أن يكون عليه التغيير فى الدول العربية التى شهدت ثورات الربيع المشئوم. أولاً: كان ينبغى أن يكون هناك وضوح فى أهداف التغيير أو الثورة، وهنا نجد أن ثورات العالم عبر التاريخ كانت تنحصر فى تحقيق واحد من ثلاثة أهداف هي: تغيير الدولة، أو تغيير النظام، أو تغيير الحكم. وتغيير الدولة حدث فى ثورة الخمينى، حيث تم تحويل إيران من دولة فارسية الهوية والتاريخ، الى ما يشبه خلافة فاطمية فى طور التكوين، وتغيير النظام حدث فى الثورة الفرنسية، وفى ثورة مصر 1952، وغيرهما حيث كان الهدف هو الحفاظ على هوية الدولة، وعلى مؤسساتها السيادية، وعلى كل مقدراتها وعلاقاتها الخارجية، والتزاماتها الدولية، ولكن تغيير نظام الحكم من ملكى الى جمهورى، ومن رأسمالى إلى اشتراكى، ومن ليبرالى الى نظام شمولى يتحكم فيه حزب واحد، أما تغيير الحكم فهذا يحدث عندما تكون الحكومة وباقى مؤسسات الحكم فاشلة أو فاسدة، والهدف هو تغيير القائمين على الحكم, مع الحفاظ على النظام وطبيعته وعلى الدولة ومؤسساتها، وهذا حدث فى العديد من حركات التغيير مثل ثورة السودان التى خلعت النميرى 1985، وغيرها. جميع الثورات العربية التى انطلقت منذ 2011, شارك فيها تيارات وأحزاب ونخب متناقضة لا تتفق على هدف واحد, وذلك لانعدام وجود قيادة موحدة لأى منها، وإنما قادتها جماعات انتهازية غير متوافقة، بعضها يهدف لتغيير الدولة، وبعضها يهدف لتغيير النظام، وبعضها يهدف لتغيير الحكم، ولذلك فشلت جميعا لعدم وضوح الهدف، وكان ينبغى أن يكون الهدف هو تغيير النظام، أو تغيير الحكم، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، ولكن لوجود تنظيم الإخوان فى كل هذه الثورات, ارتبكت الأهداف، وتم الانزلاق الى تفكيك الدولة ذاتها كما حدث فى سوريا، وليبيا، ومصر فترة حكم الدكتور محمد مرسى. ثانيا: كان ينبغى أن يتم الحفاظ على مؤسسات الدولة، والاستفادة من كوادرها الوطنية، وعدم التعامل مع كل ما كان موجوداً على أنه من مكونات النظام السابق، ومن ثم يجب التخلص منه، كما فعل جون بريمر الحاكم الأمريكى للعراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، ثم جاءت بعده الحكومات الطائفية واستخدمت قانون اجتثاث البعث لتفريغ العراق من كل ثروته البشرية، وإفلاسه بصورة كاملة، كذلك حدث الأمر نفسه فى مصر مع حكم الإخوان، وفى ليبيا، وفى تونس فترة المنصف المرزوقى، ثم عادت تونس ومصر وبقيت ليبيا تصارع من أجل البقاء. التاريخ يذكر أن ثورة الضباط الأحرار فى مصر 1952، حافظت على مؤسسات الدولة التى كانت موجودة فى عهد الملك فاروق، خصوصاً المؤسسات السيادية، وحافظت على الكوادر الوطنية، وظل وزير خارجية مصر محمد فوزى وهو من أهم رجالات الملك حتى 1965. فليس كل من كان يعمل فى النظام القديم ينبغى التخلص منه؛ لأن البناء لابد أن يقوم على أفضل ما هو موجود، وليس من خلال هدم الموجود دون وجود بديل. ثالثاً: الدول العربية التى مر بها الربيع المشئوم جميعها جمهوريات نشأت بعد التحرر من الاستعمار، تغولت فيها الدولة على المجتمع، وتوحشت مؤسساتها, بصورة قادت الى إفلاس المجتمع، وإفقاده كل قواه التاريخية، فتم القضاء على المؤسسات الطبيعية الفاعلة مثل: مؤسسة الوقف التى تم تأميمها لمصلحة بيروقراطية الدولة، وتم القضاء على الأحزاب، وإضعاف النقابات والاتحادات، لذلك كان ينبغى أن يكون التغيير هادفاً لإعادة التوازن بين الدولة والمجتمع من خلال تقوية المجتمع، وإعادة تفعيل مؤسساته جميعا من المجتمع المدنى والعمل الخيرى، الى النقابات والأحزاب، الى القطاع الخاص الوطنى، ولكن للأسف سيطر على الحكومات التى جاءت بعد الربيع العربى تيارات تؤمن بأن تقوية الدولة هى السبيل الوحيدة للتمكين والتحكم، وهنا أقصد تنظيم الإخوان ومن سار فى ركابهم، وتجاهلوا تماما إعادة تمكين المجتمع، فكانت نتيجة ذلك أن فقدوا الدولة، وبذلك فقدوا الوجود، وظل المجتمع عالة على الدولة، ولم يحدث أى تغيير سوى تغيير الوجوه والأسماء. هذه بعض أفكار حول ما كان ينبغى أن يكون، وللأمانة هذه الأفكار وغيرها كثير وصلت لمن كانوا فى سدة التغيير فى مصر وقتها، ولكنهم ظنوا أن الفرصة قد جاءتهم على طبق من ذهب، فتصرفوا بمنطق انتهازى، معتقدين أن زمن التمكين قد جاء، وأنهم لابد أن يعيدوا تشكيل الدولة المصرية، ويتخلصوا من ميراث سبعة آلاف سنة فى أيام معدودات. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف