بعد ثمانى سنوات عجاف, عاشتها الدول العربية التى ثار شبابها على الأوضاع البائسة للنظم الفاشلة, التى أوصلت مجتمعاتها الى حافة الانهيار، وبعد أن تغيرت جميع الجمهوريات العربية بانتفاضات كبيرة أو صغيرة، ثورية فى تغييرها، أم مطلبية فى أهدافها... بعد تتبع مسيرة التحولات الكبرى فى هذه الدول, التى يعتبرها البعض انتفاضات، ويعتبرها آخرون ثورات, وأيا كان التوصيف الأدق, فلا يستطيع أى باحث متخصص فى علم السياسة أن يتجاوز الحقيقة الأولى والوحيدة التى تجلت فى هذه الدول، والتى انتهت اليها جميع ثورات الربيع العربى المشؤوم, وهى: أننا بارعون فى الهدم، وفاشلون فى البناء. وهنا يثور السؤال المنطقى، لماذا كان مصير معظم الثورات العربية منذ 2011 واحدا، وهو هدم النظام القديم، أو تدمير قدراته، وفى الوقت نفسه عدم القدرة على تأسيس نظام جديد، ولو بصورة جنينية تقدم بذور أمل فى مستقبل مختلف؟ حقيقة الأمر أن مصير معظم الثورات العربية من تونس الى السودان كان واحدا، وهو إما اللجوء الى بعض مكونات النظام القديم، لأنهم رجال دولة، ولديهم الخبرة، أو الوقوع فى شراك سارقى الثورات من الأحزاب الأيديولوجية التى تشترك فى العقيدة السياسية الانتهازية المغلقة، وتختلف فى الشعارات, مثل الإخوان المسلمين فى مصر وتونس وليبيا، والحوثيين فى اليمن، والشيوعيين فى السودان حاليا، أو الوقوع فى حالة الفوضى المدمرة مثل حالة سوريا. هذا المصير المشترك للثورات العربية ليس جديدا فى جوهره، وإن كان سريعا فى وضوحه وانكشاف حقيقته، فجميع الثورات عبر التاريخ كانت تتصف بهذه الصفة بدرجة أو بأخرى، فعادة يكون هدم القديم سريعا، وشاملا، ومدمرا، وعبثيا، وبعد ذلك يقف الجميع فى العراء؛ بلا سقف ولا جدران بعد أن هدموا دارهم بعنفوان الثوار، وعند البناء تحتاج المجتمعات الى طاقات وقدرات وكفاءات تختلف جذريا عن طبيعة الثوار، وهؤلاء ينظرون للثوار على أنهم فوضويون، والثوار يرونهم رجعيين محافظين سلبيين. هى معادلة معقدة جدا فيها نقيضان لا يجتمعان، الهادمون المدمرون، وهم الثوار، والمبدعون المنشئون المبتكرون، وهم المحافظون المستقرون القابعون فى كهوف السكينة والخمول ... حقيقة لا ينتبه اليها الذين يقدسون الثورة والثوار، ويعتبرونهم «تابو» أى «مقدس»، أو «طوطم» أى التميمة التى تقدسها القبيلة البدائية. لقد تحول مفهوم الثورة والثوار إلى طوطم تحت تأثير الفكر الشيوعى الذى هيمن على مثقفى العالم الثالث لأكثر من نصف قرن، وأصبحت صفة الثورة والثورية تضيف قيمة معنوية هائلة لمن تمنح له، أو تضفى عليه، فتنقله من مستوى الإنسان العادى، الى مستوى الإنسان القائد، أو الطليعى بالتعبير الماركسى. ومن يقرأ التاريخ فى بعديه السياسى والحضارى يجد أن الثورات عادة تهدم، ولا تبني، وحتى إذا قامت بالبناء فيكون غالباً بناءً غير عادل، وغير قابل للاستدامة لأنه أسس على ظلم اجتماعى، أو عرقى، أو دينى. منذ الثورة الفرنسية الى اليوم، قرأنا عن الهدم والتغيير، وعرفنا حجم التدمير والقتل، ولكن كان نصيب البناء قليلا جدا، وإن وجد لا يدوم، فالثورة الروسية التى أحدثت أكبر تغيير ثورى فى تاريخ البشرية، حيث أعادت هيكلة خريطة العالم، ونشرت الفكر الاشتراكى فى جميع قارات الأرض، وأسقطت نظما، وأنشأت أخرى، وخلقت حالة من الحرب الباردة, هيمنت على العالم لما يقارب نصف القرن، وحققت العديد من الانتصارات، والتغييرات الإيجابية، لكنها فى حقيقتها كانت ثورة هدم، ولم تكن ثورة بناء، والدليل أن كل ما قامت ببنائه دمره الرئيس الروسى يلتسين فى بداية التسعينيات حين قصف البرلمان السوفيتى بالدبابات، وفتح البلد أمام الثقافة الرأسمالية التى كانت تعد كفرا فى العقيدة الشيوعية، وحينها وقف المواطنون الشيوعيون أكثر من ثمانى عشرة ساعة للحصول على ساندويتش إمبريالى أمريكانى. وبعدها عادت روسيا الى إحياء الثقافة والفنون والأفكار والاستراتيجيات القيصرية التى ثار عليها البلاشفة الشيوعيون عام 1917. والثورة الإيرانية التى هللت لها الحركات الإسلامية فى جميع أنحاء العالم فرحا وطربا، وتعلقت بها، وكأنها شعاع الأمل الذى سيقود المسلمين لإعادة مجدهم التليد، تحولت الى أكبر قوة هدم وتدمير حضارى فى إيران والعراق وسوريا واليمن، ولم تقدم إضافة واحدة الا زيادة عدد العمائم وأطفال الزواج المؤقت مجهولى النسب، وما عدا ذلك كان رصيدها دمارا فى دمار، وقتلا وتخريبا من قلب الحضارة الإيرانية العريقة الى حضارات بلاد الرافدين وسوريا واليمن. لقد كانت ثورة بارعة فى الهدم والتدمير، وفاشلة فى البناء والتشييد والإنشاء، فقد أصبح شعب إيران العريق يتكفف العيش بعد مرور أربعين سنة على الثورة الإسلامية. تتكرر المأساة نفسها فى عالمنا العربي... براعة فى الهدم، وفشل فى البناء، وتضخم وتوسع للكائنات الانتهازية من المنتسبين للحركات الإسلامية التى توظف الدين لتحقيق مطامع سياسية، أو المنتسبين للأحزاب اليسارية بكل تنوعاتها، وللأسف الشديد يوشك السودان الشقيق أن ينطبق عليه القانون نفسه: براعة فى الهدم وفشل فى البناء. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف