تكثف أوضاع المنطقة العربية وثوراتها فشل أنظمة الحكم في دولها في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وأن المحاولات التي تمت في هذا الاتجاه شابها ثقوب وواجهت عوائق داخلية بأكثر مما واجهت من عوائق خارجية، وبدأت تلك الأوضاع وهذه الثورات كاشفة عن أن الدول العربية لا تزال تعيش مرحلة وتداعيات الحرب العالمية الأولي 6191، وسقوط الخلافة العثمانية 3291 واتفاقية سايكس بيكو.. والفشل التخلص من عبء التبعية لدولة مركز لبناء دولة وطنية مستقلة حديثة. ومن المفارقات في تلك الأوضاع أن نظم الحكم الوطنية التي نشأت بعد سقوط دولة الخلافة وأقامت دولها، وكذلك الحركات الوطنية التي قادت بلدانها للتحرر من الاستعمار الأجنبي بعد الحرب العالمية الثانية.. عاد «الاستعمار» ليدعي تحرير شعوبها من ديكتاتورية أنظمة حكمها «الوطنية»! وبرغم محدودية الشعار الذي دفعته الشعوب في أكثر من بلد عربي.. «الشعب يريد إسقاط النظام» بالنسبة لتشخيص الحالة كونه حصر المسألة في إسقاط نظام حاكم، فإن حاصل جمع هذه الأنظمة يساوي بالنتيجة «الشعوب العربية تريد إسقاط النظام العربي» ويعكس تغييرا قد طرأ لجهة كسر حاجز الخوف والاستعداد للتضحية من أجل الديمقراطية والحريات والكرامة والتقدم.. أحد أهم العوائق التي حالت دون بناء الدولة الحديثة، في الماضي لايزال موجودا، وهو نمط الثقافة السياسية السائد، وكذلك الانتهازية السياسية لبعض النخب في المجتمعات. لذا لا تزال تواجه ثورة 52 يناير في مصر إشكاليات علي طريق بناء الدولة المدنية تتجلي في مظاهر عديدة منذ نجاح الثورة في إزاحة نظام مبارك، ومن أهمها نهج بعض النخب والجماعات السياسية نفس النهج الذي سلكه مبارك ونظامه في فرض الوصاية واحتكار الحكم وممارسة «المن» علي الناس بأعمال هي من صميم الوظيفة، واتباع سياسة الاقصاء والإبعاد في غطرسة وغرور، ناهيك عن محاولات تأميم الثورة، ووضع باقي قوي الثورة «تحت الحراسة»!؟، وإثارة النزعات الطائفية والمذهبية. وقبل الثورة تحدثت بعض هذه النخب والجماعات، وحذرت من «ثورة الجياع».. وبعد نجاح الثورة تناست الجياع والفقراء، وانهمكت في تقسيم الغنائم. كتب الصحفي الكبير مصطفي أمين، أنه قبل ثورة يوليو 2591 كان لمصر ملك واحد وبعدها صار لها 31 ملكا في إشارة إلي أعضاء مجلس قيادة الثورة. وهو توصيف مع التحفظ يمكن انسحابه علي الوضع السياسي عقب ثورة يناير في ضوء ممارسات شابت تحركات وتصرفات البعض، فقبل الثورة كانت هناك جماعة (عصابة) وبعدها ظهرت عشرات المجموعات التي تسعي كل منها إلي تأميم الثورة ونتائجها لحسابها. والمؤسف هو استخدام الدين استخداما خاطئا وإطلالة ممارسات أخضعت الحريات السياسية للحلال والحرام، فكان الموقف من المادة الثانية من دستور 1791 بشأن الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع خاضعا لحسابات الانتهازية السياسية ما أساء إلي الشريعة السمحاء. لقد أصر السادات علي هذه المادة في الدستور عام 0891 في تعديل لدستور 1791 شمل المادة 77 بشأن إطلاق مدد تولي منصب الرئيس دون حد أقصي في انتهازية سياسية باستخدام الدين والشريعة لتمرير التعديل المستهدف، وهي انتهازية تشبه تماما وضع صدام حسين لأغراض سياسية شعار «الله أكبر» علي العلم العراقي أواخر أيامه للتغطية علي جرائمه باسم الدين، ومن المفارقات أن حياة الرجلين انتهت نهاية مأساوية، الأول بالاغتيال والثاني بالإعدام.. لكن من يستطيع أن يدعو لصياغة المادة الثانية، أو يرفع هذا الشعار لوضعهما في إطار مقاصد الشريعة ورسالة الدين الإسلامي؟!.. يأتي ذلك في وقت يشيد فيه هذا وذاك ب «النموذج التركي».. العلماني؟! تلك الثقافة السياسية أيضا تتجلي في مواقف بعض النخب السياسية التي كانت تطرح نفسها بديلة للنظام السابق، وفي بعض الأحيان تفاوض منها مع النظام لمشاركته السلطة!!، وتكشفت بعد الثورة ألعاب بعضهم وسقطت أقنعتهم، فهم من إفرازات ذاك النظام أو من صنعه. مقابل ذلك هناك المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي تولي زمام إدارة شئون البلاد والذي خرجت منه أول إشارة لتغيير كبير في الثقافة السياسية السائدة، برفض تنفيذ أوامر «الفرعون» بضرب الشعب، بل قام بتأييد الثورة وبوصف مطالبها بأنها مطالب مشروعة بل ومحاسبة «الفرعون» وحبسه ورفض العفو عنه.. فدخل جيش مصر التاريخ من أوسع أبوابه. الشاهد في ضوء ممارسات ما بعد ثورة يناير هو أن الطريق لبناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة صعب، لكن هناك فرصة تاريخية ينبغي عدم السماح بأن تضيع، ولبناء دولة ونظام ومجتمع بالتخلص من العقليات القديمة.. فإذا لم تنعكس ثورة 52 يناير علي الثقافة والفكر السياسي للقوي السياسية والنخب في المجتمع ومعهما الجهاز الاداري للدولة.. فالمسألة مسألة وقت وتعود الأوضاع إلي ما كانت عليه.. بوجوه جديدة تكون هي فقط رمز التغيير وكأن الثورة قد قامت من أجل تمكينها... فقط. المزيد من مقالات محمد عبد الهادى