محافظ الغربية يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة الذكرى 42 لتحرير سيناء    بعد تراجعه أمس.. سعر الدولار مقابل الجنيه في 9 بنوك ببداية تعاملات اليوم    استقرار أسعار الفاكهة في سوق العبور اليوم الثلاثاء 23 أبريل    بداية التوقيت الصيفي تزامنا مع تطبيق المواعيد الجديدة لغلق المحال الجمعة المقبلة    سول: كوريا الشمالية ستواجه نهاية نظامها إذا استخدمت أسلحة نووية    الدفاع الياباني: قوات أمريكية تشارك في عملية البحث عن طاقمي مروحتين تحطمتا بالمحيط الهادي    طلاب الجامعة الأمريكية يطالبون الإدارة بوقف التعاون مع شركات داعمة لإسرائيل    الدفاعات الأوكرانية: دمرنا جميع الطائرات المسيرة التي أطلقتها موسكو خلال الليل    الزمالك يبدأ الاستعداد لموقعة دريمز الغاني    فريق «سيدات يد الأهلي» يواجه أبيدجان في ربع نهائي كأس الكؤوس الإفريقية    أمير هشام يكشف حالة محمد عواد من المشاركة في مباراة دريمز الغاني    درجة الحرارة تتجاوز ال40.. تحذيرات من الأرصاد حول طقس الأيام القادمة    مصرع سائق في تصادم سيارتين على صحراوي سوهاج    قرار عاجل بشأن مافيا الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي بالقاهرة    «الاتجاه التطبيقي في الجغرافيا».. ندوة بجامعة القاهرة لخدمة المجتمع    سلوى محمد علي تدير ماستر كلاس سيد رجب بالإسكندرية للفيلم القصير    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 23 - 4 - 2024 في الأسواق    وزير خارجية إيران: نأسف لقرار الاتحاد الأوروبي فرض قيود "غير قانونية" على طهران    الثانوية العامة 2024.. تعرف علي مواصفات ورقة امتحان اللغة الأجنبية الثانية    محافظ شمال سيناء يستقبل وزير الشباب والرياضة    مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2024/2025: تعزيز الدعم والمنح الاجتماعية    التهاب الجيوب الأنفية الحاد: أعراض ووقاية    وول ستريت تتعافى وارتفاع داو جونز 200 نقطة وخروج S&P500 من دائرة الخسارة    أزمة لبن الأطفال في مصر.. توفر بدائل وتحركات لتحديد أسعار الأدوية    بدرية طلبة تشارك جمهورها فرحة حناء ابنتها وتعلن موعد زفافها (صور)    نيللي كريم تظهر مع أبطال مسلسل ب100 وش.. وتعلق: «العصابة رجعت»    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    مصر تستهدف زيادة إيرادات ضريبة السجائر والتبغ بنحو 10 مليارات جنيه في 2024-2025    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 23-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    لبنان.. شهيد جراء قصف طيران الجيش الإسرائيلي سيارة في محيط بلدة عدلون    الرئيس البولندي: منفتحون على نشر أسلحة نووية على أراضينا    إزالة 14 حالة تعد بمركز ومدينة التل الكبير بمحافظة الإسماعيلية    اتحاد الكرة يوضح حقيقة وقف الدعم المادي لمشروع «فيفا فورورد»    ملتقى القاهرة الأدبي.. هشام أصلان: القاهرة مدينة ملهمة بالرغم من قسوتها    نجاة طفل تشبث أسفل قطار مسافة 100 كيلومتر    مصرع عامل دهسه قطار الصعيد في مزلقان سمالوط بالمنيا    فاروق جعفر يضع خطة للزمالك للفوز على دريمز الغاني    أستاذ مناعة يحذر من الباراسيتامول: يسبب تراكم السموم.. ويؤثر على عضلة القلب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام عطلة شم النسيم 2024 للقطاعين بعد ترحيل عيد العمال    بلينكن ينفي "ازدواجية المعايير" في تطبيق القانون الأمريكي    بشرى سارة لجمهور النادي الأهلي بشأن إصابات الفريق    بعد وفاته في تركيا، من هو رجل الدين اليمني عبد المجيد الزنداني؟    نصائح مهمة لمرضى الجهاز التنفسي والحساسية خلال الطقس اليوم    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    الكونجرس يشعر بالخطر.. أسامة كمال: الرهان على الأجيال الجديدة    خلال ساعات العمل.. أطعمة تجعل الجسم أكثر نشاطا وحيوية    علي هامش انعقاد مؤتمر الاتحاد العربي.. 11 دولة عربية في ضيافة النقابة العامة للغزل والنسيج بالقاهرة    عامر حسين: الأهلي احتج على مشاركة حارس الاتحاد السكندري    الشرطة تداهم أوكار الكيف.. سقوط 85 ديلر مخدرات في الإسكندرية    كشف غموض العثور على جثة بالشارع في قليوب    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    علي جمعة عن سبب تقديم برنامج نور الدين: ربنا هيحاسبني على سكوتي    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 23 أبريل في محافظات مصر    مصرع شخص وإصابة 2 في تصادم 3 تريلات نقل بالوادي الجديد    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصراع ووحدة الأمة
نشر في الشعب يوم 16 - 03 - 2008

كان سقوط الخلافة نكبة لا ككل النكبات فقد معه المسلمون وحدتهم ومرجعيتهم، كما كان تتويجا لمخططات القوى الأجنبية الرامية إلى تحطيم العالم الإسلامي، وبداية الطريق لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ولقد ظلت الدولة العثمانية طوال عمرها المديد في حرب متصلة مع الأعداء المحيطين بها من كل جانب، وإذا استثنينا أدوار غلبة الدولة على الدول الأوروبية الصليبية؛ فقد عاشت بعد ذلك قرونا يتألب عليها ضغط تلك الدول لتتجرد عن صبغتها الإسلامية؛ فأبت الضيم على ضعفها، واستمر ضعفها في ازدياد من توالي المحاربات مع أعداء الإسلام إلى أن ماتت في نتيجة الحرب العالمية الأولى بيد مصطفى كمال.
وقد عدد دوجوفارا من وزراء رومانيا، ومن المؤرخين في كتاب ألفه عقب تلك الحرب وسماه: "مائة مشروع لتقسيم تركيا" مشروعات الدول الصليبية لتقسيم الدولة العثمانية، ونقل عنه الأمير شكيب أرسلان مباحث كثيرة في حواشيه على كتاب: "حاضر العالم الإسلامي". قال هذا الوزير المؤرخ: "ثم إن احترام المعاهدات، والعمل بموجب الكلمة المعطاة كانا من مزايا العثمانيين يدور عليها التاريخ العثماني كله". وبعد إحصاء مائة مشروع أهمها المشروع الذي قدمه الفيلسوف الألماني ليبنتز Gottfried W. Leibiniz (المتوفى 1716م) إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا، واقترح فيه البدء بغزو مصر (الأمر الذي سيفعله نابليون فيما بعد) لأنها ملاذ الدين الإسلامي ووكر المسلمين الأشرار. قال: "هذه كانت في مدة ستة قرون مساعي المسيحيين، ومحاولاتهم نحو السلطنة العثمانية التي كانت من أعظم الممالك التي عرفها تاريخ البشرية". وقال: "كانت السلطنة العثمانية سلطنة عسكرية محضة مستندة على شرع سماوي"، وقال: "العداوة الحقيقية كانت عداوة النصارى للمسلمين برغم تسامح المسلمين في الدين، والحرية الدينية التي كان يتمتع بها المسيحيون في السلطنة العثمانية". وقال: "لمدة ستة قرون متتابعة كانت الشعوب المسيحية تهاجم الدولة العثمانية".
وقال الأمير شكيب أرسلان عن أقوال دوجوفارا في الثناء على معاملات الدولة العثمانية مع رعيتها المسيحيين، وحمل تبعة العداوة بينها وبين الشعوب المسيحية على تلك الشعوب: "بقي علينا أن نترجم خلاصة هذا الكتاب تأليف دوجوفارا الروماني مؤثرين منقولنا على قولنا؛ لأنها شهادة رجل أجنبي عنا؛ بل رجل سياسي مسيحي بلقاني كانت الأمة التي ينتمي إليها من جملة الأمم التي تمردت على حكم تركيا" [1]
وبموت الدولة العثمانية؛ اقتسمت القوى العظمى في ذلك الوقت – بريطانيا وفرنسا – أراضيها طبقا لاتفاقية سايكس بيكو[2]. وقد التقت الصهيونية العالمية مع الاستعمار في الهدف؛ وهاهو شعارها المرسوم على برتوكولات حكماء صهيون: أفعى متجهة برأسها إلى القدس مرورا باستانبول! وهل كان يمكن لها الوصول إلى القدس دون استانبول؟ ليس لاستانبول في ذاتها؛ ولكن لأنها عاصمة الخلافة؛ أي كان لابد أولا من القضاء على وحدة المسلمين.
والآن وبعد ستين عاما من نكبة 48؛ لم تعد تقسيمات سايكس بيكو كافية، وأصبح من اللازم لإسرائيل تفتيت الكيانات العربية خاصة تلك التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها ويفصح عن هذه الخطة الثابتة الاستراتيجي الصهيوني أوديد يينون Oded Yinon، بقوله :
"إن العالم العربي الإسلامي؛ عالم تفصح أوضاعه الوطنية والعرقية والطائفية عن افتقار بالغ إلى الاستقرار، وتنبئ عن استعداد للتفتت والانهيار. ذلك العالم بطوائفه وأقلياته وشيعه وانقساماته الداخلية منطوٍ على عوامل: كلها مفضية إلى تدميره داخليا، وكلها تجعله عالما غير قادر على حل مشكلاته الأساسية المشتركة التي تفعل فعلها المدمر فيه. ومتى أضفنا إلى ذلك البُعد بُعدَ العامل الاقتصادي، أمكننا أن نتبين كيف أن، وإلى أي مدى يماثل بنيان البلدان العربية المحيطة بنا برجا من ورق اللعب ليست لديه أدنى فرصة للتصدي لمشكلاته الخطيرة. ومصر أكثر تلك البلدان ترنحا وأخطرها متاعب؛ فالملايين من أهلها على شفا الموت جوعا، ونصف سكانها من العاطلين المحتشدين، بلا أية مرافق لازمة للعيش، على رقعة ضيقة من أشد بقاع العالم اكتظاظا بالسكان؛ فباستثناء الجيش، لا يوجد ولو قطاع واحد يعمل بكفاءة، والبلد كله في حالة إفلاس دائم، ولولا المعونات الأمريكية، وهي من ثمار معاهدة السلام مع إسرائيل، لانهار اقتصاده. والواقع أن مصر قد ماتت. مصر قد انهارت، وتمزيق أوصال جثة مصر بتفتيت أراضيها إلى مقاطعات جغرافية وكيانات منفصلة عن بعضها البعض هو هدف إسرائيل السياسي الرئيسي على جبهتها الغربية. فمصر – متى مُزِّقت جثتها، وقُسِّمَت، وانهارت مبعثرة في كيانات متعادية متناحرة – لن تعود تشكّل أدنى خطر على إسرائيل؛ بل على العكس ستصبح مصر المفتتة ضمانة تكفل الأمن لإسرائيل لوقت طويل.
"وبالإضافة إلى مصر، سيلحق المصير نفسه الذي ينتظرها بالبلدان المجاورة لها: ليبيا والسودان؛ بل والبلدان العربية الأبعد من ذلك. فلسوف تشارك كل تلك البلدان مصر سقوطها وانهيارها وتفتتها.
"أما العراق؛ الثري بنفطه، فيظل – بكل تأكيد – على رأس قائمة أهداف إسرائيل؛ بل إن العمل على تدميره وتفتيته أهم لإسرائيل بكثير من تدمير سورية وتفتيتها؛ لأن قوة العراق تظل على المدى الطويل أكبر خطر يتهدد إسرائيل. ولذا؛ فإن إشعال نيران حرب بين العراق وأي بلد آخر مطلب يمكن أن يؤدي تحقيقه إلى إضعاف العراق وتفكيكه وقطع الطريق عليه قبل أن يتمكن من تنظيم النضال ضد إسرائيل بشكلٍ ذي مغزى.[3] فكل مواجهة يمكن إشعال نيرانها بين العرب وبعضهم بعضا عون لنا يساعدنا على الاستمرار في المدى القصير، ويمَّكِّننا – على المدى الطويل – من التعجيل ببلوغ الهدف الأقصى وهو تفتيت العراق وتقسيمه إلى كيانات متناحرة كما حدث في لبنان، وكما سيحدث لسورية؛ فسورية يجب ولسوف تنحل إلى عدة كيانات على الأساس العرقي والطائفي الذي استُخدِم في لبنان، فتصبح هناك دويلة شيعية علوية، ودويلة سنية في حلب، ودويلة في دمشق.
"أما العراق؛ فيجب تقسيمه بحيث تصبح هناك ثلاث دويلات أو أكثر تتمركز حول مدنه الثلاث الرئيسية: البصرة، وبغداد، والموصل؛ فتستقل المناطق الشيعية في الجنوب عن المناطق السنية في الشمال، وتفصل المناطق الكردية. ولسوف يكون ذلك الانحلال والتفتت الضمانة طويلة الأجل للأمن والسلم في المنطقة بأسرها، وهو هدف بوسعنا العمل على بلوغه من اليوم".[4]
وهذا يقودنا إلى النقطة التالية: الفوضى، لقد أراد الأمريكان إحداث الفوضى في العراق وفي باقي المنطقة مثلما يحدث الآن في لبنان وفلسطين والسودان والصومال والبقية تأتي ظنا منهم أن هذه الفوضى ستؤدي مع انهيار الأنظمة إلى التفتت والتقسيم والتشرذم فتنقلب المنطقة إلى دويلات متناحرة تكون فيها إسرائيل هي الأكبر والأقوى وتسيطر أمريكا عن طريق الوكيل الإسرائيلي، وهذا هو لب مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إليه كوندوليزا رايس. باختصار نحن أمام سايكس بيكو جديد يخرج من رحم الغزو الحالي كما خرج سايكس بيكو الأصلي من رحم انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
ولتحقيق هذا الهدف كونت أمريكا تحالفا واسعا من عدد من البلدان سواء البلاد ذات الماضي الاستعماري أو البلدان التابعة، ولم يعد الهدف من تكوين هذه الأحلاف تطويق الاتحاد السوفيتي؛ كما كان في السابق، وإنما شن الحرب على الأعداء الجدد الذين تطلق عليهم: "محور الشر". ولما كان بوش الابن قد أعلن في مفتتح حملته على أفغانستان في أكتوبر 2001 أنه بصدد حملة صليبية قد تستغرق نحو عشر سنوات؛ فإننا لا نجافي الحقيقة إذا قررنا أن هذه الحرب هي حرب بين الإسلام والكفر. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن تستقطب أمريكا في هذا التحالف الجديد القوى المناوئة للإسلام. نعم من بين هذه الدول ذات الماضي الاستعماري والخلفية الصليبية من ساهم في غزو أفغانستان، وأحجم عن المساهمة في احتلال العراق؛ مثل ألمانيا وفرنسا، إنما كان ذلك لاعتبارات عملية، ثم عادت هاتان الدولتان في عهد ميركل وساركوزي للانضمام بقوة للحلف الأمريكي. وهناك دول لم تكن لها عداوات تاريخية ولا ماضي استعماري في المنطقة ولكنها ظنت أن تبعيتها لأمريكا ستفيدها في تأمين احتياجاتها النفطية. والمثال الصارخ على ذلك اليابان فلم تكن لليابان خصومة تاريخية مع العالم الإسلامي، فإذا بها تنضم للحلف الأمريكي في احتلال العراق مع أن أمريكا هي التي ضربت اليابان بالقنابل الذرية في أغسطس 1945، والسبب أن اليابان تعتمد اعتمادا كليا على بترول العرب وظنت أن انضمامها للحلف الأمريكي سيضمن لها نصيبا في هذا البترول. وأما دول شرق أوروبا فقد وجدتها مناسبة لاستبدال تبعيتها لروسيا بتبعيتها لأمريكا وأرادت أن تثبت مدى إخلاصها في تلك التبعية مثل أوكرانيا ورومانيا وبولونيا.
وأما في الحالة الصومالية، فإن قيام أثيوبيا بغزو الصومال بالوكالة عن أمريكا يرجع إلى أن لإثيوبيا أطماع قديمة في الصومال وفي منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعدما أصبحت دولة قارية بانسلاخ إريتريا، ووجدت في تلك الظروف فرصة لتحقيق أطماعها في الوصول إلى البحر عبر الأراضي الصومالية.
لقد وجدت أمريكا في انهيار النظام السوفيتي فرصة سانحة لتدعيم نفوذها كقوة عظمى قبل ظهور قوى منافسة مثل أوروبا الموحدة أو الصين، واندفعت في هذا السبيل اندفاعا خطيرا تجاوز كل الحدود، وأوشك أن يقع بها في الهاوية.
في هذه المنطقة بالذات وجدت أمريكا نفسها في بحر من الرمال المتحركة يوشك أن يطم كل مشاريعها وأن يعفو على كل آثارها. لقد ظنت أمريكا أنها تستطيع أن تلعب على تناقضات المنطقة لتغذية الصراعات المحلية التي تقسمها وتفتتها حتى لا تكون من قوة سوى إسرائيل، وأعدت نموذجا لذلك في أفغانستان وفي العراق.
أما في أفغانستان فقد عقدت عدة مؤتمرات للمعارضة الأفغانية في روما واعتمدت بصفة خاصة على الأقليات القومية مثل الأوزبك والهزارة.
وأما في العراق فقد استغرق الأمر وقتا أطول وإعدادا أكبر؛ فقد جلبوا بضعة آلاف من العراقيين إلى الأردن، ومن هناك سفروهم إلى رومانيا لتدريبهم على عمليات التخريب. وتم إعداد مؤتمرات للمعارضة العراقية في أمريكا، وحين بدأت أمريكا حشودها في الكويت للهجوم منها على العراق أحضروا معهم بضع مئات من هؤلاء الأمريكان العراقيين فدخلوا مع القوات الأمريكية يوم دخلت بغداد. وبعد أن دخلت قوات الغزو العراق لحقها آلاف من العراقيين اليهود المتواجدين في فلسطين المحتلة أعدتهم إسرائيل لهذا الغرض وقد علمنا أنه دخل بغداد وحدها من هؤلاء الإسرائيليين العراقيين عشرة آلاف ناهيك عن المدن العراقية الأخرى.
وأما محاولة تفتيت العراق؛ بإثارة النزعات الطائفية والعرقية، فهذه سياسة استعمارية قديمة، كما أسلفنا. وقد كانت في العراق – في الأربعينات – دويلة كردية تابعة لأمريكا بزعامة الملا مصطفى البرزاني. والحقيقة أن المشكلة الكردية لم تنشأ في المنطقة إلا مع سقوط الخلافة عام 1924م، لأن الدولة العثمانية، لم تكن دولة قومية؛ بل ضمت أقواما متعددة من العرب والترك والأكراد والألبان، وغيرهم؛ فلما تحولت من دولة إسلامية إلى دول قومية، ظهرت المشكلة الكردية، باعتبار الأكراد قومية بذاتها. ولن يمكن حل هذه المشكلة إلا في إطار إسلامي. والحقيقة أن الدولة القومية مفهوم استثنائي في التاريخ، ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم ازدهر في القرن التاسع عشر، ثم بدأ في التلاشي حتى انتهى قبل نهاية القرن العشرين. ذلك أن أوروبا ذاتها – المصدر التاريخي لمفهوم الدولة القومية – قد تجاوزتها لبناء مفهوم فوق قومي فيما عُرِف باسم الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن الدولة كانت قبل – ظهور فكرة الدولة القومية – تعبيراً حضارياً لا تعبيراً قومياً، وسوف يعود هذا المفهوم بعد زوال فكرة الدولة القومية. الدولة لم تكن ولن تكون تعبيرا عن جنس معين أو عرق معين، وإنما تعبيرا عن صورة معينة من صور الإيمان بالوجود.[5]
وإذا كانت الدولة القومية قد أصبحت الآن مفهوما لا يتماشى مع المطالب الأخلاقية، والمطامح الاقتصادية لهذا العصر، الذي لا قيمة فيه للكيانات الصغيرة في عالم التكتلات السياسية والاقتصادية الضخمة؛ فإنه بالنسبة للمشكلة الكردية، فإن مطامح الأكراد أو بعضهم في إقامة دولة كردية مستقلة، هو أمر محكوم عليه بالفشل؛ لأنه ما من دولة من دول المنطقة سوف توافق على ذلك أو تكون مستعدة للتسامح فيه؛ لا تركيا ولا إيران ولا سورية؛ وبالنسبة لتركيا؛ فإن الأمر أكثر إلحاحا؛ فإن في تركيا 16 مليون كردي (أي ربع عدد السكان تقريبا)، ووجود دولة كردية على حدودها تتخذ من كركوك الغنية بالنفط قاعدة لها، هو أمر بالغ الحساسية والخطورة لتركيا؛ بل يهدد بانفجار الدولة التركية ذاتها؛ إذ سينضم إليهم أكراد تركيا أو على الأقل سيشجع هؤلاء على إثارة المزيد من القلاقل لها. وهذا مصدر توتر كبير للعلاقات الأمريكية التركية؛ إذ أن الأمريكان قد سلحوا الأكراد، مما يعد مصدر تهديد خطير لتركيا، وفي نفس الوقت يدفع إلى التنسيق مع كل من إيران (التي يقطنها 8 ملايين كردي) وسورية، وهي الدول الأخرى المتضررة من المسألة الكردية.
وسوف تدفع المشكلة الكردية الأتراك إلى التنسيق مع إيران وسورية، وستكون أمريكا هي الخاسر الأكبر في هذه القضية فإن مساندتها للأكراد يعني خسارتها لتركيا، ووقوفها على الحياد يعني انهيار مشروعها لتفتيت العراق. وفي جميع الأحوال فإننا لا نعفي الزعامات الكردية من المسؤولية فقد تحالفت مع شاه إيران ومع إسرائيل ومع أمريكا، وتآمرت مع أعداء الأمة لزيادة تفتيتها الأمر الذي لا يخدم سوى المشروع الصهيوني، وستعود بالخيبة في النهاية بإذن الله.
على أن الصورة ليست بهذه القتامة؛ فإن الشعب الكردي شعب مسلم أصيل، ويكفي أن نتذكر أن صلاح الدين الأيوبي كان كرديا. وفي كردستان حركة إسلامية واعدة، منها حركة أنصار الإسلام التي زعمت أمريكا صلتها بتنظيم القاعدة، وقامت بضرب معسكراتهم بصواريخ من الجو، بينما سلطت عليهم عملاءها (قوات مسعود البرزاني) بضربهم من الأرض؛ فقُتِل من قُتِل، وفر من فر إلى إيران.
وأما في لبنان، فإن المحاصصة الطائفية قائمة أصلا وما على أمريكا إلا استغلالها. ويعلم الجميع بالدور الأمريكي في العدوان على لبنان في صيف 2006، و يعلم أيضا شماعة الحريري التي استغلت لإبعاد القوات السورية بأسلحتها قبيل العدوان، تمهيدا له، ثم بعد فشل العدوان استخدمت نفس الذريعة لوضع لبنان تحت الوصاية بإقرار مجلس الأمن الدولي التابع لأمريكا فرض المحكمة الدولية على لبنان، ثم هانحن نشاهد الآن موقعة مخيم نهر البارد غير البعيدة عن الأصابع الأمريكية من خلال أذنابها استكمالا لمخطط فرض الوصاية على لبنان.
وأما في فلسطين فإن فوز حماس في الانتخابات التشريعية حرك الخطط المبيتة لضربها وإفشالها بدءا بالحصار الاقتصادي ونهاية بتكليف دحلان وفريق من الخونة باغتيال القيادات الفلسطينية وتصفيتها. وكل ذلك بمساعدة النظام العربي الرسمي، وأيضا بمساعدة الأمم المتحدة التي أصبحت إحدى أدوات السياسة الأمريكية في العالم.
وأما في السودان فما أن تم الانتهاء من التوتر في الجنوب بتوقيع اتفاق نيفاشا إلا وسارعت أمريكا بفتح جبهة أخرى في دارفور سعيا لتقسيم السودان فكلما التأم له جرح سارعت بفتح جرح آخر. وفي هذا أيضا وسيلة للضغط على مصر وتهديدها بقطع منابع النيل.
إن التحالفات التي أقامتها أمريكا لضرب المنطقة توشك أن تتداعى وتنفك بفضل المقاومة الشعبية الصلبة كأساس، ثم كعنصر مساعد بفضل وعي الشعوب في جميع أنحاء العالم بأن هذه السياسات العدوانية لن تجلب إلا الخراب للإنسانية. ومثل هذه التحالفات لا تقلقنا ولكن الأخطر منها هو استخدام الأوراق الداخلية من الخونة والأنظمة المتشبثة بالحكم على حراب الأجنبي وفي ظل سيفه وهذا هو وجه الخطورة. لقد بدأت شعوب المنطقة تدرك أن الصراع ليس صراع قوميات أو مذاهب أو طوائف كما تريد أمريكا أن تصوره أو تدفع إليه حتى تصطنع مبررا لوجودها. إنما الصراع الحقيقي هو ما بين غانم وعاشق؛ غانم مستفيد من الأجنبي بائع لوطنه من أجل حفنة دولارات أو عاشق محب لوطنه يذوب كمدا عليه، هذا هو لب الصراع الآن، وفي كل أوان.
أما أن أمريكا قد وقعت في بحر من الرمال المتحركة فلأنها أغفلت عنصرا مهما هو رد الفعل. نعم بوسعك أن تشعل حربا وقتما تختار لكن ليس بوسعك أن تطفئها وقتما تريد. هذا هو المأزق الأمريكي الآن؛ ففي العراق على سبيل المثال لا تستطيع أمريكا البقاء لتزايد خسائرها يوما بعد يوم، ولا تستطيع أيضا الانسحاب؛ ليس فقط لأنها لا تريد الاعتراف بالهزيمة؛ بل وأيضا لأنها أوقعت العراق في الفوضى ولا توجد فيه الآن سلطة مركزية تستطيع أن تضمن لها الانسحاب دون خسائر أو بأقل قدر ممكن من الخسائر. وماذا ستفعل في المعدات الثقيلة التي جلبتها؟ هل ستأخذها معها؟ وفي هذه الحالة هل ستتمكن من الانسحاب بها في وقت قصير أم سيطول عليها الأمد وتتضاعف الخسائر؟. وإذا تركتها هل يمكن لقواتها أن تنسحب هكذا وكأن دخول النار مثل الخروج منها؟، وهل ستترك المقاومة هذه الفرصة دون إبادتها إبادة كاملة فتكون أكبر وأبشع هزيمة في التاريخ؟. وما ينطبق على العراق ينطبق على أفغانستان، والغريب في الأمر أن الأمريكان شاهدوا من قريب نهاية الاتحاد السوفيتي إثر اندحاره في أفغانستان ولم يعتبروا، والأعجب أن الإنجليز يشاركونهم نفس المغامرة وقد جربوا دخول أفغانستان مطلع القرن الماضي، وقُبر جنودهم هناك ولم يعد منهم إلا الشريد.
ومن هنا جاء في تقرير بيكر هاملتون ضرورة أن تجري الولايات المتحدة مفاوضات مع سورية وإيران بشأن العراق. وعن نفسي أعتقد أن مثل هذه المفاوضات خطأ استراتيجي بالغ من جانب سوريا أو إيران. أولا لأن أمريكا لم تستشر أحدا في احتلال العراق، وإذا أرادت أن تخرج من العراق فلتخرج كما دخلت ولا يعني لا إيران ولا سورية أن يخرج الأمريكان على ظهورهم أو على بطونهم. وثانيا أنه من مصلحتهما أن تُستنزف أمريكا في العراق حتى لا تعيد الكرة على الجيران، ولذلك؛ فإن من مصلحتهما مساعدة المقاومة العراقية. وجلوس الإيرانيين بالذات على مائدة المفاوضات مع الأمريكان بشأن العراق يعود بالسلب على مصداقيتهم في العالم الإسلامي خاصة بعد وقوفهم في صف المقاومة في فلسطين وفي لبنان، وقد يظهرهم بمظهر المساوم على العراق مع أن الاحتلال الأمريكي للعراق يضر أمعن الضرر بالمصالح القومية الإيرانية فالحدود بين البلدين طويلة (حوالي 1458 كيلو متر طولا)، ويمكن للأمريكان النفاذ منها لتجنيد العملاء والقيام بعمليات تخريبية داخل إيران، وهذا هو غاية المراد من رب العباد بالنسبة للأمريكان في إيران: إسقاط النظام الإيراني بأي وسيلة وإحداث الفوضى في إيران وتخريبه من الداخل حتى لا يكون نموذجا للمنطقة في التمرد على التبعية، وبذا ينضم طوعا أو كرها إلى منظومة الشرق الأوسط الجديد.
لكن فات هؤلاء وأولئك أن الفوضى تخدم المنطقة في هذا التوقيت بالذات لأسباب أرجو أن أوضحها. إن نظام سايكس بيكو قد أوجد كيانات هشة قابلة للتفتت ومعروف أن الانقسام يؤدي إلى مزيد من الانقسام. وثانيا أن هذه الكيانات لم تقم على التصورات السياسية الإسلامية ولا على التصورات السياسية الغربية؛ وإنما على مجرد التقسيم المصطنع والقابل للانفجار بحكم ما حواه من قنابل موقوتة زرعت عن قصد لخلق أسباب التوتر مثل مشاكل الحدود بين هذه الكيانات.
هذه القنابل الموقوتة تألفت من عناصر سابقة لكنها لم تكن واضحة في الصورة الكلية أو على المستوى الماكروكوزمي macrocosmic؛ إنما ظهرت واضحة على المستوى الجزئي أي المستوى الميكروكوزمي microcosmic، ومع التركيز الخارجي عليها، فإن العدو حتى إذا لم يجد أقليات يدعي حمايتها من خطر مزعوم فإنه يسعى لتصنيع أقليات.
على مستوى المثالية السياسية المسلمون أمة واحدة وجسد واحد والتجسيد السياسي لهذه الفكرة هي دولة الخلافة التي تعتبر نوعا من التعاهد أو الاتحاد الذي يجمع بين الأهداف المشتركة والمصالح العامة وبين التوزعات المحلية والتنوعات الإقليمية في نفس الوقت. لم يكن الخليفة في القاهرة أو في بغداد أو استانبول يحكم هذا العالم الواسع المترامي الأطراف إنما كان هناك توزيع أفقي ورأسي للسلطة وكانت هناك ولايات لها سلطات وفي نفس الوقت كانت هناك حكومة للاتحاد. في هذه الصورة الكلية توجد التنوعات الإقليمية والمذهبية لكن تأثيرها في المحيط العام يبقى محدودا، وإن ظل مؤثرا في وسطه الخاص، فالكل يعيش في إطار منطلقاته الذاتية من جهة، والمنضبطة بالتوجهات العامة للاتحاد من جهة ثانية.
وكون المسلمين أمة واحدة لا ينفي أن تعيش الملل الأخرى مع المسلمين في أمان تام. فليس من شأن الإسلام أن يكره أحدا على اعتناقه؛ إذ أن الإيمان هو تصديق القلب وإذعان النفس؛ ومثل هذا الإذعان النفسي لا يمكن إلا أن يكون حرا. ولذلك لم يشأ المولى I أن يجعل القهر المادي وسيلة للإقناع أو لحمل الناس على اعتناق الدين بالإكراه؛ "لا إكراه في الدين" لأنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر؛ وإنما بناه على التمكن والاختيار، ثم إنه I لما بين دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر، قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء. إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان. ونظير هذا قوله تعالى: )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( (29/الكهف). وقال في موضع آخر: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( (99/يونس). وقال في سورة الشعراء: )لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ( (3-4/الشعراء). ومما يؤكد هذا القول أنه قال بعد هذه الآية: "قد تبين الرشد من الغي" يعني ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف.
نحن إذن في ظل وضع شاذ لا تضره سايكس بيكو جديدة؛ بل على العكس قد تفيده لأنها تهدم القديمة، ثم ينشأ الاتحاد على أسس سليمة. هذا من جانب، وهناك جانب آخر لا يقل أهمية هو أن النظام الرسمي العربي نظام مهترىء ولا قيمة له ولا مصلحة في استمراره سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي، وحتى تتأكد من هذه النقطة أنظر إلى جامعة الدول العربية وتخاذلها أمام أمريكا وإسرائيل لتدرك أنها ليست إلا صدى للوضع العربي المهترىء. إن الأنظمة السياسية إنما تستمد مشروعيتها من تحقيق الصالح العام كما تتصوره الجماعة‘ فكيف بك إذا كانت هذه الأنظمة وكيلا عن الأجنبي الطامع ومشاركا له في نهب ثروات المجتمع؟، هل تكون لها في هذه الحالة أي شرعية؟ وهي لا تستمر إلا بالإكراه ولا يمكن أن تقوم بانتخابات حرة لأنها لن تنجح إلا بالتزوير. لقد أصبحت تلك الحكومات العقبة الرئيسية في سبيل التقدم وسواء أسقطت بضغط داخلي أو نتيجة الخضوع المتنامي للضغط الخارجي فالنتيجة واحدة، واهتزاز نظام برويز مشرف في باكستان الآن خير شاهد على ما نقول، فإن خضوعه التام لأمريكا سيودي به، ولن تنفعه أمريكا إلا كما نفعت الشاه من قبله أو البرزاني أو كرزاي من بعده.
نعم الفوضى التي يعملون لها تعني الهدم، والهدم يكون ضروريا لإعادة البناء إذا كان الأساس ضعيفا، وهذا هو الوضع الآن الأساس غير سليم والمطلوب بناء جديد على أساس متين. نعم نحن على يقين تام بأنه ليس من طريق أمام هذه الأمة إلا المقاومة، ولكننا لا ننسى أن الحكومات القائمة حاليا – باستثناءات قليلة – ليست إلا ظلا للأجنبي الغاصب ورحيل أحدهما يعني رحيل الآخر بالتبعية والصراع ضدهما معا أمر مفروغ منه وتشهد بذلك تجاربنا القريبة والبعيدة منذ الحملات الصليبية الأولى وحتى اليوم؛ ومن هنا كان استبشارنا بهذه الهجمة الاستعمارية الجديدة رغم كل ما فيها من آلام فمن رحم الألم والكفاح يأتي النصر بإذن الله.
ولمزيد من الإيضاح، نذكر القارىء الكريم بأنه رغم كل المخططات الصهيونية للسيطرة على المنطقة، فإن الإسلام قد أثبت دوما حيويته الفائقة وانبثاقه من حيث لا يتوقعون، وإذا كانت مكة والحجاز هي قلب العالم الإسلامي و قد أضعفوه، ثم سيطروا على المنطقة المحيطة بالقلب أي أجزاء من الصدر في فلسطين والعراق، وغيرهما، فإن حيوية الإسلام الفائقة، سوف تدفع الأطراف المحيطة بالصدر في تركيا وإيران وباكستان إلى ضخ الدم إلى القلب، خلاف المعتاد وهو انسياب الدم من القلب إلى باقي الأجزاء. ذلك لأن الجسد الإسلامي واحد، كما جاء في الحديث الشريف، فسقوط بغداد – حاضرة الخلافة بيد التتار في الماضي لم يمنع من تكسر موجة التتار في فلسطين والشام، وانتقال الخلافة إلى القاهرة، بل وإسلام التتار أنفسهم في النهاية. وسقوط الأندلس في غرب العالم الإسلامي وغرب أوروبا واكبه نهضة الدولة العثمانية شرق العالم الإسلامي وشرق أوروبا. وسقوط بغداد اليوم سيكون مقدمة لنهضة جديدة وروح جديدة، ولن يستطيع الاحتلال أن يثبت فيها إلا قليلا؛ ريثما تستعيد أنفاسها؛ بل لعله يكون محركا للوحدة والاتحاد والتضامن، فإن الخطر المشترك من أقوى حوافز التضامن، وإن الحرب السافرة على الشخصية القومية ليست إلا دافعا لتماسك هذه الشخصية وزيادة صلابتها، فإن من مقتضيات الحكمة الإلهية أن تكون المواجهة مقرونة بالتحدي؛ وأن تكون التجارب الأليمة هي التي تصهر الأفراد والشعوب لتخرج من المحنة أقوى مما كانت.
ثم هاهنا فائدة أخرى من بركات هذه الحملة الأمريكية، أو إن شئت الدقة الحملة الصهيونية، فإن الصهيونية هي التي تسوق وراءها أمريكا – لتحقيق مطامحها، وهذه الفائدة هي عودة الاستعمار المباشر مرة أخرى بعد أن كانت قد طُويت صفحته.
"فأمريكا، منذ بدأت تجد في نفسها القوة للخروج إلى ما وراء حدودها الوطنية لانتزاع ممتلكات الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، بدءا بمستعمرات أسبانيا في أمريكا اللاتينية والكاريبي والباسفيكي، فعلت ذلك تحت راية تحرير الشعوب، والقضاء على الاستعمار. وهو الشعار نفسه الذي تلفعت برايته بعد الحرب العالمية الثانية عندما أخذت على عاتقها إنهاء بقايا الوجود الإمبراطوري لحلفائها في تلك الحرب من خلال منظمة الأمم المتحدة تحت اسم إنهاء الاستعمار. ووراء تلك الخيرية المطلقة والرغبة اللاعجة في القيام برسالة حمل مشعل الحرية إلى كل الشعوب، تسترت رغبة أمريكا العارمة في القضاء على كل القوى الاستعمارية في العالم للحلول محلها، وبالحلول محلها، اتخاذ وضع القوة الأعظم والأوحد المديرة لكل مكان على وجه البسيطة. وفي ذلك كما في غيره، كانت أمريكا بلد التجديد والجدّة، إذ أنها، في حلولها محل القوى الإمبراطورية القديمة، لم تلجأ إلى أسلوب الحكم الاستعماري القديم القائم على احتلال أراضي المستعمرات بقوات البلد المستعمِر، بل لجأت إلى أسلوب (لم يكن جديدا تماما في الواقع، بل جديدا على النمط الاستعماري الحديث فقط، إذ أنه أسلوب سبق أن ابتدعته وطبقته قديما الإمبراطورية الرومانية) هو حكم المستعمرات بالتحكم البعيد عن طريق الجيوش الوطنية لتلك المستعمرات ونظم الحكم العسكرية القائمة على أساس التبعية الكاملة لواشنطن، وهو أسلوب دعمته أمريكا وأسبغت عليه المشروعية الدولية عن طريق امتلاكها لمنظمة الأمم المتحدة.
"وبفضل أسلوب التحكم الاستعماري المبتكر هذا، بالتحكم البعيد، وبغير احتلال عسكري مباشر، بات بوسع الولايات المتحدة أن تدير لحساب مصالحها ومصالح حلفائها الإمبراطوريين القدامى الذين التحقوا بركبها المظفر كأتباع لها، عالما بأسره، إدارة محكمة وبراقة أعطيت واجهة وضيئة بحق أسميت بالشرعية الدولية، وحكم القانون الدولي، وإرادة المجتمع الدولي.
"وفي الحالات القليلة والنادرة التي اضطرت فيها الولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية السافرة للتأديب والترويض والإخضاع، فعلت ذلك:
1)بناء على طلب العناصر المسؤولة في البلد الهدف، كما في حالتي جرينادا وبنما (وكما في حالة الكويت سنة 1990، بناء على طلب من الكويت وبموافقة من جامعة الدول العربية).
2) وفي ظل ميثاق الأمم المتحدة أي في ظل الشرعية الدولية (باستثناء الحرب الأخيرة على العراق).
3) وصونا للقانون والنظام في العالم.
4) وتنفيذا لإرادة المجتمع الدولي.
5)وبقوة متحالفة مشتركة أسهمت في تشكيلها دائما حكومات البلدان المعنية بالمنطقة، صونا لحرية المنطقة كلها واستقرارها وأمنها".[6]
كانت هذه هي السياسة الاستعمارية الأمريكية المفضلة – التحكم عن بعد – ولكنها الآن منذ احتلال العراق، والتمهيد لهذا الاحتلال بحشد قواتها في الخليج، بدأت في حقبة استعمارية أخرى: الاستعمار المباشر بصورته التقليدية التي عرفناها في العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهذه الصورة العتيقة من صور الاستعمار لها بالنسبة لنا ميزة، هذه الميزة أنها ستحدد أطراف الصراع تحديدا واضحا، حيث سيكون صراعا بين الاستعمار وبين قوى التحرر الوطني، وفي الحقبة الماضية كان الصراع مستترا لأن الاستعمار لم يكن مباشرا. نعم من الطبيعي أن الاستعمار الأمريكي سينصب من يشاء من الحكام مثل ما نصَّب قرضاي في أفغانستان، ومثل ما سينَصِّب غيره في العراق؛ لكن هذا أمر واضح، مثلما كان الصراع – أيام الاستعمار المباشر – بين قوى التحرر الوطني من جهة والاستعمار وأعوانه من جهة أخرى.
لقد كان كثير من الناس عندنا مسحورون بأمريكا – بلد الحرية وحقوق الإنسان – يرون فيها الجنة الموعودة؛ وهاهو وجهها الحقيقي قد انكشف للجميع؛ وأي حقوق إنسان هذه التي تحرق وتدمر وتقتل الأطفال في فلسطين ولبنان، وأفغانستان والعراق والصومال حتى الآن، وقبلها فيتنام وكوريا واليابان، وأكثر من ذلك، ألم تعتقل السلطات الأمريكية عشرات المواطنين الأمريكيين، ومنهم قساوسة وعلماء حاصلين على جائزة نوبل، لأنهم نظموا التظاهرات في المدن الأمريكية احتجاجا على عدوانها على العراق، بل وأطلقت النار بالذخيرة الحية على المتظاهرين.
لقد جوبهت الحملة الصهيونية الأمريكية على العراق، بمعارضة شعبية عارمة في كافة دول العالم بما فيها أمريكا ذاتها؛ ذلك أن الشعوب قد أدركت بحسها الإنساني الفطري أن العالم مقبل على كوارث ونكبات لا يعلم مداها إلا الله، ذلك بفضل عقدة الغرور التي استحكمت في الإدارة الأمريكية الحالية، وخضوعها الكامل لتوجهات الصهيونية العالمية الرامية إلى السيطرة على العالم، وخاصة على قلب العالم – من النيل إلى الفرات. وهذا الحلم الجنوني يتطلب التفريغ الثقافي لشعوب هذه المنطقة بما يستلزمه ذلك من تغيير التقاليد والمعتقدات والأوضاع والنظم. ولما كان الإسلام هو الذي يقف حجر عثرة أمام هذا التغيير فينبغي تفريغ المنطقة منه أو تفريغ المسلمين من الإسلام، أو تصنيع إسلام جديد على المقاس الأمريكي. إن العالم أوسع من أمريكا ومن إسرائيل ومن الصهيونية؛ اتساعا لا تستطيع معه هذه القوى – مهما أوتيت من مظاهر القوة، أن تتحكم فيه أو أن تستخدمه لمصالحها. لقد شهد التاريخ أحلاما إمبراطوية كبرى لم تلبث أن تلاشت، وتحطمت، قبل أن تستكمل ملامحها؛ وإلا فأين نابليون؟ وأين هتلر؟ وغيرهم وغيرهم. والمشكلة أن أحلام نابليون الجنونية قد كلفت العالم عشرات الآلاف من الأرواح، حتى قال قيصر روسيا: "هل كان نابليون غير حصان جامح أزعج أوروبا بصهيله". بينما كلفته مغامرات هتلر عدة ملايين من النفوس؛ وهذه المرة فإن جنون أمريكا سوف يكلف الإنسانية عشرات الملايين من الأرواح بفعل التقدم الهائل في أسلحة الدمار، قبل أن تصل والصهيونية معها إلى مصيرها المحتوم. ولكن الغرور قد يدفع المرء إلى ركوب المحال. ثم أنى لأمة بلا تاريخ أن تستفيد من عِبَر التاريخ، أو تقدر مواعظه؟.

يا ناطح الجبل العالي لتوهنه أشفق على الرأس لا على الجبل

وتأسيسا على ما سبق فلا أستبعد أن تقوم أمريكا بمغامرة عسكرية جديدة ضد سورية أو إيران رغم خسارتها المحققة في العراق، على طريقة المقامر الذي فقد كل شيء تقريبا فراهن على ما تبقى له على قاعدة إما أن أخسر كل شيء أو أكسب كل شيء، ولأن الثور الهائج يظل هائجا إلى أن يسقط صريعا في خاتمة المطاف، ولا ننسى أن الثَمَل بالقوة لم يكن وحده سبب اقتحام أمريكا لهذه المهالك بل ضاعف من تأثيره حالة الضعف الظاهر في العالم الإسلامي وجيوش الخونة والمنتفعين الذين زينوا للأمريكان سوء ما يفعلون، ولعل في هذا إيضاح لما قلته من أن الأمريكان دخلوا في بحر من الرمال المتحركة لن يخرجوا منه سالمين بإذن الله.
وخلاصة القول أن كل من يبذر بذور الفتنة والانقسام إنما يعمل لصالح المشروع الصهيوني ولصالح أعداء الأمة، وأن الاختلافات المذهبية أو العرقية ليست مبررا لمهادنة الأعداء أو الانضواء تحت صفوفهم فإن مثل هذه التنوعات أمر طبيعي في كل أمة، وليست بمانع من وقوف الأمة صفا واحدا في مواجهة أعدائها، ومهما تستر العدو وراء فتاوى مذهبية أو زعامات إثنية يجب علينا فضح هذا التزييف ومعرفة من يعمل لحسابه، وبهذا الوعي الشامل والتوحد في الصف يكون النصر بإذن الله.

[email protected]


الجيزة في 3 ذو القعدة 1428




------------------------------------------------------------------------
[1] لوثروب ستودارد – حاضر العالم الإسلامي – ترجمة عجاج نويهض وحواشي الأمير شكيب أرسلان – دار النهار – بيروت – 1973 – ج 3 – ص 326 وما بعدها.

[2] اتفاقية سرية بين إنجلترا وفرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى لاقتسام أراضي الدولة العثمانية بعد الحرب، وسميت بذلك نسبة إلى سايكس وزير خارجية بريطانيا، ونظيره الفرنسي بيكو. ومن الجدير بالذكر أن هذا الاتفاق يناقض ما تعهدت به إنجلترا للشريف حسين – شريف مكة – من تنصيبه ملكا على العرب إذا ما ساعدها في الحرب على دولة الخلافة، من خلال مكماهون – المعتمد البريطاني في مصر آنذاك. ومن الجدير بالذكر أن الاستخبارات العثمانية توصلت إلى هذه الاتفاقية السرية وكشفتها للشريف حسين لحثه على عدم الوقوف في الحرب إلى جانب بريطانيا، ولكن دون جدوى، ولما قامت الثورة البلشفية في روسيا أواخر عام 1917 كشفت الحكومة البلشفية هذه الاتفاقية وأعلنتها على الملأ.

[3] لعل هذا كافيا في الإفصاح عن علة الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثماني سنوات، وبمساعدة دول الخليج النفطية.
[4] شفيق مقار – قتل مصر من عبد الناصر إلى السادات – رياض الريس للكتب والنشر – لندن – 1989 – وثيقة يينون – ص 316/319.
[5] لمزيد من التفاصيل حول الطبيعة العقائدية للدولة الإسلامية، وأساس نشأتها، يرجى الرجوع إلى كتابنا: "المستغربون – دراسة في ظاهرة الاستلاب الحضاري" خاصة الفصل الأول منه بعنوان: "أسس الاجتماع السياسي الإسلامي".
[6] شفيق مقار – المسيحية والتوراة – بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط – رياض الريس للكتب والنشر – لندن/قبرص – 1992 – ص 410/411.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.