لعل أهم ما أسفرت عنه المشادة بين السفير الأمريكي والأمن التركي الأسبوع الماضي في الدوحة, وما سبقها من التداعيات التي أعقبت عرض تركيا لمسلسل وادي الذئاب والتلاسن الشهير في دافوس بين اردوغان وبيريز. ان حصان التزييف الصهيوني, الذي طالما طاف في حلبات الوقيعة بين الأتراك والعرب قد سدت في وجهه المنافذ, ولاتزال الدائرة تضيق عليه يومابعد يوم.وأول ما يلفت النظر في ذلك الطواف, المكائد التي حيكت للسلطان العثماني عبدالحميد وحشرت به بين سندان الصهيونية والغرب ومطرقة العرب ومن المثير للدهشة والاستياء ان يؤثر المؤرخون العرب, وأكثر كتابهم, ان يدعوا الأمر برمته إلي المؤرخين والكتاب الصهاينة, ومن والاهم من المؤرخين والكتاب الغربيين, ممن يناصبون العرب والإسلام العداء جهرة وبلا تحرج, وتسمح لناهذه النظرة قصدا منا إلي وضع الأمور في نصابها الصحيح, بأن نضع هذه القضية وضعا يجعلها جزءا من التاريخ. حكم عبدالحميد الثاني الامبراطورية العثمانية34 سنة متصلة1876 1909, كانت خلالها مثقلة بالمتاعب والأزمات, كانت أخطرها علي كثرتها المطامع المتأججة التي أحاطت بها, فجعلت من الخلافة فريسة تناهب ملكها الطامعون في مركزها الجغرافي الفريد, وفي سلطانها الروحي والمادي المديد, وفي تحطيمها ثم تقسيمها بينهم اشلاء, لينتهي اسم الإسلام في هذه المنطقة من العالم, وليتواري علم الخلافة من دنيا السياسة ومجال الأقوياء, واضعين نصب أعينهم زوال امبراطوريتهم البيزنطية بسواعد العثمانيين, ونستطيع القول علي وجه اليقين, ان الصهيونية كانت عاملا قويا في ذلك الانهيار, ذلك انها لم تنس ابدا إفشال السلطان لمخططات زعيمها الأول ثيودور هرتزل وصده, ومن ثم عقدوا العزم علي ان تكون لهم اليد الطولي في تصديع الخلافة, وكانت الخطوة الأولي الاستيلاء علي درة الخلافة وهي فلسطين, وتحويلها إلي وطن لليهود اول الأمر, ثم دولة يهودية خالصة فيما بعد, وقد كتب علي السلطان ان يواجه الزحف الصهيوني, وان يتعرض لضغوط هذا الزحف بوسائله العديدة, الداخلية والخارجية والسياسية والادارية والمالية. وهكذا التقي عبدالحميد وهرتزل في حلبة المصارعة, او التقي الأسد بالذئب, ولكن الأسد يبدو مريضا بكل صنوف السموم, في حين كان الذئب فتيا كثير الامكانات التي يمكنها ان تتيح له القدرة الفائقة علي الحركة واللف والدوران, فكيف انتهت المعركة؟ يذكر لنا الدكتور عمر عبدالعزيز عمر في كتابه تاريخ المشرق العربي ان هرتزل فكر بالاتصال مباشرة بالسلطان للحصول علي موافقة الدولة صاحبة السيادة الفعلية علي فلسطين علي الهجرة اليهودية إليها, وأخذ الضمانات القانونية منها بمنح اليهود استقلالا ذاتيا فيها, ولوح هرتزل للعثمانيين بمعونة مالية يهودية, تنقذهم من الأزمة المالية, وقابل السلطان عبدالحميد سنة1901, ولكن عبدالحميد رفض رفضا باتا, وكان رده المحدد الذي قال فيه: انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع, اني لا استطيع ان اتخلي عن شبر واحد من الأرض, فهي ليست ملك يميني بل ملك أهلها, لقد ناضل اهل فلسطين في سبيل هذه الأرض ورووها بدمائهم فليحتفظ.اليهود بملايينهم إذا مزقت امبراطوريتي, فلعلهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن, ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق في جثثنا فإني لا أستطيع الموافقة علي تشريح أجسادنا ونحن علي قيد الحياة ويعلق الدكتور عمر علي رد السلطان بقوله:وإذا نظرنا الي موقف السلطان من عروض هرتزل,فإننا نجد أنه كان واعيا لأطماع الحركة الصهيونية, وكان يفرق بين الصهيونية واليهودية ونظر إلي الصهيوني باعتباره خطرا يمثل الاستعمار والاغتصاب, ويتضح وعي عبد الحميد بخطر الصهيونية من الإرادة السنية التي أصدرها في5 من نوفمبر عام1900, بمنع إقامة اليهود الدائمة في فلسطين. لقد دفع السلطان ثمن صلابته هذه غاليا, فقد كلفته الإطاحة بعرشه سنة1909, حيث أخذ اليهود يعدون المؤامرات للانتقام منه, واتخذوا من مدينة سلانيك وكرا لدسائسهم, اختاروها لكثرة مافيها من الدونمة وهم طائفة من اليهود انتحل أفرادها الدين الإسلامي, وتظاهروا باعتناقه للتمكن من السيطرة علي زمام الأمور في الدولة العثمانية, فأخذوا يتغلغلون في مراكز الدولة, حتي تمكن بعضهم من الوصول الي أعلي المناصب, أصبحت حركة حزب الاتحاد والترقي ملك يمينهم وأدوا الجزء الأكبر من انقلاب تركيا الفتاة الذي أطاح بالسلطان, وأفسح المجال لحكم حزب الاتحاد والترقي والحكم العلماني, وهناك نص لوثيقة تدعم هذا, وهي عبارة عن رسالة دفع بها السلطان لشيخه المقرب اليه محمد أبي الشامات الدمشقي ونظرا لضيق المجال نقتصر علي مضمونها دون الديباجة: بعد هذه المقدمة, أعرض لرشادتكم وإلي أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة, المسألة المهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ: إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوي أنني بسبب المضايقة من جمعية الاتحاد المعروفة باسم تركيا الفتاة وتهديدهم اضطررت وأجبرت علي ترك الخلافة, إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي أن أصادق علي تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين ورغم إصرارهم لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف, وأخيرا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة انجليزية ذهبا, فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضا * وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي لقد خدمت الملة الإسلامية مايزيد علي ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين, وبعد جوابي القطعي, اتفقوا علي خلعي, وأبلغوني بأنهم سعيدونني إلي سلانيك فقبلت بهذا التكليف الأخير..هذا وحمدت المولي وأحمده علي أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في فلسطين وما أظن هذه الوثيقة التاريخية بحاجة الي تعليق,فليس بعد بيان السلطان نفسه عما جري له بيان ولابعد هذه الصراحة بوقاحة اليهود وعملائهم الاتحاديين صراحة, إنما الذي أظنه, بل أعتقد به اعتقادا حاسما, أن أردوغان وصحبه كرئيس تركيا ووزير خارجيتها قد وصلوا ما انقطع بالإطاحة بعبد الحميد, ولاتزال فجوة التباغض تتسع بين الصهاينة والأتراك يوما بعد يوم, فماذا عسانا نحن العرب فاعلون؟