«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سياسة حافة الهاوية
نشر في الشعب يوم 19 - 06 - 2007

كان هذا هو عنوان السياسة الخارجية الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي التي خطط لها جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية آنذاك. وكانت تعني تصعيد التوتر مع الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو لكي تكسب من الحرب الباردة مع الحرص على عدم تحولها إلى حرب ساخنة في اللحظة الأخيرة، ولذلك كان كل من حلف وارسو وحلف الأطلنطي يسعى لكسب الأنصار لتطويق الحلف المقابل.
في هذه الأجواء تشكل حلف بغداد الذي تحول فيما بعد إلى الحلف المركزي بعد انسحاب العراق منه بسقوط الملكية عام 1958. ولما رفضت مصر الانضمام لحلف بغداد أوقفت أمريكا صفقة أسلحة لمصر كان يجري التفاوض عليها؛ فاستبدلتها بمصر بصفقة أسلحة مع تشيكسلوفاكيا فكان أن أوعزت أمريكا إلى البنك الدولي لسحب عرض تمويل مشروع السد العالي. وفي ظل هذه الأجواء نشأت فكرة عدم الانحياز، واستطاعت الدول المتوسطة والصغيرة أن تستفيد من تنافس القطبين لتحقيق بعض المكاسب أهمها مساندة حركات التحرير والمحافظة على نوع من الاستقلالية في القرار السياسي, وإن كانت هذه الاستقلالية أصبحت موضع شك فمصر على سبيل المثال انتهجت نهجا اقتصاديا ذا طابع اشتراكي بفعل ضغوط الاتحاد السوفيتي وتزايد نفوذه بعد أن أمدها بالسلاح ووافق على تمويل مشروع السد العالي.
والسياسة الخارجية الأمريكية حاليا تشبه إلى حد كبير سياسة حافة الهاوية إبان الحرب الباردة مع مراعاة تغير الظروف، ففي ظل الحرب الباردة والثنائية الدولية كانت أمريكا حريصة على أن تستفيد بأقصى ما يمكن من تصعيد التوتر مع الحرص على ألا تجرها التوترات إلى الدخول في حرب فعلية، وكانت أهمية تكوين الأحلاف هي تطويق الاتحاد السوفيتي من ناحية، ودفعه إلى تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع أمريكا من ناحية أخرى. وفي ظل هذه التوازنات الدقيقة تدخلت أمريكا لوقف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 استجابة للإنذار الروسي، كما سحب الاتحاد السوفيتي صواريخه من كوبا عام 1961 استجابة للتهديد الأمريكي.
والآن لم يعد الهدف من تكوين الأحلاف الأمريكية تطويق الاتحاد السوفيتي؛ وإنما أصبح الهدف هو شن الحرب على الأعداء الجدد الذين تطلق عليهم: "محور الشر". ولما كان بوش الابن قد أعلن في مفتتح حملته على أفغانستان في أكتوبر 2001 أنه بصدد حملة صليبية قد تستغرق نحو عشر سنوات؛ فإننا لا نجافي الحقيقة إذا قررنا أن هذه الحرب هي حرب بين الإسلام والكفر. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن تستقطب أمريكا في هذا التحالف الجديد القوى المناوئة للإسلام. نعم من بين هذه الدول ذات الماضي الاستعماري والخلفية الصليبية من ساهم في غزو أفغانستان، وأحجم عن المساهمة في احتلال العراق؛ مثل ألمانيا وفرنسا، إنما كان ذلك لاعتبارات عملية، ثم عادت هاتان الدولتان في عهد ميركل وساركوزي للانضمام بقوة للحلف الأمريكي. وهناك دول لم تكن لها عداوات تاريخية ولا ماضي استعماري في المنطقة ولكنها ظنت أن تبعيتها لأمريكا ستفيدها في تأمين احتياجاتها النفطية. والمثال الصارخ على ذلك اليابان فلم تكن لليابان خصومة تاريخية مع العالم الإسلامي، فإذا بها تنضم للحلف الأمريكي في احتلال العراق مع أن أمريكا هي التي ضربت اليابان بالقنابل الذرية في أغسطس 1945، والسبب أن اليابان تعتمد اعتمادا كليا على بترول العرب وظنت أن انضمامها للحلف الأمريكي سيضمن لها نصيبا في هذا البترول. وأما دول شرق أوروبا فقد وجدتها مناسبة لاستبدال تبعيتها لروسيا بتبعيتها لأمريكا وأرادت أن تثبت مدى إخلاصها في تلك التبعبة مثل أوكرانيا ورومانيا وبولونيا.
وأما في الحالة الصومالية، فإن قيام أثيوبيا بغزو الصومال بالوكالة عن أمريكا يرجع إلى أن لإثيوبيا أطماع قديمة في الصومال وفي منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعدما أصبحت دولة قارية بانسلاخ إريتريا، ووجدت في تلك الظروف فرصة لتحقيق أطماعها في الوصول إلى البحر عبر الأراضي الصومالية.
لقد وجدت أمريكا في انهيار النظام السوفيتي فرصة سانحة لتعميم نفوذها كقوة عظمى قبل ظهور قوى منافسة مثل أوروبا الموحدة أو الصين، واندفعت في هذا السبيل اندفاعا خطيرا تجاوز كل الحدود، وأوشك أن يقع بها في الهاوية لا حافتها، ومن حام حول الشيء وقع فيه.
في هذه المنطقة بالذات وجدت أمريكا نفسها في بحر من الرمال المتحركة يوشك أن يطم كل مشاريعها وأن يعفو على كل آثارها. لقد ظنت أمريكا أنها تستطيع أن تلعب على تناقضات المنطقة لتغذية الصراعات المحلية التي تقسمها وتفتتها حتى لا تكون من قوة سوى إسرائيل، وأعدت نموذجا لذلك في أفغانستان وفي العراق.
أما في أفغانستان فقد عقدت عدة مؤتمرات للمعارضة الأفغانية في روما واعتمدت بصفة خاصة على الأقليات القومية مثل الأوزبك والهزارة.
وأما في العراق فقد استغرق الأمر وقتا أطول وإعدادا أكبر؛ فقد جلبوا بضعة آلاف من العراقيين إلى الأردن، ومن هناك سفروهم إلى رومانيا لتدريبهم على عمليات التخريب. وتم إعداد مؤتمرات للمعارضة العراقية في أمريكا، وحين بدأت أمريكا حشودها في الكويت للهجوم منها على العراق أحضروا معهم بضع مئات من هؤلاء الأمريكان العراقيين فدخلوا مع القوات الأمريكية يوم دخلت بغداد. وبعد أن دخلت قوات الغزو العراق لحقها آلاف من العراقيين اليهود المتواجدين في فلسطين المحتلة أعدتهم إسرائيل لهذا الغرض وقد علمنا أنه دخل بغداد وحدها من هؤلاء الإسرائيليين العراقيين عشرة آلاف ناهيك عن المدن العراقية الأخرى.
وأما في لبنان، فإن المحاصصة الطائفية قائمة أصلا وما على أمريكا إلا استغلالها. ويعلم الجميع بالدور الأمريكي في العدوان على لبنان في الصيف الماضي، و يعلم أيضا شماعة الحريري التي استغلت لإبعاد القوات السورية بأسلحتها قبيل العدوان، تمهيدا له، ثم بعد فشل العدوان استخدمت نفس الذريعة لوضع لبنان تحت الوصاية بإقرار مجلس الأمن الدولي التابع لأمريكا فرض المحكمة الدولية على لبنان، ثم ها نحن نشاهد الآن موقعة مخيم نهر البارد غير البعيدة عن الأصابع الأمريكية من خلال أذنابها استكمالا لمخطط فرض الوصاية على لبنان.
وأما في فلسطين فإن فوز حماس في الانتخابات التشريعية حرك الخطط المبيتة لضربها وإفشالها بدءا بالحصار الاقتصدي ونهاية بتكليف دحلان وفريق من الخونة باغتيال القيادات الفلسطينية وتصفيتها. وكل ذلك بمساعدة النظام العربي الرسمي، وأيضا بمساعدة الأمم المتحدة التي أصبحت إحدى أدوات السياسة الأمريكية في العالم.
إن التحالفات التي أقامتها أمريكا لضرب المنطقة توشك أن تتداعى وتنفك بفضل المقاومة الشعبية الصلبة كأساس، ثم كعنصر مساعد بفضل وعي الشعوب في جميع أنحاء العالم بأن هذه السياسات العدوانية لن تجلب إلا الخراب للإنسانية. ومثل هذه التحالفات لاتقلقنا ولكن الأخطر منها هو استخدام الأوراق الداخلية من الخونة والأنظمة المتشبثة بالحكم على حراب الأجنبي وفي ظل سيفه وهذا هو وجه الخطورة. لقد بدأت شعوب المنطقة تدرك أن الصراع ليس صراع قوميات أو مذاهب أو طوائف كما تريد أمريكا أن تصوره أو تدفع إليه حتي تصطنع مبررا لوجودها. إنما الصراع الحقيقي هو بين غانم وعاشق؛ غانم مستفيد من الأجنبي بائع لوطنه من أجل حفنة دولارات أو عاشق محب لوطنه يذوب كمدا عليه، هذا هو لب الصراع الآن، وفي كل أوان.
أما أن أمريكا قد وقعت في بحر من الرمال المتحركة فلأنها أغفلت عنصرا مهما هو رد الفعل. نعم بوسعك أن تشعل حربا وقتما تختار لكن ليس بوسعك أن تطفئها وقتما تريد. هذا هو المأزق الأمريكي الآن؛ ففي العراق على سبيل المثال لاتستطيع أمريكا البقاء لتزايد خسائرها يوما بعد يوم، ولا تستطيع أيضا الانسحاب؛ ليس فقط لأنها لاتريد الاعتراف بالهزيمة؛ بل وأيضا لأنها أوقعت الفوضى في العراق ولا توجد في العراق الآن سلطة مركزية تستطيع أن تضمن لها الانسحاب دون خسائر أو بأقل قدر ممكن من الخسائر. وماذا ستفعل في المعدات الثقيلة التي جلبتها هل ستأخذها معها؟ وفي هذه الحالة هل ستتمكن من الانسحاب بها في وقت قصير أم سيطول عليها الأمد وتتضاعف الخسائر؟. وإذا تركتها هل يمكن لقواتها أن تنسحب هكذا وكأن دخول النار مثل الخروج منها؟، وهل ستترك المقاومة هذه الفرصة دون إبادتها إبادة كاملة فتكون أكبر وأبشع هزيمة في التاريخ؟. وما ينطبق على العراق ينطبق على أفغانستان، والغريب في الأمر أن الأمريكان شاهدوا من قريب نهاية الاتحاد السوفيتي إثر اندحاره في أفغانستان ولم يعتبروا والأعجب أن الإنجليز يشاركونهم نفس المغامرة وقد جربوا دخول أفغانستان مطلع القرن الماضي، وقُبر جنودهم هناك ولم يعد منهم إلا الشريد.
ومن هنا جاء في تقرير بيكر هاملتون ضرورة أن تجري الولايات المتحدة مفاوضات مع سورية وإيران بشأن العراق. وعن نفسي أعتقد أن مثل هذه المفاوضات خطأ استراتيجي بالغ من جانب سوريا أو إيران. أولا لأن أمريكا لم تستشر أحدا في احتلال العراق، وإذا أرادت أن تخرج من العراق فلتخرج كما دخلت ولا يعني لا إيران ولا سورية أن يخرج الأمريكان على ظهورهم أو على بطونهم. وثانيا أنه من مصلحتهما أن تُستنزف أمريكا في العراق حتى لا تعيد الكرة على الجيران، ولذلك؛ فإن من مصلحتهما مساعدة المقاومة العراقية. وجلوس الإيرانيين بالذات على مائدة المفاوضات مع الأمريكان بشأن العراق يعود بالسلب على مصداقيتهم في العالم الإسلامي خاصة بعد وقوفهم في صف المقاومة في فلسطين وفي لبنان، وقد يظهرهم بمظهر المساوم على العراق مع أن الاحتلال الأمريكي للعراق يضر أمعن الضرر بالمصالح القومية الإيرانية فالحدود بين البلدين طويلة (حوالي 1800 كيلو متر طولا)، ويمكن للأمريكان النفاذ منها لتجنيد العملاء والقيام بعمليات تخريبية داخل إيران، وهذا هو غاية المراد من رب العباد بالنسبة للأمريكان في إيران: إسقاط النظام الإيراني بأي وسيلة وإحداث الفوضى في إيران وتخريبه من الداخل حتى لا يكون نموذجا للمنطقة في التمرد على التبعية‘ وبذا ينضم طوعا أو كرها إلى منظومة الشرق الأوسط الجديد.
وهذا يقودنا إلى النقطة التالية: الفوضى، لقد أراد الأمريكان إحداث الفوضى في العراق وفي باقي المنطقة مثلما يحدث الآن في لبنان وفلسطين والسودان والصومال والبقية تأتي ظنا منهم أن هذه الفوضى ستؤدي مع انهيار الأنظمة إلى التفتت والتقسيم والتشرذم فتنقلب المنطقة إلى دويلات متناحرة تكون فيها إسرائيل هي الأكبر والأقوى وتسيطر أمريكا عن طريق الوكيل الإسرائيلي، وهذا هو لب مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إليه كوندوليزا رايس. باختصار نحن أمام سايكس بيكو جديد يخرج من رحم الغزو الحالي كما خرج سايكس بيكو الأصلي من رحم انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
لكن فات هؤلاء وأولئك أن الفوضى تخدم المنطقة في هذا التوقيت بالذات لأسباب أرجو أن أوضحها. إن نظام سايكس بيكو قد أوجد كيانات هشة قابلة للتفتت ومعروف أن الانقسام يؤدي إلى مزيد من الانقسام. وثانيا أن هذه الكيانات لم تقم على التصورات السياسية الإسلامية ولا على التصورات السياسية الغربية؛ وإنما على مجرد التقسيم المصطنع والقابل للانفجار بحكم ما حواه من قنابل موقوتة زرعت عن قصد لخلق أسباب التوتر مثل مشاكل الحدود بين هذه الكيانات.
هذه القنابل الموقوتة تألفت من عناصر سابقة لكنها لم تكن واضحة في الصورة الكلية أو على المستوى الماكروكوزمي؛ إنما ظهرت واضحة على المستوى الجزئي أي المستوى الميكروكوزمي. أولا على مستوى المثالية السياسية المسلمون أمة واحدة وجسد واحد والتجسيد السياسي لهذه الفكرة هي دولة الخلافة التي تعتبر نوعا من التعاهد أو الاتحاد الذي يجمع بين الأهداف المشتركة والمصالح العامة وبين التوزعات المحلية والتنوعات الإقليمية في نفس الوقت. لم يكن الخليفة في القاهرة أو في بغداد أو استانبول يحكم هذا العالم الواسع المترامي الأطراف إنما كانت هناك ولايات لها سلطات وفي نفس الوقت كانت هناك حكومة للاتحاد. في هذه الصورة الكلية توجد التنوعات الإقليمية والمذهبية لكن تأثيرها في المحيط العام يبقى محدودا، وإن ظل مؤثرا في وسطه الخاص، فالكل يعيش في إطار منطلقاته الذاتية من جهة، والمنضبطة بالتوجهات العامة للاتحاد من جهة ثانية.
لقد كان سقوط الخلافة بمثابة تتويج نهائي لمشروعات القوى الأجنبية الرامية إلى تحطيم العالم الإسلامي واقتسامه، وبداية الطريق كذلك لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ولقد ظل هذا حلما للقوى الأوروبية حتى أمكنها السيطرة على كثير من بلاد العالم الإسلامي، ثم إنهاء الخلافة بتفجيرها من الداخل. وقد التقت الصهيونية العالمية مع الاستعمار في الهدف؛ وها هو شعارها المرسوم على برتوكولات حكماء صهيون: أفعى متجهة برأسها إلى القدس مرورا باستانبول! وهل كان يمكن لها الوصول إلى القدس دون استانبول؟ ليس لاستانبول في ذاتها؛ ولكن لأنها عاصمة الخلافة؛ أي كان لابد أولا من القضاء على وحدة المسلمين. ورحم Q الشيخ مصطفى صبري – آخر شيخ إسلام في الدولة العثمانية – حين قال: "إن تركيا العثمانية التي كان الغربيون من أعداء الإسلام أسموها الرجل المريض كانت في الواقع تمثل الحق المريض، بعد أن مثلت الحق القوي قرونا، ثم أجهز عليها مندوب هؤلاء الأعداء الذي اختاروه من داخل تركيا؛ أعني مصطفى كمال، وخلق هذا المندوب باطلا مريضا مكان الحق المريض، وليسأل إخواني العرب عن قدر هذا الرجل المريض المكنى به عن تركيا القديمة – إن لم يعرفوه إلى الآن – إخوانهم الفلسطينيين".[1]
نحن إذن في ظل وضع شاذ يحتاج إلى سايكس بيكو جديدة تهدم القديمة، ثم ينشأ الاتحاد على أسس سليمة. هذا من جانب، وهناك جانب آخر لايقل أهمية هو أن النظام الرسمي العربي نظام مهتريء ولا قيمة له ولا مصلحة في استمراره سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي، وحتى تتأكد من هذه النقطة أنظر إلى جامعة الدول العربية وتخاذلها أمام أمريكا وإسرائيل لتدرك أنها ليست إلا صدى للوضع العربي المهتريء. إن الأنظمة السياسية إنما تستمد مشروعيتها من تحقيق الصالح العام كما تتصوره الجماعة‘ فكيف بك إذا كانت هذه الأنظمة وكيلا عن الأجنبي الطامع ومشاركا له في نهب ثروات المجتمع؟، هل تكون لها في هذه الحالة أي شرعية؟ وهي لا تستمر إلا بالإكراه ولا يمكن أن تقوم بانتخابات حرة لأنها لن تنجح إلا بالتزوير. لقد أصبحت تلك الحكومات العقبة الرئيسية في سبيل التقدم وسواء أسقطت بضغط داخلي أو نتيجة الخضوع المتنامي للضغط الخارجي فالنتيجة واحدة.
نعم الفوضى التي يعملون لها تعني الهدم، والهدم يكون ضروريا لإعادة البناء إذا كان الأساس ضعيفا، وهذا هو الوضع الآن الأساس غير سليم والمطلوب بناء جديد على أساس متين. نعم نحن على يقين تام بأنه ليس من طريق أمام هذه الأمة إلا المقاومة، ولكننا لانسى أن الحكومات القائمة حاليا – باستثناءات قليلة – ليست إلا ظلا للأجنبي الغاصب ورحيل أحدهما يعني رحيل الآخر بالتبعية والصراع ضدهما معا أمر مفروغ منه وتشهد بذلك تجاربنا القريبة والبعيدة منذ الحملات الصليبية الأولى وحتى اليوم؛ ومن هنا كان استبشارنا بهذه الهجمة الاستعمارية الجديدة رغم كل ما فيها من آلام فمن رحم الألم والكفاح يأتي النصر بإذن الله.
ولمزيد من الإيضاح، نذكر القاريء الكريم بأنه رغم كل المخططات الصهيونية للسيطرة على المنطقة، فإن الإسلام قد أثبت دوما حيويته الفائقة وانبثاقه من حيث لا يتوقعون، وإذا كانت مكة والحجاز هي قلب العالم الإسلامي و قد أضعفوه، ثم سيطروا على المنطقة المحيطة بالقلب أي أجزاء من الصدر في فلسطين والعراق، وغيرهما، فإن حيوية الإسلام الفائقة، سوف تدفع الأطراف المحيطة بالصدر في تركيا وإيران وباكستان إلى ضخ الدم إلى القلب، خلاف المعتاد وهو انسياب الدم من القلب إلى باقي الأجزاء. ذلك لأن الجسد الإسلامي واحد، كما جاء في الحديث الشريف، فسقوط بغداد – حاضرة الخلافة بيد التتار في الماضي لم يمنع من تكسر موجة التتار في فلسطين والشام، وانتقال الخلافة إلى القاهرة، بل وإسلام التتار أنفسهم في النهاية. وسقوط الأندلس في غرب العالم الإسلامي وغرب أوروبا واكبه نهضة الدولة العثمانية شرق العالم الإسلامي وشرق أوروبا. وسقوط بغداد اليوم سيكون مقدمة لنهضة جديدة وروح جديدة، ولن يستطيع الاحتلال أن يثبت فيها إلا قليلا؛ ريثما تستعيد أنفاسها؛ بل لعله يكون محركا للوحدة والاتحاد والتضامن، فإن الخطر المشترك من أقوى حوافز التضامن، وإن الحرب السافرة على الشخصية القومية ليست إلا دافعا لتماسك هذه الشخصية وزيادة صلابتها، فإن من مقتضيات الحكمة الإلهية أن تكون المواجهة مقرونة بالتحدي؛ وأن تكون التجارب الأليمة هي التي تصهر الأفراد والشعوب لتخرج من المحنة أقوى مما كانت.
ثم ها هنا فائدة أخرى من بركات هذه الحملة الأمريكية، أو إن شئت الدقة الحملة الصهيونية، فإن الصهيونية هي التي تسوق وراءها أمريكا – لتحقيق مطامحها، وهذه الفائدة هي عودة الاستعمار المباشر مرة أخرى بعد أن كانت قد طُويت صفحته.
"فأمريكا، منذ بدأت تجد في نفسها القوة للخروج إلى ما وراء حدودها الوطنية لانتزاع ممتلكات الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، بدءا بمستعمرات أسبانيا في أمريكا اللاتينية والكاريبي والباسفيكي، فعلت ذلك تحت راية تحرير الشعوب، والقضاء على الاستعمار. وهو الشعار نفسه الذي تلفعت برايته بعد الحرب العالمية الثانية عندما أخذت على عاتقها إنهاء بقايا الوجود الإمبراطوري لحلفائها في تلك الحرب من خلال منظمة الأمم المتحدة تحت اسم إنهاء الاستعمار. ووراء تلك الخيرية المطلقة والرغبة اللاعجة في القيام برسالة حمل مشعل الحرية إلى كل الشعوب، تسترت رغبة أمريكا العارمة في القضاء على كل القوى الاستعمارية في العالم للحلول محلها، وبالحلول محلها، اتخاذ وضع القوة الأعظم والأوحد المديرة لكل مكان على وجه البسيطة. وفي ذلك كما في غيره، كانت أمريكا بلد التجديد والجدّة، إذ أنها، في حلولها محل القوى الإمبراطورية القديمة، لم تلجأ إلى أسلوب الحكم الاستعماري القديم القائم على احتلال أراضي المستعمرات بقوات البلد المستعمِر، بل لجأت إلى أسلوب (لم يكن جديدا تماما في الواقع، بل جديدا على النمط الاستعماري الحديث فقط، إذ أنه أسلوب سبق أن ابتدعته وطبقته قديما الإمبراطورية الرومانية) هو حكم المستعمرات بالتحكم البعيد عن طريق الجيوش الوطنية لتلك المستعمرات ونظم الحكم العسكرية القائمة على أساس التبعية الكاملة لواشنطن، وهو أسلوب دعمته أمريكا وأسبغت عليه المشروعية الدولية عن طريق امتلاكها لمنظمة الأمم المتحدة.
"وبفضل أسلوب التحكم الاستعماري المبتكر هذا، بالتحكم البعيد، وبغير احتلال عسكري مباشر، بات بوسع الولايات المتحدة أن تدير لحساب مصالحها ومصالح حلفائها الإمبراطوريين القدامى الذين التحقوا بركبها المظفر كأتباع لها، عالما بأسره، إدارة محكمة وبراقة أعطيت واجهة وضيئة بحق أسميت بالشرعية الدولية، وحكم القانون الدولي، وإرادة المجتمع الدولي.
"وفي الحالات القليلة والنادرة التي اضطرت فيها الولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية السافرة للتأديب والترويض والإخضاع، فعلت ذلك:
1) بناء على طلب العناصر المسؤولة في البلد الهدف، كما في حالتي جرينادا وبنما (وكما في حالة الكويت سنة 1990، بناء على طلب من الكويت وبموافقة من جامعة الدول العربية).
2) وفي ظل ميثاق الأمم المتحدة أي في ظل الشرعية الدولية (باستثناء الحرب الأخيرة على العراق).
3) وصونا للقانون والنظام في العالم.
4) وتنفيذا لإرادة المجتمع الدولي.
5) وبقوة متحالفة مشتركة أسهمت في تشكيلها دائما حكومات البلدان المعنية بالمنطقة، صونا لحرية المنطقة كلها واستقرارها وأمنها".[2]
وهذا بالضبط ما كانت تنهجه روما القديمة، وتستوقفنا هنا كلمات المؤرخ الإنجليزي جيبون: "تمسك أباطرة الرومان بالحفاظ على حسن سمعة روما، وعملوا بكل وسيلة على إقامة علاقات الصداقة مع الأمم المتبربرة (لم يكن مصطلح "المتخلفة" أو مصطلح "النامية" قد اكتشفا بعد)، واجتهدوا في إقناع النوع البشري كله بأن سطوة روما التي ارتفعت بنفسها وتسامت على غواية الغزو، لم يحركها إلا حب روما للنظام والعدل؛ وبذلك أعلوا اسم روما لدى كل الأمم من أقصى المعمورة إلى أدناها، بل وجعلوا أشد الأمم المتبربرة شراسة تحتكم إلى روما، فيما ظل ينشب بين تلك الأمم من نزاعات، وجعلوا الحصول على حق المواطنة الرومانية شرفا يسعى إليه كل البشر. ويروي لنا المؤرخون الذين عاصروا مجد روما أنهم شاهدوا بأنفسهم سفراء وكبراء من أمم أخرى يبذلون كل مرتخصٍ وغالٍ مستميتين في الحصول على ذلك الشرف، فيخفقون ويحرمون من أن يصبحوا رعايا لروما. أما الرومان أنفسهم فقد أسكرهم مجد روما، وأدار رؤوسهم باعها الطويل، وانتفخت أوداجهم فخرا بقوتها التي لم يكن قد عاد في العالم من بات قادرا على التصدي لها، وبذلك سمحوا لأنفسهم بأن يملأ الاعتداد بالنفس أعطافهم ويغريهم بازدراء غيرهم من الأمم؛ بل ونسيان وجودها على ظهر الأرض أصلا؛ إذ هي ملقاة خارجا وراء أسوار جنة روما، سادرة في بربريتها واستقلالها. وهكذا أعطى الرومان أنفسهم الحق في الامتلاء يقينا، رويدا رويدا، بأن روما هي العالم، والعالم هو روما".[3]
"وذلك هو عين ما حدث للأمريكيين: انتفخت أوداجهم فخرا بقوة الولايات المتحدة التي لم يعد في العالم من يقدر على التصدي لها، ورويدا رويدا أعطوا أنفسهم الحق في الامتلاء بيقين مؤداه أن أمريكا هي العالم، وأن كل بلد عداها ليس كائنا أو لا حق له في أن يكون، إلا إسرائيل وبضعة بلدان توابع.
"وليس من المستغرب أن تكون قد تأصلت لدى الإنسان الأمريكي، في سياق كهذا، القناعة نفسها المنتشية بالذات التي ولدها التفوق والثراء والقوة لدى الإنسان الأوروبي، وأوضاع العالم عندما غزته واستولت على معظمه أوروبا أيام كانت تبني إمبراطوريتها، والتفوق الأمريكي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية وأوضاع العالم الذي اتجهت أمريكا، على عُباب ذلك التفوق، إلى فرض هيمنتها عليه وجعله شبه إقليم تابع لها خاضع لكل ما تمليه مصالحها مسَّير حسبما تقضي به طموحاتها ودوافعها. وإن كان الإنسان الأوروبي أقنع نفسه أيام كان آخذا في بناء إمبراطوريته بأنه إنسان أعلى، فإن قناعة الإنسان الأمريكي بعلوه، على عُباب اجتياح بلده لعالم بأكمله، وصلت إلى حد الغرور المميت الذي جعل ملوك فرنسا يعلنون قائلين: (قبل أن تضع المقصلة حدا لغرورهم) "أنا الدولة". والأخطر من ذلك أن الأمر لم يقتصر على قول الإنسان الأمريكي: "أنا العالم"، بل ذهب إلى ما وراء ذلك بكثير، على النحو الذي يتضح من قول جون كنيدي أكثر الرؤساء الأمريكيين ليبرالية: "يجب علينا نحن الأمريكيين، أن نذكِّر أنفسنا دائما بأن عمل Q على الأرض هو عملنا". (وهذا هو عين ما يقوله بوش الآن من أنه في عدوانه على العراق يؤدي مهمة إلهية، وينفذ مشيئة الرب).
"ومن ذلك الإيمان الديني العميق لدى الأمريكي بأنه هو العالم، وبأنه لا وجود أو لا ينبغي أن يكون وجود لأحد في العالم سواه، وبأنه وكيل Q على الأرض من حيث أن عمل Q على الأرض هو عمله. من ذلك الإيمان الراسخ خطوة قصيرة للغاية خطاها الأمريكيون منذ وقت طويل، إلى إيمان أشد رسوخا بأن إشباع حاجاتهم هم ، وتحقيق توقعاتهم هم التي يثيرها لديهم إيمانهم بأنهم هم العالم، وأنهم القائمون بعمل Q على الأرض، هما الواجب الأول والخير الأعظم والمطلق لكل البشر.
"وعلى الصعيد الأخلاقي، والأمريكيون شعب شديد التمسك بالأخلاقيات العليا والقيم الرفيعة دائم الوقوف على الأرض العالية، يؤكد ما ظلت أمريكا تتمتع به حتى الآن من رخاء وثراء وقوة وتفوق صواب الاعتقاد بأن كون المرء أمريكيا يجعله هو العالم، وبأن تحقيق الأمريكي مصالحه على حساب مصالح كل من عداه، وإشباعه رغباته، وفرضه سيادته على كل ركن من العالم، إنما هو ممارسة عملية لقيامه كأمريكي بما يتطلبه Q منه. فكما علَّم الفلاسفة الذرائعيون الأمريكيون بمنتهى الجدية، تبرهن الخبرة العملية المعاشة، كل يوم، يوما بعد يوم، على صواب ذلك الإيمان وصدقه؛ لأنه – كما علَّم الذرائعيون – يعمل بطريقة فعالة ويحقق لمن يؤمنون به كل ما يثيره لديهم من توقعات. أما على الصعيد الديني، فتماما كما علَّم الفلاسفة النفعيون في بريطانيا إبان فورة الانتشاء الأولى بالانقلاب الصناعي، أخذا عن الفلسفة الدينية للعهد القديم، يقوم ما تتمتع به أمريكا من رخاء وثراء وتفوق وقوة دليلا لا يدحض على أن Q ذاته يوافق الأمريكيين على إيمانهم بأنهم هم العالم، وبأنهم هم المكلفون بتنفيذ مشيئته والقيام بعمله على الأرض، ويكافئهم على ذلك بالرخاء والثراء والقوة.
"ولقد يكون ذلك الإيمان مُرضيا ومُشبعا للذات الأمريكية؛ بل وقد يكون مُبهرا ومقبولا لدى من ينسحرون بأمريكا ويعلقون عليها أمل بقائهم، إلا أنه يظل – رغم كل ذلك – إيمانا خَطِراً منطويا على مهالك ليس أقلها شأنا ما يعلمنا التاريخ إياه من أنه كلما وصل الإنسان إلى مثل هذه الدرجة من الانسحار بالذات والإيمان بأنه – لعلو قدره وسموه الذي يبرهن عليه تفوقه ونجاحه – يحق له أن يدعي أمام نفسه وأمام الآخرين بأنه يقوم بعمل Q على الأرض، أي أنه القائم بدور Q، ويحق له – بصفته هذه – أن يملي إرادته على الأرض كما يمليها Q، ويُسَّيِّر أمم الأرض تبعا لمشيئته، كما يسيرها Q، يكون ذلك الإنسان مسيرا ذاته إلى دماره المحقق.
"وفي حالة الأمريكيين بالذات، كان ذلك أشد الأمور طبيعية. فهم أمة درجت منذ ظهرت على الاعتقاد بأنها، في كل ما تفعل – حتى وإن كان ما تفعله جريمة إبادة جماعية لشعب بأكمله – تقف في صف Q وتنفذ رغباته. فالهنود الحمر، مثلا كانوا أشباه بشر، وأبالسة من أعماق الجحيم، وأعداءً للمسيح؛ ولذا فإن إبادتهم كانت عملا خيِّرا من أجل المسيح وضد الشيطان إبليس عليه لعنة Q. ودائما – بشكل لحوح مستمر ومتواصل – كان كل من استهدفته أمريكا شيطانا إبليسا أو من زبانية الشيطان إبليس. وبالتالي كان قتال أمريكا له عملا مقدسا من أعمال Q على الأرض".[4]
كانت هذه هي السياسة الاستعمارية الأمريكية المفضلة – التحكم عن بعد – ولكنها الآن منذ احتلال العراق، والتمهيد لهذا الاحتلال بحشد قواتها في الخليج، بدأت في حقبة استعمارية أخرى: الاستعمار المباشر بصورته التقليدية التي عرفناها في العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهذه الصورة العتيقة من صور الاستعمار لها بالنسبة لنا ميزة، هذه الميزة أنها ستحدد أطراف الصراع تحديدا واضحا، حيث سيكون صراعا بين الاستعمار وبين قوى التحرر الوطني، وفي الحقبة الماضية كان الصراع مستترا لأن الاستعمار لم يكن مباشرا. نعم من الطبيعي أن الاستعمار الأمريكي سينصب من يشاء من الحكام مثل ما نصَّب قرضاي في أفغانستان، ومثل ما سينَصِّب غيره في العراق؛ لكن هذا أمر واضح، مثلما كان الصراع – أيام الاستعمار المباشر – بين قوى التحرر الوطني من جهة والاستعمار وأعوانه من جهة أخرى.
لقد كان كثير من الناس عندنا مسحورون بأمريكا – بلد الحرية وحقوق الإنسان – يرون فيها الجنة الموعودة؛ وهاهو وجهها الحقيقي قد انكشف للجميع؛ وأي حقوق إنسان هذه التي تحرق وتدمر وتقتل الأطفال في فلسطين ولبنان، وأفغانستان والعراق والصومال حتى الآن، وقبلها فيتنام وكوريا واليابان، وأكثر من ذلك، ألم تعتقل السلطات الأمريكية عشرات المواطنين الأمريكيين، ومنهم قساوسة وعلماء حاصلين على جائزة نوبل، لأنهم نظموا التظاهرات في المدن الأمريكية احتجاجا على عدوانها على العراق، بل وأطلقت النار بالذخيرة الحية على المتظاهرين.
لقد جوبهت الحملة الصهيونية الأمريكية على العراق، بمعارضة شعبية عارمة في كافة دول العالم بما فيها أمريكا ذاتها؛ ذلك أن الشعوب قد أدركت بحسها الإنساني الفطري أن العالم مقبل على كوارث ونكبات لا يعلم مداها إلا Q، ذلك بفضل عقدة الغرور التي استحكمت في الإدارة الأمريكية الحالية، وخضوعها الكامل لتوجهات الصهيونية العالمية الرامية إلى السيطرة على العالم، وخاصة على قلب العالم – من النيل إلى الفرات. وهذا الحلم الجنوني يتطلب التفريغ الثقافي لشعوب هذه المنطقة بما يستلزمه ذلك من تغيير التقاليد والمعتقدات والأوضاع والنظم. ولما كان الإسلام هو الذي يقف حجر عثرة أمام هذا التغيير فينبغي تفريغ المنطقة منه أو تفريغ المسلمين من الإسلام، أو تصنيع إسلام جديد على المقاس الأمريكي، كما قيل في أسطورة بروقلس اليونانية، حين كان بروقلس هذا صاحب فندق صغير وكانت الأسِّرة في فندقه ذات مقاس خاص؛ فكان يتعين أن يقرط سيقان النزلاء، إن كانت أطول من السرير، أو مطها إن كانت أقصر.
إن العالم أوسع من أمريكا ومن إسرائيل ومن الصهيونية؛ اتساعا لا تستطيع معه هذه القوى – مهما أوتيت من مظاهر القوة، أن تتحكم فيه أو أن تستخدمه لمصالحها. لقد شهد التاريخ أحلاما إمبراطوية كبرى لم تلبث أن تلاشت، وتحطمت، قبل أن تستكمل ملامحها؛ وإلا فأين نابليون؟ وأين هتلر؟ وغيرهم وغيرهم. والمشكلة أن أحلام نابليون الجنونية قد كلفت العالم عشرات الآلاف من الأرواح، حتى قال قيصر روسيا: "هل كان نابليون غير حصان جامح أزعج أوروبا بصهيله". بينما كلفته مغامرات هتلر عدة ملايين من النفوس؛ وهذه المرة فإن جنون أمريكا سوف يكلف الإنسانية عشرات الملايين من الأرواح بفعل التقدم الهائل في أسلحة الدمار، قبل أن تصل والصهيونية معها إلى مصيرها المحتوم. ولكن الغرور قد يدفع المرء إلى ركوب المحال. ثم أنى لأمة بلا تاريخ أن تستفيد من عِبَر التاريخ، أو تقدر مواعظه؟.

يا ناطح الجبل العالي لتوهنه أشفق على الرأس لا على الجبل

"لقد تباينت مواقف الإنسان من عالمه تباينات عميقة من عصر إلى عصر؛ فاليونان – بعزوفهم عن التمادي في الكبرياء، وتورعهم عن الاعتداد الفائق بالنفس، ولإيمانهم بقوة القَدَر التي أعلاها فكرهم فوق قوة إلههم الأكبر زيوس نفسه، حاذروا دائما من الانجراف إلى اتخاذ أي موقف منطوٍ على الاجتراء والعجرفة في مواجهة الكون.
"ثم جاءت العصور الوسطى، فتمادت – في ظل المسيحية – في الخضوع والامتثال وجعلت تواضع الإنسان فضيلته الكبرى في عيني الخالق. وفي ظل ذلك الموقف، باتت المبادرة الإنسانية مكبوحة الجماح في كل المجالات، وأصبحت الأصالة مطلبا شبه مستحيل.
"ثم جاء عصر النهضة، فردَّ إلى الإنسان كبرياءه واعتداده بآدميته، لكنه تمادى في ذلك الاعتداد تماديا أفضى إلى الكوارث والفوضى.
"وإن كان عصر الإصلاح الديني والإصلاح المضاد قضيا على ما حققه عصر النهضة، فإن الفكر الحديث اتجه إلى إحياء الغرور الإنساني بقدر جعل الإنسان؛ وقد أوشك أن يصبح إلها على الأرض، يتأله على النحو الذي سبق ودعى إليه البراجماتي الإيطالي جيوفاني بابيني عندما حثَّ الإنسان على أن يحذو حذو Q.
"وذلك طموح ينطوي على خطر مهلك يمكننا تسميته بالعقوق الكوني، وهو ضرب من الافتقار إلى التقوى الحقيقية والورع يطلق الغرور الإنساني من قيود التواضع تجاه الخالق والكون، ويجعله يخطو خطوة أخرى على درب مفضية إلى نوع من الجنون الخطر هو الثَمَل بالقوة، وهو جنون يبدي الإنسان المعاصر استعدادا خاصا للإصابة به.
"وأنا، فيما يخصني، لا يراودني شك في أن ذلك الثَمَل بالقوة هو أفظع خطر يتهدد العالم في هذا العصر من حيث إنه مفضٍ في خاتمة المطاف إلى كارثة كبرى للعالم كله".[5]
وتأسيسا على ما سبق فلا أستبعد أن تقوم أمريكا بمغامرة عسكرية جديدة ضد سورية أو إيران رغم خسارتها المحققة في العراق، على طريقة المقامر الذي فقد كل شيء تقريبا فراهن على ما تبقى له على قاعدة إما أن أخسر كل شيء أو أكسب كل شيء، ولأن الثور الهائج يظل هائجا إلى أن يسقط صريعا في خاتمة المطاف، ولا ننسى أن الثَمَل بالقوة لم يكن وحده سبب اقتحام أمريكا لهذه المهالك بل ضاعف من تأثيره حالة الضعف الظاهر في العالم الإسلامي وجيوش الخونة والمنتفعين الذين زينوا للأمريكان سوء ما يفعلون، ولعل في هذا إيضاح لما قلته من أن الأمريكان دخلوا في بحر من الرمال المتحركة لن يخرجوا منه سالمين بإذن الله.



الجيزة في 03 جمادى الثانية 1428


[email protected]
------------------------------------------------------------------------
[1] مصطفى صبري – موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين – دار إحياء التراث العربي – بيروت – 1401ه ج 1 – ص 481.
[2] شفيق مقار – المسيحية والتوراة – بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط – رياض الريس للكتب والنشر – لندن/قبرص – 1992 – ص 410/411.
[3] Edward Gibbon, The Decline And Fall Of The Roman Empire, Edited by D.M.Low, Book Club Associates, London, 1960, p.10.
[4] شفيق مقار – المسيحية والتوراة – المرجع السابق – ص 413/415.
[5] Bertrand Russel, A History Of Western Philosophy, Unwin, London, 1979, pp. 781/782.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.