استعرضنا في حلقات سابقة عمل ومغامرات هرمان إيلتز في العالم العربي قبل أن يعيني سفيراً للولايات المتحدة في القاهرة بعد حرب أكتوبر وذلك عبر مناصبه السابقة في جدة وعدن وبغداد في فترة الخمسينيات من القرن الماضي. الحلقة السابقة كانت مهمة حيث روي بنفسه ملابسات إنشاء حلف بغداد ودور الولاياتالمتحدة في إنشائه والوعود الكثيرة التي قدمتها إلي العراق ولم تلتزم بها والأخطاء التي ارتكبتها في المنطقة الخ.. يتحدث إيلتز عن نقله من بغداد إلي واشنطن عام 1956 وتوليه شئون حلف بغداد الذي أصبح بعد الثورة العراقية وانسحاب العراق منه، يسمي باسم حلف السنتو واهتمام جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي الشديد بموضوع الاحلاف العسكرية في خضم التنافس بين موسكووواشنطن خلال الحرب الباردة وسعيه إلي تطويق الاتحاد السوفيتي بمجموعة من التحالفات العسكرية وخاصة في الشرق الأوسط، ولكن انسحاب العراق لم يحدث إلا عام 1958 بعد الثورة. يقول أيلتز أنه كان مجرد دبلوماسي صغير في ذلك الوقت إلا أنه عمل عن قرب مع وزير الخارجية دالاس الشخصية القوية ذات النفوذ الهائل في أمريكا في هذه الفترة، أي خلال عهد الرئيس إيزنهاور الذي ترك أمور السياسة الخارجية تقريباً دالاس لم يحضر دالاس - كما يقول إيلتز - أي من اجتماعات حلف بغداد ولكنه كان يفضل حضور اجتماعات حلف الناتو وكان يرسل لوي هندرسون من كبار الدبلوماسيين بالخارجية لحضور اجتماعات حلف بغداد. وفي كل اجتماع علي مستوي رؤساء ودول الحلف أو وزراء الخارجية فإنهم كانوا يشكون من ضعف التمثيل الأمريكي فالحلف في النهاية يعتمد علي مدي التأييد الأمريكي له ولن يستمر دون هذا التأييد. قرر دالاس عام 1958 فجأة أنه سيشارك شخصياً في اجتماع وزراء خارجية الحلف في أنقرة، وهو الأمر الذي جعل إيلتز يكون علي قرب منه خاصة وأنه كان يتولي رئاسة قسم حلف بغداد بالخارجية وعليه إعداد كل الأوراق والمستندات الخاصة بالاجتماع. سافر دالاس بطائرة الرئيس - وهو ما يوضح مدي نفوذه - التي كان يطلق عليها الأسم الكودي البقرة المقدسة ومعه وفد صغير من الخبراء. وخلال الرحلة كان يقوم بمناقشة أعضاء الوفد حول الاجتماع وطلبه من أيلتز أن يقوم بإعداد مشروع الخطاب الذي سيلقيه أمام المؤتمر. عرضت مسودة الخطاب علي دالاس وأخبره أحد كبار المسئولين بالخارجية أن دالاس راض جداً عن المشروع الذي أعده وهو ما جعل إيلتز يشعر بالسرور والرضا عن نفسه. وفجأة بعد عشرين دقيقة ظهرت مسودة جديدة للخطاب ليس بها أي كلمة مما كتبه بعدما قيل له أن دالاس راض عنه تماماً (يحدث ذلك في كل خارجيات العالم وغيرها بالطبع من المؤسسات وغالبية الدبلوماسيين مروراً بتجارب مشابهة). يعلق إيلتز فلسفياً علي هذا الموضوع قائلاً إنه كان في ذلك الوقت دبلوماسياً صغيراً حساساً أكثر من اللازم وعبر عن ضيقه لزملائه، ثم فوجئ بدالاس يحضر شخصياً إلي المكان الذي كان يجلس فيه بالطائرة ويقول له: أعرف أنك مستاء لبعض التعديلات التي أدخلتها علي الخطاب، ولكنني أود أعلامك أنني سررت من المشروع الذي اعددته، وأنني لا ألقي أي خطاب أدلي به دون أن أدخل تعديلات عليه لا تقل عن أثنتي عشرة مرة حتي الوصول إلي النص النهائي الذي ألقيه. أريد أن تلقي نظرة علي هذه التعديلات وتقول رأيك فيها طلب دالاس كذلك من أعضاء الوفد الآخرين أن يفعلوا نفس الشيء ويقولوا رأيهم. يضيف إيلتز أنه خلال الرحلة التي استغرقت 25 ساعة وتوقفت الطائرة عدة مرات للتزود بالوقود، شعر أنه كان جزءاً من مجموعة من كبار الدبلوماسيين يتم النظر في آرائهم بكل عناية ودقة بالرغم من أنه كان مجرد دبلوماسي صغير جداً. والأمر في رأيه يرجع إلي أن كل هؤلاء كبار الدبلوماسيين كانت معلوماتهم عن حلف بغداد قليلة جداً. ولذلك فإن اقتراحاته بالنسبة للفقرات التي تحذف وتلك التي تدخل علي الخطاب أخذت بكل جدية. ويصف هذه التجربة بأنها كانت مثيرة ومفيدة جداً له في نفس الوقت. تحدثت ببعض التفصيل عن هذا الموضوع لأنني أعتقد أن ذلك هو ما ينقصنا في التجربة الديمقراطية الحكومية المصرية. فصغار الموظفين يعتقدون أن رؤساءهم لا يفهمون أو يقدرون وأنهم أصحاب الخبرة التي يجب أن تسود، وفي نفس الوقت فإن الرؤساء يحتكمون في رأيهم ويعتقدون أنهم الوحيدون الذين يملكون الحكمة. النظام الأمريكي في التشاور بين الرئيس والمرؤوس هو من أفضل الأنظمة في رأيي، وهذا ما شاهدته بين الوفود الأمريكية في الكثير من المؤتمرات. وفي النهاية يصف أيلتز وزير الخارجية دالاس أنه رجل دقيق ومؤدب ولكن ليس دافئاً بالمرة في علاقاته، وهو وصف ذكره العديد من زملائه الذين عاصروه خلال أزمة إلغاء مساهمة الولايات في تمويل السد العالي أو خلال العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي علي مصر عام 1956، حيث قام شخصياً دون مشاورة أحد باتخاذ قرار سحب المساهمة الأمريكية في بناء السد مما أدي إلي انسحاب البنك الدولي من المشروع وتأميم مصر لقناة السويس. يروي إيلتز كيف أن الاجتماع في أنقرة كان طيباً. بعد العودة وهبوط طائرة دالاس والوفد في قاعدة أندروز الجوية بالقرب من واشنطون كانت الثلوج قد غمرت واشنطون كانت سيارة دالاس الرسمية في انتظاره هو وزوجته فيما كان بقية أعضاء الوفد في إنتظار حقائبهم ومحاولة العثور علي سيارات أجرة تقلهم إلي منازلهم. كان إيلتز يمشي علي الثلج حين مرت سيارة دالاس في الطريق الرئيسي المتجه إلي واشنطن، وبعد مرورها لمسافة قصيرة توقفت وخرج منها دالاس متجهاً نحو إيلتز قائلاً له: أود أن أشكرك علي كل ما فعلته خلال هذه الرحلة الناجحة تأثر إيلتز جداً بهذه اللفتة وبعد شهرين وجد اسمه علي قائمة الترقيات إلي درجة أعلي. هل من درس هنا؟ أعتقد أن مجرد كلمة متشكر تفعل الكثير ولن تكلف الرؤساء كثيراً وسيكون لها تأثير كبير علي معنويات المرؤسين. للأسف الاحظ أن كلمة متشكر قد اختفت تقريباً من تعاملاتنا في مصر.