عبد الله الحوراني تميزت ذكرى النكبة هذا العام في الساحة الفلسطينية بسخونة كبيرة شملت جميع الأراضي الفلسطينية، بما فيها المناطق العربية داخل الدولة الإسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك كان تعبير الشارع العربي عن موقفه من هذا اليوم، بارداً أو باهتاً، وربما كان منسياً. فلماذا كانت السخونة هنا، والبرودة هناك، مع أن ذكرى النكبة، والقضية الفلسطينية نفسها كانت دوماً، نقطة الاستقطاب والتجمع وربما الوحيدة التي يلتقي عندها العرب جميعاً . في الساحة الفلسطينية، جاءَت الذكرى والعملية التفاوضية تمر بأدق مراحلها وأحرجها. فمن جهة كشفت إسرائيل أوراقها كاملة، وأعلنت خرائطها وتصوراتها للتسوية النهائية. وهي تصورات لا تختلف عما اعتادت تسريبه في تصريحات متفرقة، سواءٌ من حيث نسبة الأراضي التي ستنسحب منها، من الضفة الغربية، والتي لا تتجاوز في حدها الأقصى نسبة ال 66%، أو من حيث تمسكها بالقدس موحدة وتحت سيادتها، أو من حيث الإبقاء على مستوطناتها جاثمة في مكانها وتحت سيادتها أيضاً. وأخيراً تأكيد رفضها لمبدأ عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم. وربما كان الجديد في الموقف الإسرائيلي أنه قُدِّم بشكل رسمي، وعلى طاولة المفاوضات، ولم يعد هناك مجال لتأويله، أو الرهان على إمكانية تغييره . والجانب الآخر الذي تكشف في هذه المرحلة التفاوضية، هو ضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني وتشتته إن لم نقل عجزه أمام التعنت الإسرائيلي، وانحياز الموقف الأمريكي الضاغط على الجانب الفلسطيني . في حين شكل عامل الوقت عنصر ضغط إضافي على الطرف الفلسطيني، عندما التزم بالتوصل إلى اتفاق إطار خلال أيار (مايو) الجاري، واتفاق نهائي في سبتمبر (أيلول) القادم، محدداً شهر سبتمبر أيضاً موعداً لإعلان دولته الفلسطينية، فبدا أمام الجانب الإسرائيلي مستعجلاً، أو متلهفاً على التوصل لاتفاق، وهو أمر لا تفوته إسرائيل دون ابتزاز، أو مقايضة قبولها بالدولة الفلسطينية، واعترافها بها، مقابل التنازل عن حقوق أساسية للشعب الفلسطيني تتقدم على الدولة من حيث الأهمية، وهي عودة اللاجئين وكامل الأراضي المحتلة بما فيها القدس العربية. في ظل هذا الوضع، العنكبوتي الذي التفت خيوطه حول رقبة الشعب الفلسطيني، بحيث تكاد تخنقه، وتلتهم حقوقه، جاءَت ذكرى النكبة لتشكل حافزاً له للرد على خطاب التسوية الإسرائيلي باللغة التي يفهمها، والتي يجب التعامل معه على أساسها. بل كان الرد الشعبي درساً بليغاً في كيفية التعامل مع الطرف الإسرائيلي وسلوكه. ورسالة واضحة للمفاوض الفلسطيني في معاني الصمود من جهة، وفيما يجب أن يرافق العملية التفاوضية من فعل، من جهة أخرى، إذا ما أردنا ألا يكون التفاوض على شروط الاستسلام فقط . وعلى الناحية الأخرى من خطوط الرابع من حزيران، حيث يقبع أهلنا في الجليل والمثلث والنقب مقهورين منبوذين في وطنهم، كان لسخونة التعبير عن ذكرى النكبة أسبابها الإضافية. ففضلاً عن الحقوق العامة التي تجمعهم مع شعبهم العربي الفلسطيني بوصفهم جزءً لا يتجزأ منه، فإن لهم حقوقاً قومية خاصة في الدولة التي حكمت عليهم الظروف أن يحملوا جنسيتها، تنتهكها هذه الدولة منذ اثنين وخمسين عاماً، وترفض مساواتهم بمواطنيها اليهود . بل إن ربع تعدادهم البالغ مليون عربي يعيش مهجراً في وطنه محروماً أيضاً من أرضه . وقد جاءَتهم ذكرى النكبة، التي تمثل للمفارقة العجيبة ذكرى قيام الدولة الإسرائيلية، بما يرافقها من مظاهر الاحتفال والفرح، لتستفز مشاعرهم الوطنية والقومية، فكان إحياؤهم لذكرى النكبة أكثر سخونة من الأعوام السابقة نظراً لاستمرار سياسة الاضطهاد القومي التي يتعرضون لها، في الوقت الذي لا تكف فيه إسرائيل عن ابتزاز العالم ومطالبته بالتكفير عن آثامه التي ارتكبها بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. بما تسميه الهولوكوست أوالمحرقة.أما في البلدان العربية، حيث مثّلت ذكرى النكبة دوماً مناسبة للتعبير عن مشاعر الغضب العربي تجاه اغتصاب الأرض العربية الفلسطينية، فقد مرت ذكرى النكبة هذا العام، كما مرت خلال السنوات الخمس الماضية دون أن تثير أياً من هذه المشاعر المعتادة، ودون إحياء هذه الذكرى ولو بالبيانات التي دأبت الحركة الشعبية العربية وقواها السياسية على إصدارها في هذه المناسبة . بحيث استسلمت هذه القوى لواقعها الضعيف من جهة، ولأكذوبة السلام التي خدرها حكامها وإعلامهم بها، ولما أشاعه الطرف الفلسطيني من أوهام أثناء تسويقه لعملية التسوية بأن قضية فلسطين قد حلت، أو هي في طريقها إلى الحل عبر المفاوضات . ولم تُجد في إيقاظها حتى الآن، كل الاستفزازات الإسرائيلية والأمريكية التي لم تتوقف عن إهانة تاريخنا وتراثنا، ومحاولاتها المستمرة لمصادرة مستقبلنا العربي، أو صياغته على هواها، ووفق منظورها. ورغم عجز ذكرى النكبة هذا العام عن إحداث التفاعل المطلوب والمعتاد على الصعيد العربي، إلا أن محصلة التحرك في الساحة الفلسطينية أعطت مؤشرات هامة على بداية الانتفاض على الواقع، ورفض الاستسلام له . إذ لم ينجح خطاب التسوية، الذي تراجعت مفرداته وتعبيراته، وهبط سقفه من الحديث عن الانسحاب الكامل إلى إعادة الانتشار، ومن إزالة الاستيطان إلى تجميده أو وقفه، في إلغاء الذاكرة الوطنية، أو صرف الجماهير عن التمسك بحقوقها الوطنية الثابتة، كما لم تنجح امتدادات هذا الخطاب المتدني لوسائل الإعلام، ولمناهج التربية التي اختصرت تاريخ الوطن وجغرافيته وصاغتها على مقاس عملية التسوية حتى قبل ان تكتمل هذه العملية ، في مصادرة وعي الأجيال الشابة، وصرفها عن قراءَة دروس الوطن قراءَة صحيحة، مما يعني أن الذاكرة الوطنية الفلسطينية لم تهتز . من هنا تبرز أهمية الحرص على خطاب النكبة وثوابته من أن يضيع ويسقط تحت ضربات الخطاب اليومي للتسوية، وسقفه المتدني . فمن يؤسس للمستقبل، لا يرهنه بشروط الحاضر فقط، ولا يقيده بها. ولا يقيمه على أساس التسليم بنتائج النكبة، وأحكامها الظالمة، وإنما يبقي أفقه مفتوحا ليستجيب لنداء الماضي من جهة، ويتجاوب مع العملية الكفاحية المتصلة مستقبلا من جهة أخرى . فالنكبة تصبح أقسى عندما يسلم أو يستسلم أصحابها لنتائجها . والاحتلال يظل أمرا غير شرعي ما لم يسلم أصحاب الأرض بذلك ويعترفون به . عندها يكتسب الاحتلال شرعيته ويفقدون هم حق المطالبة بإزالته فالحركة الصهيونية، والدولة الإسرائيلية من بعدها، ظلت تتمسك في أدبياتها بروايتها القائمة على الأسطورة حول حقها المزعوم في الأرض العربية. فمنذ ما قبل قيام الدولة الإسرائيلية، وإلى الآن . حتى وهي تفاوض على التسوية، لم تتنازل مرة واحدة، بالاعتراف لغيرها بأي حق في الأرض .وإذا كانت الذكرى الثانية والخمسين للنكبة، قد أعادت طرح المسألة الفلسطينية ببعدها الحقيقي، وعبأت الرأي العام الفلسطيني حولها، ولفتت نظر الرأي العام العربي والعالمي لها، فهي فرصة لان نبني عليها ونؤسس للمستقبل على أساسها، ونعيد التوازن لخطابنا ونهجنا السياسي . مستندين إلى الروح الجماهيرية العالية التي ولدتها ذكرى النكبة . فهل نمسكك بهذه الصحوة ؟ .