كشفت العملية الإجرامية التي وقعت في سيناء مساء الأحد الخامس من أغسطس الماضي عن ثلاث حقائق كنا نأمل أن تكون كافية لاستفزاز ما بقي من إرادة وطنية عند من بيدهم القرار لوضع تخطيط استراتيجي يضع نهاية حاسمة لمثل تلك العمليات. لكن للأسف لم يحدث شيء, حتي الآن علي هذا المستوي, وكل ما حدث هو عمليات وإجراءات تكتيكية حرصت علي تجنب أي اقتراب من جوهر الأزمة, التي إن استمرت دون معالجة, فإنها يمكن أن تجعل سيناء أرضا متنازعا عليها وليست جزءا أصيلا من الوطن المصري. الحقيقة الأولي التي كشفتها هذه الجريمة أن سيناء تحولت, ومنذ توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني (مارس 1979) إلي منطقة فراغ استراتيجي (عسكري أمني تنموي). فالمعاهدة اللعينة لم تفرض إخلاء سيناء من الجيش المصري باستثناء وجود رمزي ليست له أي قيمة دفاعية فقط, ولكنها أيضا حالت دون تعميرها وربطها بأرض الوادي. وبسبب السياسات الخاطئة للدولة البوليسية في عهد حسني مبارك التي أسرفت في استعمال أشد أنواع القسوة ضد المواطنين تحت راية أمن الدولة وحماية النظام جري ارتكاب جرائم وانتهاكات للحرمات ضد مواطني سيناء مما جعلهم في حالة استنفار عدائي ضد أجهزة الدولة. بسبب كل هذه الأخطاء, وبسبب الغياب الأمني بعد تفجر ثورة 25 يناير 2011 الذي أدي إلي فتح سيناء أمام تهريب كل أنواع الأسلحة ودخول قياديين من المنظمات الجهادية المتطرفة, تحولت سيناء إلي بيئة خصبة لأنشطة هذه الجماعات والمنظمات التي حرص بعضها علي أن يكون هدفه هو تحويل سيناء إلي جبهة مواجهة مع الكيان الصهيوني بعد أن تحولت الدولة إلي حليف استراتيجي لهذا الكيان طيلة العقود الماضية منذ توقيع معاهدة السلام, في حين حرص البعض الآخر علي تحويل سيناء إلي أفغانستان أخري للعمل ضد الدولة المصرية وأجهزتها لإسقاطها تحت دعوي إقامة إمارة إسلامية في مصر. أما الحقيقة الثانية فهي أن الوجود والنفوذ الإسرائيلي وعلي الأخص الاستخباراتي في سيناء أصبح قويا ومؤكدا علي عكس حال قدرة وكفاءة أجهزة الأمن والمخابرات المصرية. فالإسرائيليون عندما قبلوا الانسحاب من سيناء كانوا حريصين علي ألا يؤثر انسحابهم العسكري علي ما شيدوه من نفوذ خلال سنوات احتلالهم لسيناء. كما أدي تفريغ سيناء من القوات العسكرية المصرية وفقا لمعاهدة السلام مع إسرائيل إلي إضعاف التأثير المصري علي مجريات الأمور داخل سيناء, كما أتاح الفرص للإسرائيليين كي يعبثوا كيفما شاءوا مستغلين ما حصلوا عليه من تسهيلات للدخول إلي سيناء لتفعيل نفوذهم الذي كان لهم من قبل وتقويته, وبالأخص اختراق المنظمات الإرهابية والأخري الجهادية التي بدأت تنشط داخل سيناء. لقد حرص الإسرائيليون علي توظيف وجودهم ونفوذهم داخل سيناء لتحقيق أهداف قصيرة ومتوسطة الأمد وأخري طويلة الأمد. فعلي المدي القصير والمتوسط عمدوا جعل سيناء بؤرة توتر أمني نشط, واستغلوها إعلاميا للضغط علي الحكم في مصر إما لإجباره علي القبول بالتورط في شراكة أمنية لحماية الأمن الإسرائيلي, أو بقبول تمكين إسرائيل من القيام بالمهمة, أي التدخل العسكري المباشر في سيناء دون استئذان مصري تحت ستار محاربة الإرهاب. أما علي المستوي البعيد فما زال الهدف هو الاستعداد للعودة مجددا إلي سيناء. الحقيقة الثالثة والأهم فهي أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وعلي الأخص ملحقاتها الأمنية باتت تشكل خطرا وتهديدا للأمن الوطني المصري. فغياب الجيش المصري عن سيناء, وتفريغها من الوجود الشعبي المكثف وعدم ربطها عضويا بالوادي جعلها مهددة بالضياع في الوقت الذي مازالت فيه مطمعا إسرائيليا مؤكدا, علي نحو ما جاء علي لسان رئيس الأركان الإسرائيلي لوسائل الإعلام العبرية أنهم يستطيعون أن يعيدوا مصر إلي الوضع الذي كانت عليه بعد حرب عام 1967, أي العودة لاحتلال سيناء. الأمر ليس مجرد استنتاج بل هي رغبة صريحة ومؤكدة ففي أول يونيو عام 2011 نقل موقع نيوز وان الإسرائيلي أن بنيامين نيتانياهو حذر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في اتصال تليفوني بأن إسرائيل لم تعد تحتمل ما يحدث في مصر من فتح المعابر والانفلات الأمني في سيناء وأن كل الخيارات مفتوحة أمامها بما في ذلك إعادة احتلال سيناء. هذه الحقائق الثلاث تكشف عن حقيقة رابعة أكثر أهمية وأشد خطورة وهي أن مصر غائبة عن الجزء الأهم والأكثر حساسية من أرضها, وإذا استمر هذا الغياب طويلا فإن الخطر سوف يتضاعف, ولذلك نحن بحاجة الآن إلي استراتيجية أمنية مصرية جديدة تأخذ في اعتبارها أولوية التصدي للمخطط الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي الذي فرض نفسه منذ اللحظات الأولي لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 واستهدف حرمان مصر من استكمال انتصارها في تلك الحرب كما استهدف منعها من امتلاك أي قدرة وأي فرصة للعودة مجددا لتهديد إسرائيل أو الانتصار عليها. هذه الاستراتيجية جري تنفيذها عبر أربع سياسات تحدثنا عنها منذ أسبوعين وشملت إخضاع مصر لتبعية اقتصادية وعسكرية للولايات المتحدة, وفرض تطبيع علاقاتها مع إسرائيل, وإجبارها علي توقيع معاهدة للسلام فرضت علي جيشها الابتعاد عن ثلثي أراضي سيناء, وأخيرا اختراق المجتمع والدولة في مصر والوصول إلي رأس القرار السياسي الوطني للتحكم الكامل في الإرادة الوطنية المصرية. ونحن الآن في أشد الحاجة لمشروع وطني يسقط كل هذه السياسات التي استهدفت إسقاط مصر, شرط أن يكون واعيا بضرورة الربط بين الأمن والتنمية في سيناء. لكن ما جري اتخاذه من إجراءات وسياسات ردا علي الجريمة التي ارتكبت ضد القوة المصرية بالقرب من معبر رفح, سواء علي المستوي الأمني العسكري وخاصة سحب الدبابات والقوات التي دخلت إلي سيناء لمطاردة الإرهابيين, وتجديد سياسة المناورات العسكرية المشتركة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية, أو علي المستوي السياسي بتجديد الالتزام المصري بمعاهدة السلام مع الكيان الصهيوني, دون أي عزم علي إلغاء أو علي الأقل تعديل, ملحقاتها الأمنية شديدة الخطورة, أو علي المستوي الاقتصادي بالعودة مجددا إلي سياسة الاعتماد علي المعونات الاقتصادية الأمريكية يعد تجاهلا كاملا لكل الحقائق التي أكدتها تلك الجريمة, لا ندري لمصلحة من ولا مقابل ماذا, فضلا عن أنه تأكيد أننا لم نستوعب الدرس بعد. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس