منذ توقيع مصر علي معاهدة الذل والعار المعروفة إعلاميا باسم معاهدة كامب ديفيد وسياسيا باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في26 مارس1979 دأب الإعلام المصري الرسمي أولا ومن ورائه, فيما بعد كثير من الإعلام المصري الخاص( المملوك لكبار رجال الأعمال). ثانيا علي الترويج المكثف لهذه المعاهدة باعتبارها أهم مكسب استراتيجي لمصر في العصر الحديث. والمعروف, علميا وعمليا, أن الإعلام تابع للسياسة, وأن السياسة هي التي تحرك الإعلام, ومن ثم فإن المعاني التي حرص هذا الإعلام علي ترويجها بخصوص هذه الاتفاقية كانت ما يريد النظام السابق( نظام حسني مبارك, والأسبق( نظام أنور السادات الذي وقع هذه الاتفاقية) الترويج له لفرض هذه الاتفاقية علي المصريين, وتحويلها من مكسب كبير إلي قدر لا فكاك منه. كان من أبرز تلك المكاسب الكاذبة أن سيناء عادت كاملة غير منقوصة السيادة إلي مصر, وأنها ستحقق لمصر الرخاء, حيث جري الربط بين الرخاء والسلام مع إسرائيل, وكان هذا شرطا أمريكيا للمصريين: إذا أردتم الرخاء( المساعدات الأمريكية) فعليكم بالسلام( توقيع المعاهدة مع إسرائيل). وإلي جانب هذين المكسبين الكبيرين جري الترويج لمكاسب أخري فرعية لتبرير التوقيع المصري علي المعاهدة, ولإكمال تدمير ما تبقي لدي المصريين من قدرات علي الصمود وبالذات قدرات الوعي والولاء الوطني والقومي. وبعد مرور32 عاما من التوقيع علي تلك المعاهدة, وبالتحديد بعد سقوط نظام حسني مبارك تكشفت كل الحقائق التي ظل ذلك النظام يقاتل من أجل إخفائها عن الشعب. تكشف أن سيناء لم تعد كاملة لنا كما ظل الإعلام المصري يتغني سيناء عادت كاملة لنا. لقد عادت كاملة ظاهريا, لكنها فعليا لم تعد. فالجيش المصري ممنوع من أن يقترب من حدودنا الدولية لمسافة تزيد عن200 كم, حيث جري تقسيم سيناء إلي ثلاثة قطاعات هي القطاع أ وهو القطاع الملاصق لقناة السويس ويوجد به22 ألف جندي وضابط مصري بأسلحة دفاعية فقط دون مطارات عسكرية أو قواعد صواريخ, ثم القطاع ب( القطاع الأوسط) ويوجد به4 آلاف جندي وضابط من سلاح حرس الحدود, ثم القطاع ج المحاذي للحدود مع فلسطينالمحتلة ويوجد به قوات أمن مركزي فقط بأعداد منصوص عليها في المعاهدة, وتقوم قوات إنذار مبكر دولية( أغلبها أمريكية) بمراقبة حركة وتسلح القوات المصرية في القطاعات الثلاث للتأكد من الالتزام بالمعاهدة, وترفض إسرائيل أي طلب مصري بزيادة قوات الأمن أو حرس الحدود لمواجهة الاضطرابات الأمنية التي كانت تحدث في سيناء علي مدي تلك السنوات. وكان آخر تلك الاعتراضات يوم7 فبراير الماضي عندما طلبت الحكومة المصرية, قبيل سقوط نظام مبارك بأيام ثلاثة نشر قوات إضافية في سيناء لمواجهة الاضطرابات الأمنية هناك التي تزامنت مع أحداث الثورة ضد ذلك النظام, وكانت حجة الإسرائيليين وقتها أنهم لا يريدون خرق الالتزامات الواردة في معاهدة السلام. الملفت هنا أن إسرائيل عندما وافقت منذ أسبوع تقريبا علي إدخال بعض آلاف الجنود المصريين إلي سيناء بعد الأحداث الأخيرة وبالذات جريمة قتل ستة من الجنود المصريين كان ذلك لدوافع أمنية إسرائيلية حسب ما كشف إيهود بارك وزير الدفاع الذي قال علي موقع إذاعة الجيش الإسرائيلي أن حكومته ستسمح للمصريين بإدخال المروحيات والمركبات العسكرية المصفحة, دون الدبابات, وشدد علي أن إسرائيل لن تسمح لمصر بإدخال دبابات أخري إلي سيناء وزاد قائلا: انه في بعض الأحيان يجب تليين المواقف الإستراتيجية لمصلحة الاحتياجات الأمنية, ألا يعني هذا كله أن المعاهدة نزعت السيادة المصرية عن سيناء وأبقتها إسرائيلية؟. الأخطر من ذلك أن المعاهدة حولت مصر إلي قوة حماية إضافية للأمن الإسرائيلي بعد أن تحولت إلي أحد أهم مكونات هذا الأمن. فالمعاهدة لم تضمن فقط تحييد أكبر دولة عربية في الصراع مع إسرائيل ولكنها مأسست التعاون الأمني بين الجانبين المصري والإسرائيلي أيضا, وجعلت من مصر قوة حارسة للأمن الإسرائيلي, وفرضت تعاونا امنيا مشتركا حولت مصر من أهم دولة مواجهة مع إسرائيل إلي أحد أهم مكونات الأمن الإسرائيلي, وأعفت الجيش الإسرائيلي من مسئولية الأمن في الجبهة الجنوبية( مع مصر) وأعطته فرصة التفرغ للمهام الأمنية علي الجبهات الأخري ووفرت بذلك أموالا طائلة للإسرائيليين ناهيك عن المعني الأهم وهو أن تكون مصر مسئولة عن حماية الأمن الإسرائيلي وما تعنيه شراكة أمنية من هذا النوع من انحراف الدور والالتزامات المصرية العربية وبالذات نحو فلسطين بعد أن خرقت مصر اتفاقياتها العربية. واعترفت بإسرائيل كدولة ما يعني تخلي مصر عن التزاماتها نحو فلسطين. أما عن الرخاء الذي تحقق بالسلام فكان, أبرز فضائح نظام مبارك الذي حول السلام مع إسرائيل من سياسة إلي عقيدة. فقد انهار الاقتصاد المصري بعد أن اشترط الأمريكيون والإسرائيليون بيع القطاع العام المصري ليقدموا مساعداتهم ومعوناتهم, وكان الهدف هو الإجهاز النهائي علي قدرة مصر علي خوض حرب جديدة مع إسرائيل أولا, والأهم هو التأسيس لقطاع خاص يمكن اختراقه والوصول من خلاله إلي صلب القرار الوطني المصري وهذا ما حدث وما أكده رئيس الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق( الشاباك) آفي ديختر في محاضرته الشهيرة عام2008 عندما أكد علي أن وجود إسرائيل قوي في مصر, وأن هذا الوجود والنفوذ الإسرائيلي القوي في مصر يعتمد علي شركاء إسرائيل من رجال الأعمال المصريين ومن أصدقائها من الإعلاميين المصريين. وبسبب القوانين والقرارات الاقتصادية الفاسدة جري نهب الاقتصاد المصري علي يد قادة النظام وطبقة رجال الأعمال الجديدة التي تحولت إلي قوة داعمة للنظام وسياساته وتحالفاته, لكن الأهم أنها تحولت إلي شريكة له في النهب والفساد بعد أن جري اختراق رأس المال للسلطة وحدث التحالف الجهنمي بينهما, وأصبحت إسرائيل حارسة لهذا التحالف وشريكة فيه وضامنة له. لذلك كانت خسارتها فادحة بسقوط النظام المخلوع, وظل السؤال الذي يشغلهم في إسرائيل هو إلي أين تتجه مصر ما بعد مبارك؟ وكيف يمكن الإبقاء عليها شريكة وحليفة لإسرائيل؟ كثيرون يعتقدون أن جريمة الاعتداء علي الجنود المصريين التي وقعت منذ حوالي أسبوعين علي الحدود المصرية مع فلسطينالمحتلة كانت متعمدة من جانب الإسرائيليين ليس فقط لاختبار حقيقة نوايا القيادة المصرية الجديدة, ولكن لتجديد التزامات هذه القيادة بمعاهدة السلام من خلال خلق حالة فراغ أمني أو خطر أمني يستوجب أحد إجراءين: إما أن تتعهد القيادة المصرية الجديدة حماية الحدود مع إسرائيل, أي تتولي مصر مجددا مسئولية حماية أمن إسرائيل علي الجبهة المصرية ومن ثم تجديد الشراكة الأمنية السابقة, وإما أن تتدخل إسرائيل للقيام بالمهمة, أي دخول قوات إسرائيلية إلي الأراضي المصرية وقتما تشاء تحت ذريعة مطاردة إرهابيين. هذه النوايا الخطيرة ليست غريبة مقارنة بنوايا أغرب وأخطر سبق أن تحدث عنها مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق عقب توقيع معاهدة السلام مع مصر ردا علي انتقادات حادة من المعارضة تتهمه بالفريط بسيناء فكانت إجابته: أن الاحتفاظ بسيناء يحتاج إلي ثلاثة ملايين مهاجر يهودي, وعندما يتوفر لإسرائيل هذا العدد من المهاجرين, سوف نستعيد سيناء. هذه النوايا جددها مؤخرا وزير الخارجية الحالي افيجور ليبرمان الذي نقلت عنه برقية للسفارة الأمريكية في تل أبيب ونشرتها أحدث وثائق موقع ويكيليكس قوله للسفير الأمريكي الأسبق في تل أبيب عام2006 إمكانية حل مشكلة قطاع غزة من خلال ترسيم حدود القطاع بضم أراضي مصرية من سيناء إليه. نوايا خطيرة لكن لحسن الحظ أن الرد المصري علي جريمة الاعتداء علي الجنود المصريين كان قويا ووصل إلي بيت الداء عندما طالب المصريون بإلغاء المعاهدة في توجه إستراتيجي مصري جديد يقول أن مصر العدالة والحرية والكرامة والسيادة الوطنية لن تقبل أبدا أن تبقي أسيرة معاهدة ذل وهوان, لكن المهم هو من أين وكيف نبدأ المشوار الطويل لهذا التوجه الإستراتيجي؟ المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس