اسمح لي أن أبكي أولا قبل أن أكتب عن روايتك.. 'بيت النار', الذي هو بيت الثلج, الذي هو البيت الذي اضطر فتاك أن يطرح طفولته جانبا كي يصون كرامته. لقد بكيت قليلا. الآن أستطيع أن أتكلم بوضوح. أريد أن أحدثك يا قارئي العزيز عن رواية محمود الورداني' بيت النار', التي صدرت منذ شهور عن دار ميريت فخلبت لبي, وإن كنت أري أن ثلثها الأخير من قماشة فنية تختلف عن بقية العمل- لكنني أستبق الأحداث. لنبدأ من البداية. وقبل أن أبدأ حكاية الرواية, أنا مدين للقارئ- والكاتب أيضا- بحكاية قصيرة.. حكاية البكاء الذي هزني حين أمسكت بالقلم. وفي الإشارة إلي الصبي الصغير بطل الرواية بعض الشرح. لنكمل إذن: إنه طفل مصاب برجولة مبكرة, مات أبوه وتأخر صرف معاش أمه الأرملة, فقرر أن يعمل, وهو دون العاشرة, وبالتواطؤ مع أمه, ورغم إشفاقها ومعارضتها أحيانا, أمه التي يناديها باسمها: قمر, ويعشقها عشقا فيه من الأبوة أكثر مما فيه من الطفولة.. يعمل أولا في' بيت الثلج', أي يعمل موزعا في مصنع ثلج صغير, يحمل ألواح الثلج علي رأسه في وقدة الشمس الأبيبية ويصعد بها إلي البيوت ملفوفة في الخيش, ويتحالف الثلج والنار علي عمره الغض فتصيبه الحمي من أول يوم. لكنه يواصل. ومن بيت الثلج إلي بيت الحرف- مطبعة- إلي بيت النار. و'بيت النار' حرفيا هو الفرن الذي تسخن فيه إلي درجة تقارب التوهج المكواة الحديدية وأخواتها في دكان الكواء الذي عمل لديه الولد مصطفي بطل حكايتنا في أحد تلك الأصياف بين عامين دراسيين. عمل صبيا ثم تعلم الصنعة, وسرعان ما عشقها, أوعشق بالأصح إتقان العمل وذلك الفخر الذي يحسه- أو كان يحسه- العامل الصنايعي حين تخرج من تحت يده' الحتة' مطابقة لأصول الشغل. شيئ آخر تعلمه من عم عريان الكواء القبطي العجوز, الذي علمه الصنعة وعوضه عن حنان الأب: لقد علمه دون أن يتكلم أن الطيبة والحنان لا علاقة لهما بالدين. وماذا أيضا يعني بيت النار؟ إنه بيت التجربة. البيوت التي تنقل بينها صبيا, التي كانت تضيق مزيدا من الضيق كلما زاد الرزق ضيقا علي ضيق, والتي كانت تضم نماذج من البشر بلغ قبحها أحيانا مبلغا كان كفيلا بتشويه وجدان الطفل مصطفي لولا الحب الصافي الذي جمعه بأمه بالذات وشمل أيضا أخته. بيت النار هو أيضا المعتقل, الذي هو في الرواية آخر مطاف تنقل البطل بين بيوت التجربة, لقد صار أكثر صلابة وحزنا الآن, لكنه لم يفقد تفاؤله الذي ورثه عن أمه. إن قمر-كما رسمها الورداني في روايته- هي مصدر تلك القوة الوديعة التي تملأ بطلنا. وبيت النار هو مجلة' صوت العروبة', الاسم الحامل بالوجع والسخرية الذي أطلقه الكاتب علي تجربته الأولي في دهاليز الصحافة موظفا وصحفيا وعامل بوفيه شاملا علي درجة مرمطون عام, كما يصف مصطفي طبيعة عمله في ذلك الإصدار المحتشد بكل أسباب نكسة1967, والذي تعلم فيه عن حقارة الحياة مقررا مكثفا لا يقل بحال عن صرخات التعذيب في المعتقل. لقد كبر مصطفي. انفطم من حضن أمه وصار يرضع الدخان. أكدت تجربته في' صوت العروبة' ميلا أصيلا لديه لاعتناق التوجه السياسي الراديكالي كعمل تطهيري بالأساس. اختفت قمر أو كادت من الرواية. صار ابنها مهموما بالوطن ومطاردا بالكلاب وهنا اسمحوا لي أن أتوقف, حتي تنتظم أنفاسي, وأستعيد عقلي التحليلي البليد. لا يذهبن بكم الظن أنها رواية مأساوية, مليئة بالمشاهد التي تجلب الدمع. علي الإطلاق, رغم أن الظروف تدعو إلي البكاء فقد صاغ الورداني الفصول الأولي بروح أسرة مكافحة مليئة بالتفاؤل والإصرار علي المتعة المتاحة حتي لو كانت صغيرة. كما أن هذا العمل هو في أحد جوانبه قصيدة حب للطبقة العاملة المصرية, وموروثها القديم, الذي اهتز للأسف في عقود التجريف والفساد, من حب للصنعة وفخر بإتقانها ومراعاة أصولها. وقد تفنن الورداني في وصف تلك الأصول, فأورد في نصه- مثلا- أصول تقطيع لوح الثلج دون أن يحدث به أي خدش أو تتطاير منه شظية, وصفها بلذة العامل العاشق لعمله. كذلك أدق أسرار صنعة كي الملابس, دون أن يفوت تفصيلة, قطعة قطعة من الأسهل للأصعب فالأصعب: القميص, فقميص النوم, فالبيجاما, فالفستان, فالبنطلون...... فالبدل التي لا يقدر عليها إلا الصنايعي الأوسطي. يسهب في وصف كل هذا إسهابا لا ينم عن خفة أو ميل للثرثرة, بل إحياء لتقاليد تكاد تندثر, ولذكري أولئك الذين كانوا يتفانون في عملهم بغض النظر عن العائد.