كنت في صحبة سطور روايته البديعة( بيت النار) طوال رحلتي.. ظل الكتاب بين يدي, لا يكاد يفارقني.. تلتهم عيناي سطوره في نشوة. وتشعر نفسي بالامتلاء والامتنان معا.. فما أروع أن تجد رواية تستحوذ علي اهتمامك بهذا القدر وسط كل تلك الأجواء الكئيبة التي نعيشها هذه الأيام. محمود الورداني يقدم بحق هدية ثمينة لقارئه.. هدية جديرة بالشكر والعرفان. نعيش هنا مع مصطفي بطل الرواية منذ أيام صباه الأولي وحتي صدر شبابه.. نتتبع معه رحلة حياته طوال خمسة عشر عاما كاملة( من عام1962 وحتي عام1977) ونتعرف علي كل تلك الأشغال البسيطة التي عمل بها حتي يساعد أمه( قمر) علي تدبير أمور حياة هذه الأسرة البسيطة.. حياة بائسة ومتقشفة يعيشها السواد الأعظم من المصريين.. يعمل كبائع ثلج ثم صبي في مطبعة ثم صبي كواء, ثم( كاشير) في محل عصير بلاظوغلي, وصحفي يتدرب في صحيفة كل همها( اقتناص) الإعلانات, وأخيرا يمر بمرحلة التجنيد حيث تكون مهمته صرف الإعانات, ويدخل في خضم تنظيم شيوعي ثم ينتهي به الأمر في أحد السجون السياسية في عهد السادات.. هل كان محمود الورداني يكتب سيرته الذاتية بشكل ما ؟ أما كان يؤرخ للأحوال المجتمعية والسياسية التي شهدتها مصر طوال خمسة عشر عاما؟ أم كان يعرض لحياة هذا الشاب المصري البسيط( مصطفي بطل الرواية) الذي ظل القهر والقمع متربصا به طوال سنوات حياته بأشكال وملابسات مختلفة.. شغلني السؤال كثيرا, واحترت في إجابته.. لكنني في كل الأحوال استمتعت بالعمل كثيرا, وظللت أتأمله طويلا وأعيد ترتيب أحداثه في مخيلتي المرة بعد الأخري, وفي كل مرة كنت أجد( ضوءا) جديدا يكسب الرواية بعدا وعمقا مختلفا, ومعه يزداد إعجابي بالرواية وبقدرة الكاتب علي سرد وقائعها ببساطة وعذوبة.. عشت بكل جوارحي مع مصطفي سنوات طفولته وصباه.. تعاطفت مع هذا الصبي الصغير الذي يحاول جاهدا أن يعاون أمه( المكافحة) في سد احتياجات البيت بقروشة القليلة المتواضعة, وأعجبت بهذا الرجل الصغير الذي يتحمل في دأب وشجاعة ظروف الأسرة الصعبة, التي ظلت تتنقل من حجرة إلي أخري ومن حي إلي آخر بعد وفاة الأب والزوج.. وكنت كلما عمل مصطفي في واحدة من هذه( الشغلانات) الصغيرة, يزداد تعاطفي وإعجابي به.. لطالما تمنيت له النجاح في دراسته كي يخرج من هذا النفق المظلم ويصبح طالبا جامعيا, يستطيع بعد تخرجه أن يلتحق بمهنة محترمة تليق بكفاحه واجتهاده هذا.. ولكن ماذا تفعل الأماني أمام واقع مؤلم وشرس لايعرف الرحمة! رافقت قصة حياته وتطور فصولها من مرحلة الطفولة والصبا إلي مرحلة الشباب, متغيرات سياسية عديدة شهدتها مصر كان لها تأثيرها البالغ علي وجدانه ووعيه.. أحداث ساخنة سعير لهيبها يشبه سعير لهب مكواة بيت النار الذي عمل به بطلنا وهو بعد لا يزال صبيا.. أي قساوة تلك؟ وأي مجتمع شرس هذا الذي( يكوي) أبناءه ويفتك بهم ويعصف بآمالهم وهم بعد في عمر الزهور؟! البطل الذي عاني الأمرين في طفولته.. عمل كي يكسب قوته وقوت عائلته.. اجتهد.. تعلم.. نال شهادته الجامعية.. انخرط في المجال السياسي بعدما ازداد وعيه وثقافته.. لكن كل ذلك لم يشفع له.. هاهو, يخرج صفر اليدين.. مهزوما.. القلب مكسور والنفس ضائعة وهائمة.. نهاية حزينة ومؤلمة.. يطول الحديث عن( بيت النار) وتطول القراءة المتأملة, وإن تمنيت أن يحمل كاتبنا الكبير قدرا من التفاؤل والأمل.. ولكن يبدو أن ذلك أمر عسير في أيامنا هذه.. صادرة عن دار ميريت.