كل شىء فى حياته كان مذهلا ومدهشا ، كل سطر فى مشواره الأدبى كان كذلك حتى وفاته نفسها جاءت لتكمل مسيرة طويلة من الكتابة ، مات الروائى والكاتب الكبير خيرى شلبى وهو يكتب ، ووفق رواية حفيده فقد استيقظ كاتبنا فجر الجمعة 9 سبتمبر واستعد لكتابة مقاله اليومى وفجأة سقط القلم وتراخت الأصابع ليرحل فى المكان الذى عاش من أجله وفى اللحظة التى كان يعيش من أجلها وهى لحظة الإبداع . رحل خيرى شلبى لكنه سيظل " وتد " الرواية العربية وفارسها الذى عاش حياته باحثا عن شخصياتها وأحداثها الغرائبية رحل بعد أن طاف قرى ونجوع مصر وجلس على مقاه وأرصفة ، وجعل حياته كلها تتحول إلى رواية طويلة ، فهو الطفل الفقير الذى نام على الارصفة .. وهو أيضاً الكاتب الذى ترشح لجائزة نوبل قبيل وفاته . هو الشاب الذى نام فى الاسطبلات وباع زهرة الغسيل فى الشوارع .. وهو الكاتب الحاصل على أرفع الجوائز بداية من جائزة الدولة التتقديرية وحتى وسام العلوم والفنون .. هو حدوتة مصرية معجون بالفلكلور الشعبى والابداع وقدم لنا أكتر من 70 كتاب . خيرى شلبى .. واحد من الكتاب العصاميين الذين لا يتكسبون سوى من الكتابة ..عاش حياة بائسة وفقيرة ولا يخجل من الاعتراف بذلك ففى طفولته كان مهددا بالطرد من المدرسة فى أى لحظة لعجزه عن دفع المصروفات ،أو شراء قميص جديد لذلك قرر العمل حيث كان يتحول فى أشهر الصيف إلى رجل كبير يشارك فى تطهير الترع والمصارف وشتل الأرز ، ونام فى الأسطبلات وعلى الأرصفة وأكل الخبز الناشف حتى أنهى دراسته الأبتدائية . الروائى خيرى شلبى هو صاحب رواية "الوتد " التى تحولت الى مسلسل تليفزيونى بطولة الفنانة هدى سلطان التى قدمت شخصية " فاطمة تعلبة " ، وهى تعتبر أهم عمل أدبى انتصر للمرأة المصرية واعترف بها كقائد يستحق الاحترام ويمتلك الحكمة والقدرة على إدارة الأمور حتى فى قلب مجتمعات لا تعترف سوى بالرجل ، وهو الحكاء الكبير الذى يمتلك قصصا متعددة عن أهل الأدب والفن والنغم والثقافة ،وكتب خيرى شلبى مقدمة ديوان الشاعر "أحمد شفيق " صاحب أغنية " أنت عمرى " وقال خيرى شلبى ان هذه الأغنية التى شدت بها أم كلثوم من أورع قصائد الحب الصوفى الخالص وان كلمات الأغنية (صالحت بيك أيامى.. سامحت بيك الزمن.. نسيتني بيك آلامى ونسيت معاك الشجن .. ) هى اجمل تعبير عن الحب ،وخيرى شلبى هو ابن جيل ظل يحلم بالثورة وينادى بها وكانت أعمال خيرى شلبى محرضة على الثورة دائما ، فهو يكتب دائما عن صبر المصريين على الفقر والظلم .. ويكتب عن اصحاب النفوذ والطغاة وعن " شماشرجية الفساد " فمثلا: رواية " زهرة الخشاش" عن فساد الشماشرجية أو الطبقة الحاكمة التى تنتشر مثل الجراثيم ،ورواية " وكالة عطية"، عرض لما يعانيه المصريون من قهر فى ظل ديكتاتورية دولة المخابرات بعد ثورة يوليو ،ولو كانت الروايات مثل الشعر يمكن حفظها وترديدها لكان الثوار فى ميدان التحرير رددوا فصول من كتب وروايات خيرى شلبى كما رددوا قصائد الابنودى واحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين . إن حياته نفسها كانت غارقة فى الواقعية السحرية فمن قرى محافظ كفر الشيخ شمال القاهرة جاء خيرى شلبى إلى الأسكندرية صبياً يبيع زهرة الغسيل والمشابك على المقاهى وفى الشوارع ، وعلى مقهى " المسيرى " الشهير بملتقى الأدباء جلس الصبى الصغير يروى السير الشعبية التى يحفظ منها مئات الأبيات ، وعلى الفور تناقل الأدباء حكاية الشاب الذى يحفظ الموروث الشعبى ووصلت حكاياته الى الأديب الكبير يحيى حقى رحمه الله فقام باستدعائه على الفور كى يعمل موظفا فى وزارة الارشاد قبل ان يصبح اسمها وزارة الثقافة . ووجد خيرى شلبى نفسه محاطا برعاية أهم كاتب فى مصر وهو يحيى حقى . ودارت الأيام واصبح الفتى ناقداً وكاتباً إذاعيا معروفا ، وبدأ نهر الرواية يتدفق فكتب خيرى شلبى لكن المناخ العام فى فترة الستينات لم يكن على هوى خيرى شلبى ، فالتنظيمات اليسارية تصنع كتاباً لمواقفهم السياسية وليس لموهبتهم الإبداعية فقرر خيرى شلبى أن يبتعد عن الحياة الثقافية تماما ، واختار الكتابة بين الموتى ، ففى إحدى الليالى تعطلت سيارته " الفولكس " القديمة بجوار مقابر البساتين بحى مصر القديمة وجلس كاتبنا ينتظر اصلاحها وطال الانتظار فأخرج الأوراق والقلم وراح يكتب جالسا على كرسى متواضع وأعجبه المكان وطلب من الأسطى الذى يقوم باصلاح السيارة شاياً وبكرم مصرى أصيل جاء الشاى وتمت اضاءة المكان حتى تليق بهذا الضيف الذى اتضح انه كاتب كبير ، ولم يستطع خيرى شلبى الاستغناء عن الكتبة فى هذا المكان فقام باستئجار مكان قريب من المقابر وجعله مكانا خاصا بالكتابة ، فكان يخرج فى الصباح ولا يعود إلى فى المساء وتدقفت الروايات والقصص والدراسات فى الادب الشعبى وفى أشعار فؤاد حداد وصلاح جاهين ، وشهدت مقابر البساتين والإمام الشافعى ولادة عشرات الأعمال الروائية لخيرى شلبى ، وفى فى فترة السبعينيات اهتم خيرى شلبى بالمسرح واكتشف من خلال البحث الدؤوب أكثر من مائتى مسرحية مطبوعة فى القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرينمن بينها نصا مسرحيا من تأليف الزعيم الوطني مصطفى كامل بعنوان (فتح الأندلس) وقام بتحقيقه ونشره في كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب ومسرحية من تأليف العلاَّمة الشيخ أمين الخولى بعنوان (الراهب) كما اهتم بالإذاعة ويعتبر من رواد النقد الإذاعى، ففى فترة من حياته أثناء عمله كاتبا بمجلة الإذاعة والتليفزيون تخصص فى النقد الإذاعى بوجهيه المسموع والمرئى وكان إسهامه مهما لأنه التزم الأسلوب العلمى فى التحليل والنقد بعيدا عن القفشات الصحفية والدردشة، فكان يكتب عن البرنامج الإذاعى كما يكتب عن الكتاب والفيلم السينمائى والديوان الشعرى. وفى الصحافة المصرية إبتدع لونا من الكتابة الأدبية كان موجودا من قبل فى الصحافة العالمية ولكنه أحياه وقدم فيه إسهاما كبيرا اشتهر به بين القراء، وهو فن البورتريه، حيث يرسم القلم صورة دقيقة لوجه من الوجوه وقدم فى فن البورتريه مائتين وخمسين شخصية من نجوم مصر فى جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والرياضية، على امتداد ثلاثة أجيال. لقد رحل خيرى شلبى عن عالمنا .. فى صباح اليوم الذى انتظره المصريون طويلا 9 سبتمبر والذى كان مقررا لتصحيح مسار ثورة 25 يناير ، واضاف بوفاته فى اليوم نفسه حدثا أكبر لن ينسى فى تاريخ الأدب العربى ،" عم خيرى "كما يناديه كل مثقفى مص لن يموت ابدا فرائحته تسكن حوارى وأزقه القاهرة وبالأخص " وكالة عطية "فهومن لف مصر كعب داير على قدميه و" لحس العتب " وعقله متفاعل مع كل شخصية مصرية يلقاها خاصة فى الحوارى والأزقه ليرصد أحوال وخبايا شخصيات "عم أحمد السماك " وصالح هيصة " حتى تجار المخدرات فى " نسف الأدمغه " والعائلات الفاسدة التى اختتم بها مسيرته فى " اسطاسطية " تلك الرواية التى وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2010 ولكنه لم يسع الى جائزة ابدا وكان يكتب لاشباع رغبته فى الكتابة والتنفيس عن حالات وخبرات كان قد ألتقطها من محيطه الواسع جدا والذى قد يصل شرق مصر بغربها فى عالمه الروائى الخاص والمميز . حصل على عشرات الجوائز منها : جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 1980- 1981. وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 – 1981. حاصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عن رواية وكالة عطية 2003. حاصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب 2005. رشحته مؤسسة "إمباسادورز" الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب.
من أعماله : (صهاريج اللؤلؤ، السنيورة ،الأوباش ، الوتد ، ثلاثية الأمالى الشطار موال البيات والنوم ، وكالة عطية ، صالح هيصة وفرعان من الصبار، بطن البقرة ، رحلات الطرشجى الحلوجى ، ثلاثية : أولنا ولد ، وثانينا الكومى ، وثالثنا الورق ، أسباب الكى بالنار، سارق الفرح ، لحس العتب صاحب السعادة اللص ، الدساس ، أشياء تخصنا " . وقدمت السينما فيلمين عن أعماله هما " الشطار " بطولة الفنانة نبيلة عبيد ، وفيلم " سارق الفرح " للفنانة لوسى ، كما قدم له التليفزيون المصرى مسلسل " الوتد " الذي كتب له هو السيناريو .