ماذا كانت استجابة علماء اللاهوت لأفكار الأسقف العلمانى الانجليكانى جون روبنسون؟ جواب هذا السؤال وارد فى كتاب صدر فى عام 1988 تحت عنوان حقيقة الله محرراً من ثمانية عشر لاهوتياً. واللافت للانتباه هنا أن الله وارد فى العنوانين بمعنى أنه محور علم اللاهوت العلمانى فى سياق ثقافة صاعدة هى الثقافة العلمانية الأمر الذى يشى بضرورة إعادة النظر فى مفهوم الله وما يلزم عنه من مفاهيم دينية يراد لها أن تكون متسقة مع تلك الثقافة التى بحكم نسبيتها تستلزم مشروعية التعددية الدينية، وهو أمر يمتنع معه أن يتوهم المؤمن المسيحى بأنه وحده المالك لحقيقة دينية مطلقة وهو فى معية مؤمنين آخرين بديانات أخرى، سواء كانت إلهية أو غير إلهية، وكلها لها تاريخ. ومن هنا يلزم أن يكون المؤمن على وعى بهذا التاريخ. ومغزى هذا اللزوم أن يكون مفهومنا عن الله متأثرا بما انتهى إليه عقل الانسان من معارف جديدة. إلا أن هذا التأثر لا يعنى التشكيك فى مفهوم الوحى، إنما يعنى إعادة تأويله فى سياق تلك المعارف المتراكمة عبر الزمان. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أننا فى حاجة إلى علم لاهوت جديد فى كل مرحلة تاريخية ولكن بشرط قبول التعددية الكامنة فى تعدد الأديان، ومن ثم قبول النسبية التى تشير إلى ما وراءها من مطلق، وبذلك يتوارى الصراع بين الأديان ويتوارى إقصاء كل دين للآخر، ويحل محله الحوار الناقد، وليس الحوار بلا نقد، ومن ثم ينتفى القلق من تجديد اللاهوت، وتتلاشى الفجوة التى أثارها الأسقف روبنسون فى تقديمه كتابه بين الايمان التقليدى بعالم ما فوق الطبيعة والمفاهيم التى تنطوى عليها علمانية هذا العصر. وروبنسون نفسه كان قلقاً من هذه الفجوة، خاصة أنه كان على وعى بأن الدعوة إلى تأسيس مجتمع مسيحى أصولى كان لازماً فى زمن كل من هتلر وستالين. وما أحدثه الأسقف روبنسون من دوى تكرر مع اللاهوتى الأمريكى هارفى كوكس عندما أصدر كتابه المعنون المدينة العلمانية، فى عام 1965، أى بعد عامين من صدور كتاب الأسقف روبنسون. وهو متأثر مثل روبنسون بالقس البروتستانتى بونهوفر فى قوله بأن الصدارة للإنسان فى الوضع القادم. وهو يرى أن هذه العبارة لن تكون صادمة إذا ميزنا بين مملكة الله والمدينة العلمانية. فمدينة الله هى بفعل الله وحده، أما المدينة العلمانية فهى من صنع الإنسان. ومدينة الله هى فوق التاريخ أو بالأدق هى فى قلب المؤمن والمدينة العلمانية هى فى التاريخ وفى العالم، ومن ثم تنعدم العلاقة بين مملكة الله والعلمانية. ومع ذلك فإن كوكس لا يرى هذا التمييز كافياً لإزالة الصدمة التى تثيرها عبارة بونهوفر، ومن ثم فإنه ينوه بأن الإنجيل لا يتحدث عن الله إنما يذكر اسم الله، والاسم يستلزم وضعه فى سياق تاريخى أو بالأدق فى سياق سياسى لأن العالم فى هذا الزمان مصبوغ بصبغة سياسية، ولذلك فإن الحديث عن الله هو أيضاً حديث سياسى. وتأسيساً على ذلك يميز كوكس بين الإنسان العلمانى والانسان ما قبل العلمانى. الإنسان ما قبل العلمانى يحيا فى عالم من الأرواح الخيرة والشريرة. والواقع عنده مشحون بقوة سحرية إما نافعة وإما ضارة. والسحر، هنا، هو رؤية كونية. فالأديان السومرية والبابلية ليست إلا شكلاً من أشكال السحر التى توحد بين الإنسان والكون. أما الإنسان العلمانى فقد نشأ مع بداية الديانة اليهودية حيث انفصلت الطبيعة عن الله، وانفصل الإنسان عن الطبيعة، ومن ثم انتفت الرؤية السحرية للطبيعة وهذا التحرر للطبيعة هو شرط أساسى لتطور العلم الطبيعى، بل شرط أساسى لنشأة الثقافة العلمية. ولهذا فإن استيراد التكنولوجيا ليس كافياً لإزالة التخلف من الثقافة، إذ من اللازم أن تكون الثقافة علمية. ومن هنا لا يحق لأحد أن يحكم بالحق الإلهى فى المجتمع العلمانى. أما المجتمع المحكوم مباشرة برموز دينية فإن التغير الاجتماعى والسياسى أمر محال، وبالتالى فإن هذا التغير يستلزم نفى القداسة عن السياسة لأن عدم نفى هذه القداسة يفضى إلى حدوث توتر بين الدين والنظام الاجتماعى. والجدير بالتنويه هنا أنه بعد عام واحد من صدور كتاب كوكس صدر كتاب آخر تحت عنوان حوار حول المدينة العلمانية، وقد جاء هذا الحوار متسقاً مع عبارة بونهوفر الصدارة للإنسان فى الوضع القادم وعبارة أخرى ملازمة لها مسيحية بلا دين. ومن هنا قيل عن كوكس إنه تلميذ بونهوفر. وفى سياق هذا الذى قيل يثير كوكس تساؤلاً على هيئة تحد:كيف يمكن لعلم اللاهوت أن يكون علماً لا علاقة له لا بالوضع القائم ولا بالوضع القادم؟ وإذا جاء الجواب بالنفى فإنه يستلزم عدم القول إن الله موجود هناك أو موجود فوق، كما يستلزم أيضاً القول إنه على اللاهوتيين الانفتاح على العالم العلمانى. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة