ديتريش بونهوفر قس بروتستانتى سجنه هتلر فى أثناء الحرب العالمية الثانية وأعدمه قبل نهايتها بشهر. وفى يوم الأحد من 3 أبريل 1965 ألقى أسقف وولش بانجلترا جون روبنسون موعظة بمناسبة مرور عشرين عاماً على موت بونهوفر، وكان عنوانها قديس العلمانيين. وقد يبدو هذا اللقب صادماً. فكيف يقال عن قس إنه قديس العلمانيين فى حين أن العلمانيين أنفسهم ينكرون القداسة؟ الرأى عندى أن هذا السؤال يشى بأن ثمة مصطلحات جديدة فى طريقها إلى الصعود مع بزوغ عصر جديد. وفى هذا السياق يمكن أن نفهم مغزى عبارة بونهوفر مسيحية بلا دين، أى نقد مقنَع للمؤسسة الكنسية التى تحرض المؤمنين على الانصياع للأوصياء ومن ثم على إبطال إعمال العقل. ومغزاها أيضا أن الانسان فى الطريق إلى أن يكون فى الصدارة فى الأزمنة المقبلة، وأنه سيكون كذلك بفضل العلمانية. ومن هنا قيل عن بونهوفر إنه يدعو إليها باسم المسيحية، بل يدعو إليها باعتبارها نتيجة حتمية للمسيحية. ومن هنا أيضاً يدعو بونهوفر إلى ممارسة المسيحية فى الحياة الدنيوية بلغة علمانية، باعتبار أن هذه اللغة هى لغة الحياة الدنيوية، وفى سياق بونهوفر سار كل من اللاهوتى الألمانى بول تليش، والأسقف الانجليكانى جون روبنسون. فقد طوَر تليش الأفكار اللاهوتية التى وُلدت فى ألمانيا فى زمن بونهوفر والتى كانت تدور حول الصراع بين التراث الدينى والعقل العلمانى الحديث والتى أفضت إلى قول تليش بأن الله موجود فى عمق الإنسان، وبالتالى فأنت تعرف الله عندما تكون على وعى بأن الله موجود فى عمقك. وعندئذ لن تكون ملحداً لأنك إذا قلت إنك ملحد فمعنى هذا القول إن الله ليس موجوداً فى عمق حياتك، ومن ثم يقال عن حياتك إنها جوفاء وضحلة. وفى هذا المعنى يتساوى المؤمن الرديء مع الملحد، ذلك أن هذا المؤمن الرديء هو مؤمن جبان لأنه يتوهم أن الله ليس موجوداً فى العمق بل فى مكان يتمكن فيه من رؤية الله وبعد ذلك يتوهم أيضاً بأنه استناداً إلى هذه الرؤية يمكنه التدليل على وجود الله. وفى هذا المعنى أيضاً يهز تليش الأسس الدينية التى ورثناها عن لاهوت رديء على نحو تعبيره فى كتابه المعنون هز الأسس (1949). والجدير بالتنويه هنا أن هذا الكتاب عبارة عن تجميع لعظات كان قد ألقاها فى كلية اللاهوت لا تقف عند حد ما هو نظرى بل تمتد إلى ما هو عملي. والمغزى هنا أن تليش يقف ضد القول الشائع بأن العظات هى فى النهاية بلا معني، بل هى تلزم أن نكون على الضد من هذا القول الشائع لأنها مؤسسة على لاهوت نظري. هذا عن تليش فماذا عن روبنسون ازاء موقفه من بونهوفر وتليش لنرى ما إذا كنا إزاء تيار يتكون أم إزاء أفراد فى حالة حوار ليس إلا. روبنسون فى كتابه المعنون لنكن أمناء لله (1963) يتفق مع كل من بونهوفر وتليش فى رفض فكرة أن الله موجود هناك أو فوق لأن هذه الفكرة تشى بأن الله هو الموجود الأعظم أو المهندس الأعظم الذى ينظر إلى العالم الذى خلقه ويرعاه من حيث هو يقيم هناك أو فوق ويجيب عن الأسئلة المثارة من قبل الإنسان، إلا أن هذه الأسئلة سرعان ما تتوارى مع تقدم العلم. ومن هنا يتفق روبنسون مع تليش فى أن نقول عن الله إنه فى عمق الانسان بدلاً من أن نقول عنه إنه فوق الإنسان، ومن هنا أيضاً يمكن حدوث تقارب بين المؤمن وغير المؤمن، وبالتالى يتحول علم اللاهوت إلى علم الإنسان ولكن بشرط أن يشير علم الإنسان إلى ما وراء لأن هذا الشرط يعنى أن الإنسان يتجاوز ذاته إلى غير ذاته الذى هو الآخر، ومن ثم يدخل فى سلام معه بحكم أن الله الذى هو فى العمق يؤلف بين الذات والآخر. وفى هذا السياق يمكن فهم عبارة الأسقف روبنسون: إن صورتنا عن الله يلزم إزالتها. وقد وردت هذه العبارة فى مقال له بصحيفة الأوبزرفر فى 17 أبريل 1963 قبل صدور كتابه المعنون «لنكن أمناء لله» بأيام قليلة، وفيه يقول بأن ثمة حاجة ملحة لنتشكك فى تصورنا التقليدى عن الله على أنه شخص يعلو على الطبيعة هذا إذا أردنا إنقاذ المسيحية. وقيل فى حينها إن الأسقف يهرطق، وأن عليه أن يستقيل، إلا أن الأسقف رفض الاستقالة وطالب بالإقالة ومع ذلك لم يجرؤ أحد على إقالته، بل نفدت الطبعة الأولى فى يوم صدورها، ثم صدرت فى الشهر نفسه أربع طبعات وبعدها خمس فى ذلك العام، ثم توالت الطبعات. وفى عام 1988 صدر كتاب عنوانه حقيقة الله بمناسبة مرور ربع قرن على صدور كتاب الأسقف روبنسون، وهو عبارة عن تعليقات من ثمانية عشر لاهوتياً. والسؤال إذن: ما المغزى؟. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة