ماذا حدث لأهل الفكر عندما استولي هتلر علي السلطة في30 يناير1933 بفضل صندوق الاقتراع؟ هاجر من ألمانيا إلي استراليا ما يربو علي سبعة آلاف من الأكاديميين وألف من الفنانين والصحفيين المتخصصين في المسائل الثقافية. , كما هاجر آخرون إلي أمستردام ولندن وباريس. وفي باريس تأسست جمعية الفنانين الألمان, وعصبة الفنانين الحرة, كما استقبلت بلجيكا وانجلترا وفرنسا وهولنده الأساتذة المفصولين من الجامعات الألمانية. والمفارقة هنا أن كمال أتاتورك, في ربيع عام1933, أعاد تنظيم جامعة استنبول حتي تكون تركيا جزءا من الغرب فانضم إلي هذه الجامعة علماء ألمان. وفي أكتوبر من ذلك العام منع هتلر علماء التحليل النفسي من المشاركة في مؤتمر علم النفس في ليبزج بدعوي أن التحليل النفسي علم يهودي فاضطر هؤلاء إلي الهجرة بحثا عن عمل في بلد آخر غير ألمانيا. والمفارقة هنا أيضا أن اثنين من العلماء امتنعا عن الهجرة وهما: اللاهوتي ديتريش بونهوفر والفزيائي فرنر هيزنبرج. وأكتفي في هذا المقال ببيان تحدي بونهوفر لهتلر ومصير هذا التحدي. والسؤال اذن: من هو ديتريش بونهوفر؟ وماهي أفكاره التي تحدي بها هتلر؟ وماذا كان مصيره؟ ولد اللاهوتي بونهوفر في4 فبراير1906. وكان أبوه أستاذ كرسي علم الأمراض العقلية بجامعة برلين. كان موجزا في أحاديثه إلا أن ما كان يقوله كان موضع تقدير وتنويه. وكان جده لأبيه رئيس مجلس الدولة. أما بونهوفر فقد نال درجة الدكتوراه في اللاهوت إلا أنه كان علي وعي بأفكار ماركس والحركة العمالية. ولهذا انطوت رسالته في جزء منها علي هذه الأفكار إلا أنه قد حذفها عند نشر الرسالة. وفي أول فبراير من عام1933, أي بعد يوم واحد من استيلاء هتلر علي السلطة أذاع بونهوفرحديثا مغايرا لآراء هتلر, وكانت هذه المغايرة صادمة إلي الحد الذي عنده تدخل الرقيب ومنع بونهوفر من مواصلة الحديث, إذ انطوي هذا الجزء من الحديث علي أفكار ثلاث: الفكرة الأولي تقف ضد ابتلاع هتلر للكنيسة لأن الكنيسة ليست لها علاقة بالدولة, إذ علاقتها محصورة في الله ليس إلا. والفكرة الثانية أن ادعاء هتلر بأنه راعي الشباب هو ادعاء مرفوض, لأنه قد نسف طموحاتهم. والفكرة الثالثة التي يدعو إليها هتلر وهي أن الألمان ينتمون إلي الجنس الآري, والجنس الآري هو أفضل الأجناس أو بالأدق الجنس المطلق, هي فكرة ممهدة لاضطهاد اليهود بدعوي أنهم لا ينتمون إلي الجنس الآري. ولا أدل علي مغزي هذه الفكرة من أن هتلر قد أصدر في7 أبريل من عام1933 قانونا يمنع اليهود من الانتفاع بقوانين الخدمات المدنية. وبناء عليه ألقي بونهوفر عظة في أحد الاجتماعات الدينية في عام1934 جاء فيها أن علي الكنيسة أن تسأل الدولة عن موقفها من المقهورين في النظام الاجتماعي سواء كانوا من المسيحيين أو من اليهود. واذا لم يصل إلي الكنيسة الرد الواضح فعليها أن تتخذ موقفا معارضا بل مقاوما. وقد توقع بونهوفر أن تؤازره الحركة المسيحية العالمية في هذا الموقف إلا أنه اكتشف أن هذه الحركة عاجزة. وهذا العجز, في رأيه, يخرج الحركة من الايمان, لأن الايمان الحق هو الايمان الذي يدفع المؤمن إلي الحياة في هذا العالم وليس إلي الحياة خارجه بشرط أن تكون هذه الحياة خالية من العنف علي نحو ما ارتأي غاندي. وبناء عليه فعندما سئل بونهوفر في عام1934: ماذا ستفعل إذا نشبت الحرب؟ كان جوابه: لن أحمل السلاح, بل سأدعو المسيحيين في ألمانيا إلي تقبل هزيمة الوطن حتي تتمكن الحضارة من مواصلة التقدم لأن الوطن في حالة الانتصار سيدفع الحضارة إلي الدمار فالانهيار. وقد يبدو أن هذا التصور خطر إلا أنه لازم عندما تكون الحضارة في خطر. وقريب من هذا المعني هذه العبارة التي وردت في كتابه المعنون رسائل من السجن: إن من طبيعة الأقوياء إثارة الأسئلة الحرجة وايجاد الأجوبة الواضحة, ومن طبيعة الضعفاء الاختيار بين بديلين ليس من صنعهما. وبناء علي هذه العبارة وعبارات أخري قال عنه الأسقف الانجليكاني جون روبنسون في الذكري العشرين لموته إنه قديس العلمانية. وفي5 ابريل1945 قبض علي بونهوفر بدعوي اشتراكه مع آخرين في مؤامرة ضد هتلر, إلا أن بونهوفر تميز عن هؤلاء الآخرين بأن هتلر هو الذي أصدر أمرا شخصيا باعدامه شنقا وعاريا. هذا عن بونهوفر فماذا عن هيزنبرج؟ الجواب في المقال المقبل. المزيد من مقالات مراد وهبة