إثر صدور كتاب لنكن أمناء لله فى عام 1963 لأسقف وولوش بانجلترا جون روبنسون، وإثر صدور كتاب «جدل حول كتاب لنكن أمناء لله» صدر كتاب ثالث عنوانه حقيقة الله فى عام 1988 لمحرره إريك جيمس مدير دار نشر الفعل المسيحى ومؤرخ حياة روبنسون وذلك بمناسبة مرور ربع قرن على كتاب روبنسون. والكتاب يحتوى على ردود أفعال اللاهوتيين الذين كانوا منشغلين بالجدل حول كتاب الأسقف. وأنا هنا أعرض لهذا الجدل فى سياق تحديد روبنسون لمساره الذهنى الجديد الذى كان قد اهتدى إليه إثر الجدل الذى حدث حول كتابه. والرأى عنده أن هذا المسار قد تحدد بالعلمانية ولكن بشرط النظر إليها على أنها رؤية جديدة للكون على نحو ما كان عصر النهضة رؤية جديدة مناقضة لرؤية العصور الوسطي. والسؤال بعد ذلك فى رأيه يلزم أن يكون الآتي: كيف يمكن للمسيحى العلمانى أن يفهم الإنجيل بأسلوب علماني؟ قديماً كان المسيحيون يتحدثون عن الله كما لو كان موجوداً مستقلاً عن الكون، وبالتالى مستقلاً عن أى موجودات أخري. ولكن بفضل العلمانية اضطرت الكنيسة إلى مراجعة العبارات اللاهوتية التى لاتشى بالأمانة لله، أى التى تتجاوز الخبرة الذاتية. والمعنى هنا أن الله معروف بمخلوقاته، وأن ثمة علاقة بين الانسان وهذه المخلوقات. وفى صياغة أخرى يمكن القول إن العلمانية ترفض القول بالرؤية الفائقة للطبيعة، ولكن هذا الرفض لا يعنى إنكار وجود الله لأن ما يعنينا هنا ليس الله على نحو ما هو موجود هناك أو فوق أو ما وراء، إنما ما يهمنا هو تحديد المعبِر عن الله، وهذا المعبر عنه لن يكون إلا فى العمق، وغير ذلك يعتبر من التصورات الساذجة. ومن هنا يلزم القول إن العلمانية لا تعنى انسحاب العقل من المجال الديني. صحيح أن ثمة تراجعاً للدين وللطقوس الدينية فى هذا الزمان الذى يتسم بأنه زمان المجتمع الصناعى وما بعد الصناعى إلا أن هذا التراجع لن يكون مردوداً إلى العلمانية بدعوى أنها ضد الدين. وفى نهاية المطاف يختتم روبنسون تعليقه على كل ما قيل ضده بأنه لم يكن يقصد من تأليف كتابه المعنون لنكن أمناء لله أية نكهة تبشيرية، إنما كان يقصد إجراء حوار بين الانسان المتدين والانسان العلماني. وهو فى هذا الحوار يقول إنه ملتزم بأن يكون مسيحياً كما أنه ملتزم بأن يكون علمانياً، وأن ليس ثمة تناقض فى أن يكون الاثنان معاً، اى يكون مسيحياً وعلمانياً فى آن واحد. وفى هذا السياق أنتقى السبعة عشر مقالاً من المنشورة فى كتاب حقيقة الله مقالاً لزوجة الأسقف روبنسون واسمها روث روبنسون وعنوانه مسألة ثقة. وقيمته تكمن فى بدايته التى جاءت على هيئة سؤال: ماذا تبقى من كتاب زوجها الأسقف؟ إنها تستند فى الجواب عن هذا السؤال إلى رؤية روبنسون الواردة فى تقديمه لكتابه وهى أن ثمة فجوة فى حالة تمدد بين التفكير التقليدى الأرثوذكسى الذى يدور حول أن الله فى السماء وبين المفاهيم المتداولة فى العالم الدنيوى فى هذا الزمان. وهو لا يعنى بذلك أن ثمة فجوة فى حالة تمدد بين المسيحية والمجتمع الوثني، إنما الذى يعنيه هو ما لاحظه من مفارقة هى على النحو الآتي: أن ثمة من غير المسيحيين من هم أقرب إلى المسيحية من المسيحيين أنفسهم وذلك بسبب رفضهم لأسلوب معين من التفكير لا يتسق مع روح العصر.ومع ذلك فالتفكير التقليدى مازال موضع ثقة، وأن التشكيك فى أمره من شأنه أن يكون مهدداً لهذه الثقة فى عالم محكوم بالفيزياء النووية التى تدور حول تفكيك الذرة الذى أفضى إلى وجود مكونات كهربائية أصغر منها، ومحكوم كذلك بنظرية النسبية التى تدور حول نسبية الزمان والمكان وحول اعتبار الزمان بُعداً رابعاً للمكان. والجدير بالتنويه هنا أن التشكيك فى هذه الثقة لم يكن وارداً إلا بعد نشر دارون لكتابه أصل الأنواع فى عام 1859 والذى أعلن فيه أنه من اللازم تحرر البشرية من التصور القائل إن العالم وُجد منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وتحررها كذلك من التفسير الحرفى لآيات الانجيل وبذلك تتوارى الدوجماطيقية. والسؤال اذن: ماذا يعنى لفظ دوجماطيقية؟ إن هذا اللفظ مشتق من الفعل اليونانى الذى يعنى يبدو أو يبدو أنه ملائم أو يفترض، وكلها معانى تعبر عن السمة المتغيرة للعبارات اللاهوتية. والمغزى أن هذه العبارات لا تعبر عن قنص حقيقة مطلقة بل تعبر عن خبرة إنسانية لرؤيتنا للكون بحيث يمكن تغييرها عندما تعجز عن أن تكون متسقة مع الخبرات الجديدة. وعندئذ نكون أمام تطور روحى وليس أمام تطور بيولوجى أو تطور معرفي. والمغزى هنا يكمن فى أننى عندما أقول أنا اعتقد كذا فهذا القول يتم فى سياق الثقة فيما أقول وليس فى اليقين مما أقول. التطور الروحى اذن يعنى أن نكون متسقين مع أنفسنا، وأن نكون على وعى بهذا الاتساق. وهنا تشير روث روبنسون إلى أنه من العبث الانشغال بما إذا كان الله موجوداً قبل أن يكون خالقاً للكون أو موجوداً وهو يخلق الكون لأن الألفاظ الواردة فى السؤال هى ألفاظ تعبر عن زمان ومكان ومن ثم فإنها لا تتسق مع طبيعة الله. ومن هنا يمكن القول إن هذا التطور الروحى هو بلا حدود. وأظن أن روث روبنسون فى سياق ما تقول إنما هى متأثرة بعالِم لاهوتى ومتفلسف هو بيير تيار دى شاردان. والسؤال اذن: مَنْ هو دى شاردان وما رؤيته للتطور الروحي؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة